نوسوسيال

من هو المحافظ “محمد غالب ميرزو” والمؤسس الفعلي للجيش السوري ؟!

932

تقديم حسن ظاظا

 

 

إنه محافظ الفرات المجهول، الذي يتم تجاهله وتغييب دوره عمداً من قبل بعض السوريين(*) عن نوايا عنصرية عند كتابة تاريخ سوريا، و المقالة التالية، المنقولة

حرفياً من الكتاب المعنون “شعبٌ و مدينة على الفرات الأوسط” لأسعد الفارس إبن مدينة البوكمال- منشورات دار الملاح- دمشق 1992. الصفحات 152 ـ 155 تكشف نوايا هؤلاء الكتاب:

على الرغم من كون عطوفة محافظ دير الزور عام 1945 من أهم الشخصيات التي عاصرت الأحداث، إلا أن غالب بك ميرزو يعتبر ضيف الشرف في هذا الكتاب. و سبب
الإضافة بحثٌ أعده بعض شباب المحافظة، و كلفني بالاطلاع عليه و نقده، و إذا به
يسيء إلى شخصية هذا الرجل الشهم النبيل الذي تسطر بحقه أنصع الصفحات البطولية. لم أجد كلمة موجزة أعبر فيها عن عظيم تقديري له و لدوره الحاسم في معركة الاستقلال عام 1945 مثلما وجدت وصفه رحمه الله في بعض المصادر.
(إنه الشخصية الفذة، و النفس الوثابة، ذو العزيمة الثابتة، و الإرادة المتقدة.. شعلة وطنية تندلع نيرانها أينما حلت في أرض الوطن، لتدك حصن الرذيلة و تنشر راية الفضيلة) والده محمود ميرزو من أكراد دمشق نزح إليها في أواخر العهد العثماني، و عمل في الزراعة و التجارة، و كرس جل وقته لتربية أولاده، و منهم المرحوم محمد غالب ميرزو.
ولد محمد غالب عام 1889م، و تعلم في البداية في دمشق، ثم أرسله والده ليكمل تعليمه العالي في تركيا، و ما إن عاد حتى انتظم في سلك القضاء في سورية، و تدرج في المناصب القضائية على مدى ثلاثين عاماً ليصبح في النهاية رئيساً للمحاكم البدائية. غضب عليه الفرنسيون فنقلوه إلى حمص، ثم عاد إلى دمشق. و من هناك أرسل محافظاً للفرات لمدة ثلاث سنوات كانت حافلة بأهم و أصعب الأحداث. و تعرض للموت في سبيل الله و الوطن أكثر من مرة، و بعد نيل الاستقلال نقل إلى دمشق مديراً للشرطة، ثم محافظاً للسويداء لمدة ثلاث سنوات، حتى أحيل على التقاعد.
ظيف اليد حلو الشمائل، أمضى عمره في خدمة الوطن و فعل الخير. و مات و لم يترك لعائلته سوى راتبه التقاعدي المتواضع، و مسكناً بالأجرة، دلني عليه (سمان) دمشقي بصعوبة بالغة.. توفي في الثمانين من عمره عام 1977م في دمشق، و ترك خلفه الذكر الحسن و صفحات لا ينساها المخلصون ناصعة البياض، و من الذرية الأبناء الذكور: عاكف و رامي و كاظم و محمد، و من البنات، الأخوات: عائشة و عصمت. و من مآثره الخالدات:
ـ أجج النضال الوطني ضد الفرنسيين في محافظة الفرات عام 1945، و أدرك اللعبة القذرة التي كانت تلعبها المخابرات الفرنسية، بتفريق العشاير الفراتية، و دفعها لطلب الثارات و الغزو. كما قامت تلك المخابرات بتوزيع الأسلحة على بعض الزعماء و دفعهم للسيطرة على الآخرين. و بفضل هذا الرجل تحولت كل البنادق نحو الفرنسيين.
ـ حضرت لجنة بريطانية للتحقيق باحداث دير الزور, فوقف الكولونيل (هوكنه) الفرنسي غاضباً و قال: هناك تدبير خارجي للأحداث، و الدليل كثافة الأسلحة بيد السكان في الفرات. فوقف محمد غالب ميرزو ليقول: هل يمكن للكولونيل أن يوضح لنا كيف وصلت إلى أيديهم؟!
