نوسوسيال

محمدهلال.. قراءة في رواية «كوتشينة» للأديب الكبير نشأت المصري

435

 

                 الحب يسكن قلوباً لابيوت لها أحياناً. . .

مقال كتبة القاص والناقد محمد هلال الصحفى بجريدة الاهرام حول الرواية الأخيرة للكاتب المصري الكبير نشأت المصري  ..كوتشينة.. ونوس سوسيال الدولية تنشرهذا المقال الهام حول رواية كوتشينة كتبه القاص والناقد محمد هلال بجريدة الأهرام لأهميته الأدبية والثقافية.

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,/                                               /,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

كثيرًا أن تقرأ نصًا روائيًا أو شعرا ، وتشعر بعلاقة قوية بينك وبينه ، وإذا حاولت معرفة سر هذه العلاقة ربما تدركة منذ اللحظة الأولى فتكون حالة الألفة الواضحة؛ أشبه مايكون بالحب الجلي بين طرفين، فتتلاشي الدهشة ويتوهج الحب، كأن تكون براعة الكاتب أو تجد نفسك أحد أبطاله المهمين فتغوص صفحاته في نفسك وتغوص نفسك فيها .

حالة أخرى ترى فيها القاريء يقع في غواية النص، ويلذ له، وربما يصبح   كتابه المفضل ، ليس لحسن العبارة و ليس لحسن قوام النص ولاحتى لفكرته الجديدة أو وجود في أبطاله من يشبهك .. فكثيرًا ما نقع في هوى غيرحسناوات الملامح والجسد ونهيم بهن بلاسبب واضح، ونردد المثل الشائع ” خدوا عيني شوفوا بيها” ! .

قد نعجب من هذا السر الخفي لهذا الحب المتفرد الصفات! ثم مع الوقت نكتشف أن روحًا ما، أشبه بالصوفية أو إن شئت الدقة  قل روحًا صوفية نقية؛ التي هي من الصفاء، وليست صوفية مدعاة،  هي ما أحدثت تلك الجذابية القوية التي لاتخضع لتفسير عقلي  .

ذلك ماحدث بيني وبين رواية ” كوتشينة ”  للأديب الكبير نشأت المصري ؛المتنوع العطاء الغزير الأنتاج .. فقد فاقت مؤلفاته ــ كماهو معروف ــ المائة كتاب مابين شعر وقصة ورواية ومسرح ودراسات أدبية .. وليس التميز بالعدد الكثير، كماهو معروف ومسلم به في عالم الأدب والفكر..

فقد لايبقي من كبار المؤلفين سوى كتاب أوبعض كتاب ..  ولكن إذا ذكرنا الجهات التى أرخت لسيرة نشأت المصري الذاتية أو على الأصح الإبداعية لدهشنا وعلمنا أننا حيال مبدع مختلف ؛ فقد تناولت أعماله العديد من رسائل الماجستير والدكتوراة.. وأن سيرته الذاتية الإبداعية قد نشرت في كثير من الموسوعات والمعاجم في لندن ومصر والسعودية والكويت ، وذلك إلى جوار العديد الجوائزمن التي حصل عليها. دع عنك هذا فقد سمعه كثيًرًا، وهو مقدمة بسيطة لأديبنا الكبير الذي بدأ رحلته شاعرًا بإصدار ديوان ” النزهة بين شرائح اللهب” .

