نوسوسيال

القاهرة- محمد هلال : نسمات التجلي في ديوان (( بلا أثرٍ سِواي )) للشاعرة صحر أنور

590

 

 

 

 

 

 

 

                القاهرة.. محمد هلال يكتب :

 

 

الحرف الروحي في حياة الشاعر الإبداعية؛ المعجونة بالإشراق والضياء، عوالم لا يمكن إدراكها بالكلمات والقصائد ؛ ولا حتى ما وراء الكلمات، وإنما بالغوص في بحار لجية ؛عميقة، كثيرة الماء، متلاطمة الأمواج .كصوفي شارد أو صاحب طريق وحده. وتلك مخاطرة روحية لها ما بعدها ؛ تصل بصاحبها أحيانًا إلى ذرى الحال والتوحد والذوبان .. أو الطرد خارج أسوار جنة الحرف؛ ينكر عليه المنكرون وهم محقون في ذلك ، ويصر هو على الرقص الروحي وحده وهو في ذلك مُحق فيما ذهب إليه ويراه .

هي مسألة أشبه ما تكون بالمشي على حد السيف؛ لا ينشد صاحبها السلامة ولا رضا الناس عنه بقدر ما ينشد راحته الروحية ولحظاته الإشراقية .

ترى هل يليق ما سبق بديوان شعري يحمل اسمًا يلامس تلك المعاني ؟ ” بلا أثرٍ سِواي” لواحدة من دراويش الحرف ومتصوفة الدلالة المخلصين، هي الشاعرة صحر أنور .

بشيء من التأمل الروحي أو على الأحرى بلغة الصوفية ، التوقف للتحقق أرانا نهتز طربًا مثل قلوب سكرى.. ثم تكشف لنا الشاعرة السر الخفي حين تقول : إن صاحب اسم الديوان صوفي غريب الشأن، فريد اللغة، مجنون بخفايا المعاني ؛ إذ يعلو بمن يتجلى له بمكنون لغته إلى سماوات وسماوات حتى يغرقه في بحار الضياء .. إنه محمد بن عبد الجبار النِّفَّري.. صاحب الكتاب المتفرد ” المواقف والمخاطبات “،  تعترف الشاعرة صحر أنور بذلك في طفولة بديعة : تجلى لي مولاي النفري باسم الديوان.. فلا تدهشوا ؟ ولا غرابة فإن ساحة التصوف تعج بعقلاء المجانين ومجانين العقلاء كما فصلها الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي في السفر الرابع من فتوحاته المكية .

” صحر أنور” ؛ هذا الاسم “صحر” الغريب أيضًا، فليس مثل باقي اسماء الناس ” سحر” .. دع عنك معنى الاسم فالتأويلات الصوفية  وغير الصوفية كثيرة، وإنما عليك تذوقه .

نتوكأ على عصا التأمل ونتجول في قصائد الديوان وما تلقيه من معاني في أرواحنا ، فهذه الأشعار لا يمكن التعامل معها بظاهر النص وإنما بجوانياته .. فالجوانية كمذهب فلسفي أسسه ونادى به الرائد الفيلسوف عثمان أمين في منتصف القرن العشرين .. ولكنها كحالة صوفية قديمة قِدم الروح .. تصدق أكثر ما تكون في النصوص التي لا تعلن عنها طبول معانيها وإنما ما تلقيه في أرواح عشاقها ؛ ” كاتب ومكتوب إليه”.. ومن هذا المنعطف يصبح سؤال ، ماذا يريد الشاعر بهذا الكلام ؟ سؤال ساذج وفي غير محله . تمامًا مثل النصوص الصوفية الفلسفية الحبلى بالجوانيات. فما على المتلقي سوى الاستسلام الروحي للنص، بعد ذلك يتولى النص إلقاء الاشارات والتلميحات وربما البوح بمكنونه في بعض الأحيان . يطالعنا عنوان ” لا أحد يشبه نفسه” ــ كمثال لما قلناه ــ .. تقول القصيدة :

شمسٌ كالأفعى تتلوى كل ليلةٍ

تنامُ في حِضنِ سماءٍ جديدةٍ .

قمرُ لا يهوى الاكتمال؛

إلا بعد مضاجعة نجماتٍ عاهرات .

كم مرَّةً تتغيرُ سمائي

لستُ أُشْبهني .

نتوقف عند عنوان كامل الدهشة ؛ والدهشة كما نعلم أول الفلسفة ، يقول : ” امرأة ذابت في امرأة ” .. نغوص بحار القصيدة في محاولة لاستخراج لآلئها لا طلبًا للمعنى فطالب المعنى فقير، تقول:

أتأملني كعرافة

أقرأ فنجاني علني أرى شيئًا

علني أجد روحي المبعثرة.

نتوحد

تضع كلماتها على شفتي

تعرف أسراري؛

ما خَبْأتُه في كهفي تتلبسني.

مرآهٌ أذابت مرآة

امرأةٌ ذابت في امرأةٍ

ولا أحدَ سواي .

تلك الحالة التي يصفها أهلها بقولهم ” ذوبان الأرواح في الأشباح”، تمهيدًا لمخاض ميلاد نور جديد أو حال جديد .. وها هي القصيدة التالية لتلك، في الترتيب، تحمل اسم ” لا شيء يواري سوءته” تأخذنا إلى عتبات الحال ، تقول:

كل ليلةٍ

يخلع الحبُّ رداءه

يخرج عاريًا.

لاشيء يواري سوءتهُ

سوى شعاع ضوءٍ على خصره

مُسلَّمًا للعشاق نفسه.

كل ليلة أموتُ

من جثتي

يولد حُبٌّ جديدٌ

ينبت من القلب الذي منهُ ولدتُّ.

إذا كان العامة تقول: عنوان الكتاب يدل عليه . فإن عناوين قصائد صحر أنور في ” بلا أثر سواي”  جديرة بتحريك ماء الروح، وكأن العناوين قصيدة طويلة تتلاقح معانيها الجوانية وتتناسل لتولد حالة خاصة بها.. وبنظرة بسيطة تغمرنا تلك الشواهد بفيض معانيها، خذ مثالًا:” نوافذي لا تُطْبِقُ أهدابها”، ” وحدي ومعطف يدثرني”، ” أنا القطيع” ، ” لن تجد لي أثر” لا أصابع تكتب” ، ” سفر المثوى الأخير” ، ” أوقدت مشاعل الفضاء” ، ” قبائل الأشواق “.. نخلص بعد هذه الإشارات إلى حقيقة تقول: من أراد الوصول، عليه أن  يدرب قدميه على الخطو .. فها هو الديوان ومن أراد المتعة فليكن دليل نفسه، و قارئي نفسه بل وشيخ نفسه في طريق المعاني الجوانية .