ـ طلب من الفرنسيين علناً سحب مفارز الحرس السيار من ريف الفرات، و أصدر أمراً للشرطة الوطنية بإطلاق النار عليهم حالما يشاهدونهم هناك.
ـ حمّلته القيادة الفرنسية السورية مسؤولية الأحداث في المحافظة، و خططت لاغتياله، فلم تفلح نظراً لالتفاف الجماهير الوطنية حوله. ففي إحدى المحاولات، اعتقلت الشرطة الوطنية ثلاثة رجال مزودين بالقنابل و المسدسات يحاولون قتله، فأودعوهم السجن و نالوا عقابهم العادل. كما خصصت القيادة الفرنسية مبلغ 25 الف ليرة سورية لمن يأتي به حياً أو ميتاً.
ـ قصفته القوات الفرنسية و هو في مقر المحافظة يجتمع مع أعيان دير الزور و تحيط به الجماهير، فقتلت الشيخ فاضل البدر، و جرحت محمد علي الشعيبي و سليمان الحاج.
ـ قصف الفرنسيون منزله بالطائرات، و لكن الله سلم إذ نجا بأعجوبة مع أفراد عائلته، و نقل مقر إقامته إلى منزل سليمان الخالد في دير الزور، فأصلى الفرنسيون المنزل بنيران حامية، فتسلل إلى مكان آمن و وجه بياناً إلى الفرنسيين يحذرهم من مغبة الاستمرار بقصف المدن الفراتية بالطائرات و المدفعية، و ينذرهم بأن العنف الذي يمارسونه لن يمر بدون عقاب.
ـ حال دون اصطدام الشعب بالعناصر العربية التي كانت تخدم في الجيش الفرنسي، و وجه إليهم خطاباً ذكياً قال فيه:
” أيها الضباط و الجنود في القطع الخاصة، إن الحكومة السورية الوطنية كانت و ما تزال تحرص على التعاون معكم، و هي ترحب بكم للعمل في جيشها و إنهاضه بما أوتيتم من خبرة و دراية. و إني باسم الحكومة أفسح لكم المجال الرحب للانضمام في هذه القطعات. و الذين يودون اعتزال الخدمة فهم أحرار. و قد أذعت عليكم هذا المنشور حتى تكونوا على بينة من حسن نية الوطن البار بأبنائه جميعاً، على اختلاف الطوائف و العناصر و السلام عليكم” محمد غالب ميرزو محافظ الفرات.
كان لهذا النداء الذكي نتائج فورية، إذ التحقت بنواة الجيش السوري الذي تكون في دير الزور مجموعة من الضباط، و هم: الملازم جمال فيصل، و الملازم طارق الكيلاني، و الرئيس توفيق نظام الدين، و الرئيس موفق القدسي. و قد أرشدهم المحافظ للهرب إلى البوكمال المحررة بسيارة يقودها العريف عبد اللطيف العاني. فاستقبلتهم البوكمال استقبالاً حافلاً مع الجيش المحلي بقيادة الملازم الأول سليم الأصيل و الملازم صبحي بنود. و يكفي محافظ الفرات محمد غالب ميرزو فخراً كون نواة الجيش العربي السوري تكونت في دير الزور، و حركت إلى أكثر من جهة بسرعة في فترة تفكك الجيش السابق, و انسحاب الفرنسيين.
 نموذجين من السوريين الذين مارسوا التدليس والتحوير – عن سابق اصرار وتصميم- بحق الكورد بشكل عام، و تجاهلوا وتنكروا لدور محافظ الفرات محمد غالب ميرزو بشكل خاص، عند الكتابة عن تاريخ سوريا:
الأول: نشر مهند الكاطع اليوم مقالاً بعنوان: شكري القوتلي.. أول رئيس سوري يزور مدن الجزيرة و الفرات.
مقالٌ اعتمد الكاتب، بغالبيته، على ما نشرته صحيفة ألف باء الدمشقية في حينها، عن طريق مراسلها في حلب “خريستو غزال”، تتبع فيه سير رحلته لمدن شرق الفرات خريف 1945.