أما الذي نعاود التوقف عنده لمحاولة حل لغز جاذبية تلك الرواية المدهشة ” كوتشينة” لأكتب عنها مرة أخرى .. فلم أجد السر في أسلوبها الشاعري السلس العبارة والصورة الفنية المبدعة رغم روعته وتفرده؛ فقد خبرته وعرفته في مؤلفات نشأت المصري ،  الذي ذكرني برواية المدهشة كوتشينة ـــ كما قلت في كتابتي الأولى ــ بروح رواية “زهور على نهر تيزا” ، عند المؤلف الإيطالي  “دانتي مارياتشي” وهى من أهم روايات الثقافة الإيطالية وأعذبها في الكتابة الشعرية الجميلة عن حياة الإنسان ؛ تتناول حياة بطلها” جيورجيو” الذي قرر العودة إلى بلدته الصغيرة البسيطة والتخلى عن كل نجاحاته  الوظيفية وممتلكاته الثمينة، وكأنه يولد من جديد كما يرغب وترتاح له نفسه .. فيها يحاول نص ” دانتي مارياتشي” بشاعرية رائعة وفانتازيا محبوبة ربط الماضي بالحاضر بالذكريات والمشاعر..وإذا كان الشيء بالشيء يذكر.. فهذا يذكرنا بالفيلم المصري ” اختفاء جعفر المصري” بطولة الفنان نور الشريف …………….؛ “جعفر” الذي ترك ثروته الطائلة والحياة الحافلة بالصخب والنساء والخموروالمتعة واللهو والمكاسب السهلة  بكافة أنواعه  ليعيش وسط الصيادين البسطاء في قرية فقيرة بعيدة عن عمران المدن؛ تعيش على رزقها من الصيد ” يوم بيوم” ، لاثروات ولامدخرات خشية القابل من الأيام . . قد يكون  الحبل السُري في تلك الحالة هو البحث عن السعادة ، تلك اللحظة الثمينة المجنونة التي إذا قبض عليها عاقل ماتخلى عنها، وترك جحيم ثراء الدنيا الفاحش، لنعيم بساطتها وفقرها المادي،  لأجلها.

ربما تلك البارقة الفنية هى التى جذبتني للكتابة مرة أخرى عن ” كوتشينة” نشأت المصري . وكنت قد أهملت عمدًا علاقة سامية أرقي مايكون السمو وهي أن يختار الإنسان له ” أبًا روحيًا ”  يرتاح في بحبوة روحه ونقاءه المضيء، السر في ذلك أن أحد شخصيات الرواية واسمها ” سحر” قد اختارت ” صفوت” الممدوح من الجميع إلا زوجته المتغطرسة، الذي يكبرها سنًا لكن يساويها روحًا أن يكون بمثابة والدًا حقيقيًا لها .. ليس بمفهموم البنوة الذي حرمتها العقيدة، أوالمخادنة والعيش معاً، وإنما حالة الأنس الروحي الطاهر حتى لو لم يلتقيا طوال حياتهما .. وذلك خشية تفسيرات بعض المتنطعين التى تخلو صدورهم من قلوب يعقلون بها! بحجة الحلال والحرام والتفسيرات المجحفة التى تخلقها أمراض شهواتهم البهيمية .. إلا أن الإنصاف يوجب علينا أن نظهر تلك الحالة الصوفية الراقية، فأهل التصوف الروحي الحقيقي النقي وليس المُدعى وما أكثرهم ؛ لايرون في ذلك غضاضة بل يحبذونه ولكن تحت مسمى “الأخوة في اللـه” ؛ مهما كان فارق العمر الزمني.. فالروح ليس لها عمر ولاشيخوخة ولا شباب؛ تسكن أجسادنا بعض الوقت ثم تصعد إلى بارئها.. لايعرف كنهها سوى خالقها.. وهي مسألة مؤرقة للإنسان منذ القدم ولذا حسمها الخالق في نص صريح :” يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي”؛ وذلك لعجزنا عن إدراك كنهها وهو نص مُعجز للعلم والعلماء أيضًا.

فترى في أهل التصوف حالة الإخوة في الله هذه ، روح ترتاح في رحاب  روح بل تمرح في براحه نشوانه بفرح لانهائي من نوع خاص ؛ حتى لو كانت تبكي أوجاعها .

قد يكون الأخ أو الأخت ـــ بالمعنى الصوفي الإشراقي ــ  في سن العشرين والثاني في الثمانين من عمره .. وتدعوه أخيها ويدعوها أخته ، لامجال في تلك الأخوة للغة الجسد والشهوات بكل أنواعها وهى متعددة ؛ كثيرة الصور والأشكال .. لذا وجب التنويه حتى لانظلم الرؤية ورؤيتها الفلسفية الإشراقية .

