نوسوسيال

بقلم عبد الله رحيل : اختلاف المعنى في وحدة اللفظ

1٬319

 

 

 

 

 

إن التلازم الحقيقي بين الشخوص والموجودات في عناصر الطبيعة والكون، يتمثل بين الأحياء والطبائع المختلفة، وبين قوانين تكاد تكون ثابتة، يسير عليها مجتمع ما في بيئة دالة على سمة التفاعل البشري المتلازم، لكن يتساءل البشر عن سرّ هذا التمازج؛ فتبدو الإجابة، أن الثقافة المجتمعيّة هي العامل الأساسيّ لسيرورة الحياة.

فقديما كانت الثقافة مفردة عند الفرنسيين، وتعود في أصلها إلى اللغة اللاتينية cultara، وتعني رعاية الحقول، والاهتمام بقطعان الماشية، ثم أُطلِقت على حالة الشيء المزروع، ثم تطوّر المعنى الدلاليّ عند الفرنسيين لكلمة الثقافة، فلم تعد تدلّ على المزروعات والقطعان، إنما أصبحت تدلّ على تثقيف الملكة الحاكمة، وتطوير كفاءتها المعرفيّة، لكن هذا المعنى لم يدخل في أروقة الأكاديميات الفرنسيّة، حتى القرن الثامن عشر، الذي أصبح في الثقافة معنى متداولاً في المعاجم في الجامعات الفرنسية، ثم تدرّجت دلالة المصطلح؛ لتصبح مقصورة على هدف، أو علم

مبين مضاف إليه اختصاص من علوم مختلفة، كثقافة الفنون، وثقافة الأدب، وثقافة العلوم، ثم ارتأت دلالة مصطلح الثقافة إلى الفكر العميق للبشر، فهي أيدلوجية فكريّة اقترنت، وتماهت إلى التقدم والتطوّر والتربيّة، وأهم من ذلك كله، أصبحت مكتنز الإنسان للمعارف في العقل، ثم أخذت في التبلور المعرفيّ في نهاية عصر الأنوار، لتدلّ على التكوين، والتربيّة، والعقل المثقّف بالمعرفة عن طريق التمرّن والتعلم والممارسة، ثم تماشى المعنى الدلالي لكلمة الثقافة، حتى أصبحت دالة

على الحضارة، والتي تعني بتحسين المؤسسات، والتشريع والتربية، ثم أخذت في البروز والتشبث الدلاليّ حتى أخذتها الفلسفة، وأخرجتها من معناها الفردي إلى المعنى الجماعيّ للبشريّة، حيث عرفها الفلاسفة، بأنّها العلاقة الجدلية بين المعارف في مختلف أصولها، والفنون والأديان، والقوانين، والأخلاق، والعادات، التي يكتسبها الإنسان من المجتمع، وهي في هذا

