نوسوسيال

القاهرة- قصة قصيرة للكاتب الصحفي محمد هلال: تدوير الصَّدَقة ..!

512

محمد هلال كاتب وصحفي في حريدة الأهرام المصرية

عضو اتحاد كتاب مصر

عضو نقابة الصحفيين المصريين

حاصل غلى جائزة نجيب محفوظ للرواية على مستوى الوطن العربي

مؤلفاته معروضة في المعارض الدولية ما بين القصة والروايةعن دار نشر النخبة .. المسك
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,                                        ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

زيارة الحسين ميراث قديم؛ مذ كنت طفلَا صغيرًا، أتشبث في كف جدي ؛ شيخ الطريقة الصوفية في بلدتنا البعيدة. لن أقول المحب، المتيم، العاشق لآل البيت، فذا تفصيل لالزوم له.. فكل أهل التصوف محبون، متيمون، عاشقون .

أُشربت عشقهمو، فتربع في قلبٍ صغيرٍ؛ ملأ صندوقه الفارغ من أكدار الحياة، فتمكن فيه ..  كما قال شيخ المحبين، قيس :

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا .

كان يعجبني مشهد أهل النفحات؛ المتصدقين الذين يوزعون أرغفة العيش المحشو  باللحم على الجالسين حول المسجد.. كان  سر اعجابي إن أهل النفحات هم من يدورن على الناس، وكأنهم يرجونهم قبولها حبًا في الحسين وجد الحسين .. بينما الفقراء جالسين في أماكنهم ! ماجعلني رغم حداثة سني أقول : كل فقير غني ما لم يطلب .

ربما سمعتها من جدي أو أحد الدراويش في مجالسهم الطيبة.. ربما . كانت شمس بهجتي تشرق عندما أرى الرجل المهيب الهيئة، الأنيق الملبس ينحني ودودًا مبتسمًا، وكذا السيدة الوقور، وهم يمدون أيديهم بالأرغفة للجالسين حول المسجد قائلين : ” صل على النبي” ؟ .

كأنهم يرجونهم عدم الرفض حتى لو كانوا غير جوعى، وسيطعمون به القطط التي تتقافز حولهم ؛ شبعانة، ريانة، يلمع شعرها ببريق العافية والدفء .

أخبرت جدي بتفاصيل ماأثلج صدري، فنهاني بشدة أن آخذ شيئًا من تلك الصدقات، ثم نظر نحوي مبتسمًا وقال: من أفضل الأعمال لقمة في بطن جائع، فأبحث عنهم في البيوت الفقيرة ؟.

نظرت إليه لأفهم مايقصد،  مسح على رأسي مبتسمًا وكأنه يقول : لاتسأل عما استغلق عليك فهمه حتى ترى !. فكنت أدهش متسائلًا : أى بيوت فقيرة هذه التي سأبحث عنها ؟! بل اتهمته في نفسي بالبخل، رغم كرمه الشديد الذي أراه !

بعد انتقاله بوقت غير قصير ــ فأهل الطريق لايقولون ” مات “.. بل انتقل ـــ   شدني الشوق إلى زيارة صاحب الباب الأخضر، ذهبت مع الذاهبين في ليلة مولده. هناك في الساحة الكبيرة  سمعت صوت جدي جليًا، رأيته يحدث أحد الناس، ناديته بأقصى طبقات صوتي وأنا أهرول إليه مجنون بفرحتي ، لكنه لم يلتفت ، لم يرد، وما كدت  أصل إليه، ألمسه حتى ذاب في الزحام .

خشيت أن تتمكن مني الهلاوس البصرية والسمعية كما حذر الأطباء النفسيين عندما ذهبوا بي إليهم ، فانقطعت عن الزيارة.

بعد سنوات من الجفاف ، لا أدري كيف جذبتني جذبة الشوق، فذهبت إلى الحسين ، هالني ماحدث من تغيير في المكان ، المحال السياحية ارتفعت أسعارها بشكل كبير، كذا الأماكن الشعبية في شارع الباب الأخضر الملاصق للضريح ومدخل زيارة السيدات وتجمعات الفقراء والزائرين، حتى مقهى المديح النبوى والغناء خلف المسجد دخَلَتها فِقرة لرقص النساء وإن كن في أسمال واثمال الدراويش .