نعود الى أحداث” كوتشينة” الصادرة في طبعتها الأولى عن دار الهلال ، فمن الضروري أن نُذكر بخطها الدرامي حتى لانضيع في شرح تفاصيل ومفردات رغم أهميتها لكنها تبعدنا عن الخط الدرامي للرواية

يطلعنا الفصل الأول بتتبع  السلوكيات الخارجية والداخلية لابطالها فيسهل للقاريء والباحث على السواء تفسير القضايا الكبيرة والتحولات المجتمعية من خلال سلوك الأفراد الذي يبدو وكأنه حالات فردية.. إلا أن التغيير يتم دون تخطيط مستقيم أو متواز وإنما بطريقة ” الزجزاج” كما أسلفنا في القراءة الأولى  .

تلخص شخصية خليل الفاشل دراسيًا  هذا السلوك، حيث تتضافر البساطة الساذجة والتعقيد النفسي المتمثل في النرجسية الجوفاء والاعتزاز الكاذب بالنفس.. بعد أن رأت البنت الجميلة سماح ذات الـ 17 سنه الزواج منه إفلاتًا  من مقصلة الفقر؛ وموافقته على استكمال دراستها الجامعية على غير عادة هذا النوع من الرجال ،ليس بحكم العقل وإنما تهميشًا لأخيه الجامعي بأنه وهو غير المتعلم يمتلك زوجة جامعية . لينمو ويتضخم داخله الوهم الكاذب الذي يلتذ به..في الوقت ذاته جعل خليل أكبر همه الثراء من خلال سرجة الزيوت التى تمتلكها العائلة للولوج لعالم جديد فسيح بعيدًا عن هذا الدخل المحدود، ومن هنا اشتعل الصراع في نفسه الطموح الجموح .

يقول المؤلف: ” انتقل خليل من الفقرنحو الثراء بسرعة ، ولكن ضعف رصيده العلمي جعل المال الذي بيده قوة يبطش بها، ومع التقدم في العمر، تحولت متعته نحو توظيف هذا المال في العبث مع النساء، كأنه يريد أن يعوض النقص في نفسه، بثقافة اشباع الرغبة.

لنخرج من الفصل الأول بعدة عناوين أو قل ملامح..أهمها الأصول التركية للعائلة والمعروف أن التركي تاجر يعشق الثراء والوجاهة.. شخصية الأب الذي يشتاق لعودة الثراء القديم المفقود، للعائلة والذي يغذي هذا الإتجاه ويساعد في التخطيط له بحكمة التاجر العارف ، الابن خليل الذي لايطيق التعليم ولا التفكير، لكنه يطمح للثراء وفقط  ، سماح ابنه عمه المتوفي، الطالبة التى تعشق القراءة والثقافة على غير عادة الحسناوات .. وهنا تطل من جديد شخصية الأب التاجر الذي يرى في ابنة أخيه الجميلة صفقة سهلة رابحة بدعوى المحافظة عليها بزواج ابنه لها فيكون بذلك قد اصطاد العصافير كلها بحجز واحد؛ فيبدوا لمن يري المشهد صاحب فضل كبيرومرؤة؛ لم يترك ابنة أخيه المتوفي مطمعًا للغرباء، وأيضًا لايكلفه زواجها من ابنه نفقات مالية تُذكر، وكذا يضمن أحفادًا وجهاء ورثوا الجمال والطباع الهادئة من تلك الأم البارعة الجمال .. ثم قرار خليل الهجرة إلى القاهرة فهى مدينة الثراء من وجهة نظره، أيضًا هنا تطل خبرة الأب التاجرصاحب الخبرة فينصحة بشراء البيت الجديدة في منطقة راقية ” الزمالك” حتى لو استدان لإكمال ثمنه ، فالمكان المتميزة من ضرورات الوجاهة والمكاسب المضمونة  .