التعريف تتكوّن من نظريتين ترتكزان على أهمية الفرد ضمن الجماعة الأكبر التي تكوّن المجتمع، و الالمام للمعرفة الماديّة والمعنويّة؛ وبهذا المعنى تعد الخبرات والمعارف، التي يتلقاها الإنسان مكوّني الثقافة الأساسيين. حتى أصبحت الثقافة في تطوّرها الدلاليّ فأصبحت مجموعة من الآراء، التي يعتنقها الشخص، وتؤثر على صياغة مواقفه، حتى أصبحت تُنسب إلى أمة بأكملها، فنقول ثقافة فرنسيّة، أو ثقافة بريطانيّة، أو ثقافة عربيّة، أو ثقافة كرديّة…
وبهذا الأساس نراها في مفهومها اللغوي الصرف، بداءة عصر الكلمة، لتدلّ كلمة الثقافة في المعاجم العربيّة، على أنّها جذر لكلمة “ثَقِفَ” ومنه الثِّقَافُ، وهو آلة معقوفة حادّة، تُستخدم لتقويم السيوف، أو النِّبَال من الاعوجاج، والميلان؛ فتصبح أطرافها حادّة تكون وسيلة دفاع أو هجوم عند الإنسان.
ومن هذا نرى، أن الثقاف هو آلة للتقويم، وكذلك الثقافة بمعناها المجازي، هي آلة لتقويم اللسان وتقويم اعوجاجه، وسلامة ألفاظه من الابتذال، والركاكة؛ ليصير مسايرا لثقافة المجتمع كاملا، بعد ما كان مشاعا لا يعي منهاج قوم، وهي تكون سرًّا من الأسرار الجامعة والشاملة، لكلّ أمّة ومجتمع، فهي مطلوبة عند المجتمع الإنسانيّ، في الإيمان بها عن طريق القلب والعقل، والعمل بها حتى تذوب في التكوين، والبنيان الإنسانيّ، وتجري فيه مجرى الدم.
فتتمحور الثقافة في اللغة العربيّة الدقيقة للمعنى، فتغدو دالة على الحَذْق، يُقال: ثَقِفَ الشيءَ ثقفًا وثقوفةً، إذا حِذقتَه، ويُقال: رجلُ ثَقِفٌ، إذا كان ضابطا لمهنة وبما تحتويها من فطنة، عاملا بها، ومتمرّسا لقواعدها، ويُقال ثَقِفَ الشيءَ، وهو سرعة التعلم، وثقفتُه إذا ظَفِرْتَ به، وجاء في القرآن الكريم:” فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ”، أي إذا وجدتهم والتقيت بهم…

فالثقافة إذا، هي الإدراك والفهم السريع، والحذق، وإدراك الشيء وتقويمه، وحسن تأديبه وتفاعله بين الجماعة في المجتمع، إذا ما كانت تعني الأصول التربوية السليمة المتداخلة مع العمق الدلالي المجتمعي.فتكون بما يتصف به الإنسان الحاذق المتعلّم عن ذوق، وحسن تعلّم، وانتقاد، وحكم صحيح، أو هي التربية، التي أدت إلى اكساب هذه الصفات، التي من شأنها أن تسير إلى أعماق أنماط السلوك السائدة في المجتمع البشري، وتشمل المعتقدات والمبادئ الأخلاقية،

واللغة، والموسيقا، والفن، ووسائل انتقالها؛ لأنها تراث اجتماعي إلى الأجيال التالية.
والفلاسفة، شأنهم، أن يركبوا أيّ معنى سائد في مجتمع كليّ، نحو مفهوم الفلسفة للوجود، فعدُّوا الثقافة، ومنهم” الفيلسوف الكندي” تايلور”: أن الثقافة هي ذلك المركب الكليّ، الذي يتضمن المعارف، والقصائد، والفنون، والأخلاق، والقوانين والعادات السائدة، يكتسبها الإنسان؛ نتيجة وجوده عنصراً في مجتمع”.
ويعرف الشاعر والناقد المسرحي الأمريكي ت. س. إليوت الثقافة، بأنها تنويرٌ ومسارٌ علميٌّ، يأخذ بعين الاعتبار مجمل المعطيات والإشكاليات، التي تطرحها الثقافة جزءا أساسيا من نهوض المجتمعات، وتقدمها الحضاري.

 

                      الشاعر والمسرحي الأمريكي إليوت

 

ويتسع ويختص مفهوم الثقافة بمفهوم الإقناع والتغيير، والمقاربة بين الأشياء الإيجابيّة والسلبيّة، وبهذا يختص الأديب والشاعر والفيلسوف الفنّان المثقّف، حينما يورد اقناعا يغيّر به الواقع إلى الأجمل، وبالأخصّ الشاعر، الذي كان بمكانة وسائل الإعلام المقنعة في زمننا الراهن، وهو الذي يحدث تغييرا إيجابيا متوافقا مع ما تؤمن به الجماعة البشرية، ومن ذلك قول الشاعر زهير بن أبي سلمى، وهو شاعر جاهلي، حينما غيّر مفهوم الحرب القائمة عند قبائل من العرب، ودامت أربعين سنة، فقدم في شعره قبولا وإقناعا كان سببا في إيقافها، فقال:

                   وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ
وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
مَتى تَبعَثوها تَبــعَثوها ذَمــيمَةً
وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الــرَحــى بِثِفالِها
وَتَلقــَح كِشــافاً ثُمَّ تَحــمِل فَتُتئِمِ
فَتُنتَج لَكُم غِلــمانَ أَشــأَمَ كُلُّــهُم
كَأَحمَــرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِـع فَتَفطِمِ

                    الشاعر زهير بن أبي سلمى

وبهذا اللسان المثقّف، الذي عناه الشاعر، وقدم من خلال ثقافة تاريخيّة، يعرفها الجميع عن مفرزات حرب طويلة، وتذكيرهم بويلات الحروب ونتائجها.
والشاعر صلاح عبد الصبور يمنهج تطوير الحبّ وتشريعه في النفس الإنسانيّة، من خلال النظرة، التي تؤدي إلى القناعة في اختيار المحبوب:
الحب يا رفيقي قد كان

                           الشاعر المصري صلاح عبد الصبور

في أول الزمان
يخضع للترتيب والحسبان
“نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء”
اليوم يا عجائب الزمان
قد يلتقي في الحب عاشقان
من قبل أن يبسما

هذه الثقافة النفسيّة لدى الشاعر، والذي عبّر عن الرومانسية، التي تسامى فيها الحبّ، فيُقبَل عند المتلقي، ويؤمن به، فيتّخذه قانونا له.
وفي الثقافة الإسلاميّة تتبدى سياسة الثقافة عند الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، حينما خاطب المسلمين في خطبة الوداع، فقال:” تركت فيكم ما إن تمسكتم به، فلن تضلوا أبدا، كتاب الله، وسنتي”.
إذا تأكيد الثقافة المقنعة حينما تتبع تحفظ الإنسان من الضياع والضلالة.
وحتى تكون الثقافة هي الدالة على التغيير الإيجابيّ، والتطور السريع نحو المعرفة؛ فيجب أن تكون آخذة في طابع الاستمرار والدوام في سمة الجماعة، وهي التي تمتلك القدرة على التأقلم مع البيئات الاجتماعية المختلفة في المجتمع، والمجتمعات المجاورة الأخرى، وتكون قابلة للزيادة، وتحتمل الخطأ وتصحيحه، وتحتمل الصواب المثاليّ والمتغيّر نحو الأفضليّة والإيجابيّة في موروثات مكتسبة؛ فتؤدي وظائف تظهر في تحديد السلوك الفرديّ، وفي الإصلاح والتوجيه، بما ينسجم مع العادات والقيم؛ لتكون نظاما للتغيير أفرادا أو جماعات، ولا تكتمل دون المجتمع، الذي ليس له معنى دون الثقافة.
ومن هنا نشا التلازم والتداخل بين الثقافة والمجتمع، فشموليّة العلاقات المتفاعلة مع فئات الشعب، توجد ثقافة وجودهم في علاقة متبادلة لتطوير العلاقات، فالكلّ يندمج مع العناصر المؤثّرة، لتكوّن ثقافة يتحوّل من خلالها المجتمع والإنسان من وحدة الهدف، ونرجسيّة الوجود إلى الجماعة الفاضلة، التي يحياها ويقدمها للآخر في تصرفات وقيم.
فالثقافة إذا صادرة منك، وهي انعكاس طبيعيّ لما تحياه في مجتمع، فلا وحدك تنتج ثقافة عصريّة، دون مبيت تحت خيمة المجتمع الثقافيّة المعرفيّة، التي تؤدّي إلى الجمال الإنسانيّ.

الكاتب في سطور
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
عبد الله رحيل كاتب من سوري

له العديد من الدراسات اللغوية
والمقالات الأدبية في الصحف العربية