تزامنت زيارة القوتلي تلك إلى الجزيرة، مع الإنذار الذي وجهه محافظ الفرات (و التي ستصبح محافظة دير الزور بعدها) إلى مندوب سلطات الانتداب الفرنسي، الذي كان متواجداً حينها في دير الزور، مبلغاً إياه بوجوب مغادرته المنطقة، “و حذر المحافظُ المندوبَ الفرنسي بأنه في حال لم يعمل بهذا الإنذار، فإن السلطات السورية ستكون غير مسؤولة عن حياته”، كما ورد في مقالة الكاطع أيضاً.
و على الرغم أن التقارير الصحفية التي كان يدفع بها المراسل خريستو غزال إلى صحيفته، و التي نقل عنها الكاطع بشكل شبه حرفي، تمتلئ بأسماء الوجهاء و المدراء و المسؤولين الذين قابلوا القوتلي حينها، إلا أنها تخلو تماماً من ذكر اسم محافظ الفرات (دير الزور) مكتفيةً بصفة “عطوفة المحافظ” كإشارة له، رغم دوره الأساسي في الاحتفالية، و استقباله الرئيس في منزله!
حقيقةً لا نعلم دوافع خريستو غزال، و من بعده الكاطع، في عدم التطرق لاسم المحافظ الصريح في تقاريره تلك بخصوص زيارة القوتلي. (حقيقةً، جملةٌ كبيرة من المؤرخين السوريين “الملتزمين و الجادين!!” تتنكر لهذا الرجل، و إن ذكرته فمن باب رفع العتب. و ورود اسم المحافظ على الصورة المرفقة بمقال الكاطع، هي بسبب حصوله عليها و الاسم مكتوب عليها).
الثاني: رغم ضخامة كتاب محمد جمال باروت (1021 صفحة مع الفهارس)، المتمحور حول الكورد السوريين أصلاً، خصوصاً منهم كرد الجزيرة، و الذي طال جميع الجوانب السياسية و الاجتماعية ـ السياسية الكوردية، فإنه لم يتطرق لسيرة محمد غالب ميرزو، رغم دوره الذي يعتد به في تكوين الجزيرة، بل سوريا الحديث، إلا باقتضابٍ شديد في فقرتين هما:
1- في حديثه حول فترة إزدواجية السلطة الفرنسية ـ الإنكليزية في أربعينيات القرن الماضي، في محافظتي الجزيرة و الفرات (اللتين أصبحتا الحسكة و دير الزور تالياً)، يقول باروت في الصفحة 518 من كتابه:
“شهدت بداية المرحلة الانتقالية في شباط/فبراير 1942 إنهاء الجنرال كاترو نظام “المحافظات المستقلة”، فتمت إعادة هاتين المحافظتين إلى الحكومة السورية وفق نظام الاستقلال الإداري و المالي المعمول به في عام 1936.
أما بخصوص الجزيرة السورية، فانتهى عهد “النظام الخاص” الذي ابتكره بيو، بتعيين محافظ سوري عليها في عام 1943، هو غالب ميرزا الذي ينحدر من أكراد “حي الأكراد” في دمشق.
2- يذكر باروت حول زيارة الرئيس شكري القوتلي للجزيرة في الصفحة 531 ما يلي:
“تدخل الرئيس شكري القوتلي مباشرة في الشأن الجزراوي، فزار الجزيرة في تشرين الثاني/نوفمبر 1946، و نزل ضيفاً في منزل رئيس بلدية الحسكة عبد الأحد قريو الذي كان متهماً باختطاف المحافظ توفيق شامية في عام 1937، لكنه كان في الحقيقة قد عمل على الحفاظ على حياته. و منحت القيادات الكوردية في الوقت نفسه القوتلي ثقة كبيرة، إذ كان القوتلي قومياً عربياً، لكنه كان وطنياً سورياً في الوقت نفسه.
و كان لوجود شخصيات كوردية شامية و حموية في حلقته الضيقة دور في ذلك، حيث كان محسن البرازي أمينه العام، كما كان غالب ميرزا مدير أمنه العام يومئذ ثم محافظ حوران، ثم سيغدو الزعيم حسني الزعيم مديراً للأمن العام، فقائداً للجيش، و غير ذلك.

4 س