رغم كثرة عدد الزوار في غير المولد لم أجد الأنس الذي كنت أطير فيه بجناحي طفل أخضر القلب .  ماأيقظ تساؤلاتي وأشعل دهشتي ليس مالاحظته من قلة أهل الصدقات فقط ، وإنما تكالب الناس على الذي يأتي  من موزعي النفحات ، فما أن يفتح أحدهم حقيبة سيارته حتى ينقض عليها الخلائق كالنسور الجارحة،  فيطرح مامعه أرضًا بشكل عشوائي خشية على سلامة السيارة من التلفيات أو على نفسه  من السرقات؛ فقد أشتكى البعض من تلك النقيصة عدة مرات .

حين ترآت لي الصورة القديمة، هتفت نفسي : رحم اللـه أهل العفاف؛ من لايقتل الجوع حياءهم .

رأيت  شابين مفتولي العضلات أشبه مايكونا بالمصارعين، استوليا على قسط وافر من أرغفة اللحم والفول النابت، وهم يضحكون فرحين كمن فاز بميدالية ذهبية في حلبات المصارعة العالمية !  قال أحدهم للآخر : أقسم برأس مولانا الحسين، هذه النفحات ” غسيل أموال” !

عندما سألت من لهم الخبرة بهذا المصطلح الغريب الجديد” غسيل أموال”، قالوا فيما معناه أنهم لصوص كبار، ممن يقول الناس عنهم “عِليه القوم ” .

قال أحد الشابين لصاحبه: معي شريط ” أبو صليبة” مطلوب فيه عشرة أرغفة باللحم وليس الفول النابت ، مارأيك ؟

ضحك الآخر ساخرًا: أتراني مغفلًا يابن الهَرِمة ؟.. صيدلية الدكتور برشامة تبيع الشريط ؛ عشرة أقراص كاملة  بما يساوى ثلاثة أرغفة .. مارأيك  ياصاحبي؟

قال الآخر أيضًا ضاحكًا : أنا ؟  زوج أختي يعمل مسعفًا في مستشفي حكومي للأمراض النفسية، ولديه مخزن مخدرات، يبيع للشباب أرخص من صاحبك الدكتور برشامة. سأعطيه ثلاث أرغفه له ولأختى وابنتهما لوجبة العشاء،  وأحصل منه على مايجعل جمجمتي تسافر عند النجوم ،إلى الرفيق الأعلى طوال الليل وحتى عصر الغد .. ثم تعود للحصول على رزقها من النفحات .

قبل أن ينصرف أوصي صاحبه: لاتتأخر في نومك لما بعد العصركعادتك السيئة؛ حتى لا يستولي أولاد الأبالسة على النفحات قبلنا؟  قال الآخر في شبه حزم :  لاتتأخر أنت ياصاحبي، وإلا لن نجد أمامنا إلا سرقة أحذية المصلين في المسجد  .

للمرة الأولى التي أشعر فيها بطول السفر وإرهاقه، حقًا الحزن يجعل اليُسير عسيرًا ! شكوت لشيخ الطريقة الجديد وسألته : كيف يسمح مولانا الإمام الحسين بمثل هذا العبث حول مسجده، وفي ساحته، وأمام مرقده ؟!

ربت الرجل على صدري جهة القلب، ربما ليبث الطمأنية فيه، وابتسم قائلًا: هذا شأن رب الحسين ياولدي.. له الحكم والحكمة التي لانراها .

الحق يقال مكثت سنوات أكتفي بذكر الحسين وجده المصطفى في الصلاة عليهما دون شد الرحال  لزيارة المسجد .

 ذات يوم سألني البعض وكأنني صاحب رأي أو على دراية بكل كبيرة وصغيرة في دنيا الدراويش والمتصوفة.. ماحقيقة الذي يحدث في مسجد مولانا من تجديدات شاملة  طالت مقصورة الضريح والباب الأخضر؟

انقطعت القطيعة في نفسي، وجدتني كالمسحور أقرر الذهاب على الفورإلى القاهرة المحروسة بآل البيت الكرام ــ كما يقول مشايخنا ــ ؛ رأيت الساحة والميدان يعج بخلق كثير، أكثرهن نساء.. عكس الزيارات السابقة كان الغلبة في العدد للرجال .

