نوسوسيال

قصة قصيرة بقلم :خليل عثمان/ الغجرية العرافة

711

 

 

كان يبدو عليه الشرود وتململ بضيق ملحوظ ، وقد طال جلوسه على المصطبة تحت شجرته الظليلة ، بدأ يراقب بيوت القرية المتناثرة ، وغاب نظره في أفق بعيد ، وتراءى له كل شيء صورا عابرة ، وظلال متراقصة في الهواء ، إلى أن بدأت الشمس تنحدر إلى الأرض ببطء ، والأفق يلتهب بنيران الأصيل ، إنه أوان حصاد الشعير في نهاية كل ربيع …! لقد هيمن على بدرخان دوامة العزلة والتشرد ، وهو يتوه في متاهات الدروب ، وأحاديث الآخرين عنه بسبب عزوفه عن الزواج ، لقد بقي شبح هذا الزواج في اعماق نفسه مستخفيا في مجاهل روحه ، وبدا له أن الذاكرة تأخذه إلى أيام خلت ، وكأن به ينسحق تحت وطأة الخيبة من جديد ، واذعن لهذه الآفة التي نغصت حياته فأصبح يتلهف شوقا للخلاص منها . في هذه اللحظة وقد أطرق طويلا في همومه حتى الثمالة ، تمر أمام عينيه غجرية《كانوا قد نصبوا خيمهم في الجهة الشرقية لقريته 》ولاحت كجنية ليلية خرجت من كهف الغيب . لم يتلكأ عن مناداتها …! كان مرهفا لسماعها رغم قناعته بأنه تنجيم ليس أكثر …؟ اقبلت إليه وجلست قبالته واخرجت اشيائها الغريبة : جمجمة خفاش ، قوقعة حلزون ، صدفات ، كرة زرقاء ، نواة تمور ، وأشياء أخرى غريبة ، ومعها ارتسمت بسمة ماكرة على شفتيها …؟ فهاهم ملوك الجن يطيعون أوامرها ، فأقبلوا يعرضون خدماتهم …! رفعت بصرها عن تلك الأشياء وتمعنت في عيني بدرخان قائلة : — قدرك يا ولدي هي ابنة خادم وضيع وعلى صدرها آثار دملة سوداء ، ستحاول قتلها ولن تستطيع ، وفي النهاية سوف تقترن بها رغما عنك ، إنني أرى بوضوح اسمها على جبينك …! لحظتها هبت الريح شديدا وعنيفا ، فتماسك قليلا وشعر بنفسه ترتد إليه ، احس ببرد مقيت يدب في أنحاء جسده ، وبدت قطرات من العرق على جبينه ، ثم أجتاحه غضب هائل ، وانطلق كالثور الهائج ، يصرخ في وجهها وهو يرمي لها قطعة نقدية ذات قيمة …! نظرت خلفها ، وبدت كالماجنة التي تنظر إلى عشيقها ثم ركضت على إيقاع صراخه ، فهالها ما رأت ، وأختفت عن الأنظار . أما بدرخان فبدا شارد الذهن إلى أن حل الظلام . ذهب إلى بيته دخل غرفة نومه ، أطفأ النور وسقط فوق فراشه وهو مذهول وعيناه تحدقان بالظلام الشاحب ، وأصبح كالخشبة الباردة لاحياة فيه ولا رمق . نقضت أيام الحزن الأولى ثقيلة مريرة إلى أن قرر الرحيل والبحث عن تلك الفتاة ابنة الخادم . استعد لرحلته ، حمل معه زوادته واحتياجاته والكثير من المال ، وامتطى حصانه وخرج قاصدا قدره المشؤوم ، وهو في قرارة نفسه يقول : — لماذا انتظر حتى وقوع المحظور …؟ — سوف ابحث عنها وإن وجدتها قمت بقتلها ، وسوف أبرهن للغجرية أن مصيري اكبر من دجلها . لقد خطت له العرافة بيد القدر ، وبينت له أن واحته التي علل النفس بالخلود إليها لم تكن إلا سرابا . بعد سيره عدة ايام ، أحس بالتعب يسري في جسمه ، إلى أن تناهى الى سمعه صوت رجل يسرح بماشيته في البراري ، وسمع خفق أقدام ، ثم لاح له ذلك الراعي العجوز . هنا طغت شجاعته على حذره ، فقفز إلى خاطره أن ينزل ضيفا على ذلك المسكين . ولكن رغم تململ الراعي ونصيحته له بأن يذهب إلى منزل كبير القرية ، فهيئته تدل على سمو مكانته …! لكن بدرخان همس لروحه قائلا : — لما لا يكون هذا الرجل ضالتي . فقد لمح بوادر الأسى في ملامح الراعي ، وكان يبدو بحال مزرية وثياب يرثى لها . — أيمكن ان تكون فتاته والتي خرج للبحث عنها ابنة هذا الرجل ؟ هنا ساد صمت قصير بغتة ، وانتهى الجدال بموافقة الراعي على أن يرافقه الضيف إلى منزله المزري بأطراف قرية لم يطأها قدما بدرخان من قبل . ولكن يبدو ان ظلال الأقدار تذوب عندما تنهار الأسرار ، وتلعب الصدفة في مصائر البشر . كان المساء يزحف حزينا عندما وصل الراعي مع ضيفه الى القرية ، بدا بيته أشبه بالجحور يغلفه اليأس ويتناثر على جنباته الحرمان ، وكل شيء فيه يوحي بالفقر . استقبلتهم زوجة الراعي ، واستغربت وجود هذا الرجل بحلته وهيبته مع زوجها ، فبدت مضطربة ، ووقعت فريسة حيرة شديدة لهذا الغريب ..! بعد تناولهم العشاء ، استلقى بدرخان على فراشه والسكينة تهبط على نفسه دون سبب ، فاستسلم لها بكل جوارحه وهو يعيد التفكير بلزوم سفرته هذه . وقبل أن يغفو تناهى إلى سمعه ذلك الأنين الصادر من ابنة الراعي المريضة في الحجرة المجاورة ، فأعتراه في صدره ضيق شديد ، وهو يهمس لنفسه : — أتكون هذه الفتاة هي من ابحث عنها … ؟ بدأ يشعر بأن جدران الغرفة تضيق حول وتكاد تخنقه ، وامتلأت عيناه بالظلام ، ولكنه عزم على أن يكمل صراعه الذي صمم على المضي به إلى النهاية . سأل مستضيفه باضطراب وقد تجرد من مخاوفه : — وماهي علتها …؟ رد الراعي في حرقة وأسى : — إنها كتلة من الورم على صدرها كانت الفتاة تنصت إلى حديثهم ، وبدأت تحس بضيق خانق ، دون أن تتمكن من التعبير عنها إلا بدموع صامتة . إنها ترى في احلامها كل ليلة وجها مبتسما فتهب طربة منجذبة إليه ، ولا تلبث بعد قليل أن تستيقظ فتشعر فراغ روحها ، كالسكير الذي يصحو من نشوته ، ثم تعود إلى آلامها من جديد . أما الراعي وزوجته فنال منهم التعب ، فلم يلبثا طويلا حتى أصبحا في سبات عميق . بعد مضي ساعة انهار صمت الليل ، عندما هب بدرخان وهو يحمل خنجره ويدخل غرفة الفتاة ، كانت العتمة تغمر كل شيء ، وصوت أنينها لا يزال طاغيا على المشهد المعتم ، فأجهز عليها دون أن يرى جسدها بوضوح …! صرخت ؛ وكاد صوتها يعم الآفاق ، وكأن بأثقال من حديد تقع عليها ، فولى الضيف هاربا وتوجه إلى حصانه وانطلق كالريح ، غاب في جوف