رأيت الحواجز  والسقالات الحديدية منتشرة في داخل المسجد وحوله ، منها مؤقتة لظروف التجديدات وأخري دائمة لدواع أمنية . النساء يفترشن الملاءات والحصير البلاستيك القديم والجديد، على رصيف حديقة الميدان وحول المسجد ، ونصبات الشاي والقهوة العشوائية المقامة على أقفاص الجريد والصفيح منتشرة وسط تلك التجمعات .

 لم يقع بصري على صاحب صدقة واحد، رغم كثرة من يوحي مشهدهم  بالفقر والجوع ! قلت : ربما يأتون في وقت آخر لظروف التجديدات التي تشمل خارج المسجد وداخله وصعوبة دخول السيارات إلى المكان.. فاجأني ملمح جديد ونشاط غريب،  ما أن يظهر زائر يبدو في هيئته بحبوحة العيش حتى يتسابق إليه بعض الشباب في يد كل واحد كيس كبير  من البلاستيك الشفاف يمتليء بأرغفة الخبز الأسمر، يعرض عليه الشاب بإلحاح شديد أن يوزع بالنيابة عنه رغفان العيش الحاف هذه على المساكين المحتاجين لها، صدقة منه ونفحة في رحاب مولانا الإمام ..

يقسم  الشاب اللزج وكلهم لزج :” ورأس مولانا ولي النعم ، إن ثواب توزيع هذا العيش الحاف عند اللـه كبير، وسيكون سببًا لدخولك الجنة يا سيدنا الباشا، و…و….و….ولايبرح حتى يلين “سيدنا الباشا أوسيدتنا الهانم ” .. أما الفريسة السهلة فهي أن يكون في صحبة الباشا أنثي، سواء كانت الزوجة، الحبيبة، الخطيبة !

عندما ينجح الشاب اللزج في تخدير فريسته ؛ الذي يتصدق مرغمًا على الفقراء، الذين يعرفهم الشاب فليس كل من في الميدان وحول المسجد فقراء يستحقون الخبز الحاف ــ على حد قوله ــ  وليس من مقام الباشا العالي أن يوزع بنفسه أرغفة فارغة من اللحم أو الفول النابت، أو يلوث ملابسه الأنيقة بالردة التي تلتصق برغفان الخبز البلدي..

يدفع ” المتصدق رغم أنفه ”  المطلوب دون مساومة في السعر أو معرفة عدد الأرغفة ؛ إنها نفحة وصدقة باسم آل البيت كلهم، وخصوصًا الإمام الحسين وجده المصطفي صلى الله عليه وسلم ؛ كما يردد الشاب الذي يعقب مبحلقًا في عيني الفريسة : كتب اللـه لنا زيارة مسجده الطاهر وأكون خادمك هناك أيضًا .

وإذا سأل المتصدق عن جودة الخبز حتى يليق بالصدقة، قال اللزج بثقة العالم العارف : ياباشا، إن اللـه طيب ولايقبل إلا الطيب .. أنا المسؤل أمامه سبحانه عن ذلك ، كن مطمئنًا .

يتعهد الشاب بتوريع الرغفان على اليتامى والأرامل والمعوزين والمعدمين ، فهو يعرف كل من بالمكان .. بسرعة عجيبة يترك المتصدق بعد أن يتقاضي منه مايقنع به ، ثم يقوم بتوزيع أرغفة الخبز، كل خمسة على امرأة يعرفها أو رجل مسكين، وسط أصوات عالية مستكينة وألسنة تلهج بالشكر والدعاء لصاحب النفحة أو صاحبتها..

 يشير الشاب نحو المتصدق صاحب النفحة الذي يراقب عملية التوزيع بالكيس البلاستيك الفارغ علامة اتمام المهمة،  ثم يرفع إصبعه نحو السماء وكأنه يدعو له بالخيرات كلها .. بينما  الباشا المتصدق بالأرغفة الحاف تلعب بوجدانه حالة من الرضا والإنسجام، ويطرب لكلمات الشكر ربما بغرورخفي ينتاب بعض المُعطين  في طيات نفوسهم .. ثم ينصرف منشرح الصدر والطوية .

في حركة سريعة يقوم شاب لزج آخر بجمع أرغفة الخبز؛ نظيفه كما أخذوها، فهذا اتفاق عمل له أجره.. ثم تبدأ رحلة مساومة جديدة مع متصدق جديد رغم أنفه !