الوادي ، حيث ابتلعته الظلمة الحالكة في طياتها . بعد ذلك ظهر بدرخان وهو يسير باتجاه موطنه ، شارد الذهن ، وفي قلبه بركان من الغضب ، ويغمره بسمة أمل بعدما قضى على ما كان يعكر صفو حياته . أصاب الراعي وزوجته كرب وإضطراب من صدمة ما حدث ، أنجلى عليهم الذعر عندما غرقوا في صوتها ، والجلبة والضجيج الذي طغى على سكون الليل ، ليجدوا بأن الضيف قد هرب وابنتهم تتألم و تنزف . أشعل الأب الفانوس ، كان غطائها ملطخا ببقعة كبيرة من الدم والقيح ، تفحصوا جسدها ، وتبين أن موقع الخنجر في منتصف الورم . ضمدوا جراحها ، وانتظروا حتى الصباح ليجدوا بأن الرجل قد نسي حقيبته المليئة بالمال بجانب فراشه . بعد بضعة ايام شاهد أهل القرية الراعي وعائلته يغادرون القرية بإتجاه المدينة ، ولأول مرة كانت قلوبهم ترتشف قطرات من النشوى ، تزداد وتنهمر كلما اقتربوا خطوة من مبتغاهم بعد أن اصبحوا يملكون الكثير من المال . كانت تلك الطعنة سببا في شفائها ، وبعد تلقيها العلاج في المدينة ، تغير حالها كثيرا ، فبدت أجمل مما كانت ، وكأنها ليست تلك الفتاة المريضة و البائسة . مكثوا في المدينة مدة ، وبعدها قرروا شراء كل ما يلزم من مستلزمات حياة الريف ، وتوجهوا برفقة الرعاة إلى البراري ليستقروا في أرض جديدة ، واصبحوا على هيئة مختلفة ، ينعمون بالحياة الكريمة والعيش الرغيد . لم يكن موطنهم الجديد بعيدا عن قرية بدرخان ، فسمع بهم و قام بإستضافتهم ، ولمح ابنتهم فوقعت في نفسه ، وقرر أن يطلبها للزواج . و بعد موافقة الجميع ، عمت الافراح والمسرات ليالي عدة ، إلى أن دخل العروسين خلوتهما ، وبدأ الفصل الأخير لقصتهم ، وذلك عندما لمح بدرخان تلك البقعة السوداء على صدرها ، فيستفسر عنها ويصر على معرفة اسبابها …؟ ثم حاول إهانتها ولكن دون جدوى ، فهو في تلك اللحظة لم يعد يحمل لها في قلبه الحقد رغم تلك الذكرى البغيضة التي تجمعهم . أما هي فقد صمتت …! ثم أقبلت عليه نائحة وهي تحدث قدرها ، وتفتح قلبها ، وتتدحرج الحقيقة من فمها بينما بسمة حزينة ترتسم على شفتيها رغم مرارة ما تفوه به عريسها ، وبدأت تلمح في عينيه الإصرار وشيئا آخر يتراقص أمامها لم تدركه ، ثم نظرت إليه بحزن وهي تحاول أن تستخرجه من صمته قائلة : — لست بأميرة ولا كنت يوما بمقامك ، ولكنني … ؟ وتوقفت عن الكلام . احس بدرخان بأن شيئا في اعماقه يتلوى ويعذبه بقسوة ، كما لو أن نداء غامضا مجهولا يدعوه إلى عمل شيء ما ، ولكنه كان مقيد بألف قيد و مضى في صمته وشروده . أما هي فاقتربت منه وألقت برأسها على صدره ، وفاضت دموعها على مقلتيها سخية صادقة ، وتمتمات متقطعة تخرج من فمها …! بينما أنسحب فلول القمر لحظتها ليغمر السواد كل شيء ، وليبدأ ظلام الليل في تلك الآفاق يخفي أسرار الحياة