ومازال المؤلف في عزف سينفونية الغوص في النفس البشرية وألغازها المحيرة فتضعنا تضاريس الفصل الثاني على منحى آخر مدهش حقًا ،فنرى

سماح التي كانت صامتة مستسلمة لقدرها ، لاتناقش عمها فيما يحدثها عن مستقبلها الجيد مع ولده والحياة معهم فهم أهلها وقطعة منهم ، نراها تبوح  تتكلم، وكأن دراسة الفلسفة أو انزياح سوط الفقر الذي كان يجلدها دون أن تتأوه في صلابة نادرة ، قد أكسبتها لغة جديدة، لتقول في مرارة فلسفية إنسانية لايمكن حتى لقاس أن يلومها أو يتهمها  :” زوجي الذي اختاره الفقر لي” .

وتدور عدسة الرؤية في إخراج فني سينمائي مدهش فيحدث في أحدى رحلاتهم الصيفية الترفيهية أن تسبح في ماء البحر وحدها في الصباح الباكر، واستدرجتها الحالة الناعمة للماء حتى كادت تغرق ، ولكنها وحدها ، لاأحد على الشاطيء لينقذها، وخليل زوجها وولدهامهند في غرف نومهما تقول: ” لوحت بيدى في الفضاء بشكل عشوائي، البحر أصم، والماء مشغول بنفسه، والرياح لاتذعن للكائنات الصغيرة مثلي”.

ويحدث أن يراها على مبعدة منها  شاب وكأنه مبعوث القدرلإنقاذها ، فيحملها على ظهره إلى حيث الشاطىء، ثم بعد أن يساعدها في اسعافات العودة إلى الحياة التي كادت تفارقها ، يودعها دون كلمة ، دون نظرة عين تطلب منها أن تشكره لما فعل معها من جميل عمل ويمضي حتى دون وداع بهدف المماحكة رغم جمالها الآخاذ الذي يضعف له أى رجل!.

فنراها بعد أن زايلها التعب تغزوها تفاصيل لذة الإحساس بملامسة جسدها لظهر الشاب المنقذ ، أن تشعر بأن مايسمى في الإسعافات ” قبلة الحياة” بأن يضخ المنقذ زفيره الى صدر من ينقذه بملاصقه فمه بفيه ـــ وهناك وقفة طبية وليست أدبية وكأنت أحد أسئلتي في تعلم فنون الإنقاذ في أحد دورات نقابة الصحفيين التثقيفية لأعضائها ـــ قالت الإجابة : ليس كل مايخرج في زفير الإنسان غاز ثاني أكسيد الكربون الضارجدًا وربما القاتل ،  وإنما ثلثي الزفير من غاز الأكسجين الذي هو سر الحياة البشرية ؛ وتلك حكمة ونعمة إلآهية تستحق التأمل والشكر للخالق .

نعود إلى سماح بل عجائب النفس البشرية ، التى تسبح في لذة ملامسة جسمها لجسم شاب لم يتعمد ذلك ولم تتعمده، بل ربما لو راودها في ظروف عادية لأنتقمت منه .. وتهيم لذه في ملامسة شفاه لشفتيها ، وسريعًا ماتزول دهشتنا إذا أنقذتنا بصيرتنا أنه ليس جوعًا جسديًا ، فزوجها خليل يجتاحها بشكل يومي مثل وحش كاسر، يفترس غزالة رقيقة ..وإنما حنينًا إنسانيًا جعلها تندم لعدم تعرفها على هذا الشاب العابر،الذي طبع ملامسة جسدها المحمول على ظهره لجسده لذة لاتقارن، رغم كثرة اجتياح خليل لجسدها، خليل الذي لايحفل بالعدد إلا أمام خزينة صراف البنك ، على حد وصفها!

 

ولايتركنا مؤلفنا الذي أوقعنا أو وقع قبلنا وجذبنا معه في غواية المحبة المحمودة لشخصية سماح والإشفاق عليها، ففي الفصل الرابع يغوص في تلك التركيبة الإنسانية المتكررة في دنيا القسوة بشكل أو بآخر، يقول :

” نعم سماح تكره الكذب مع الآخرين، إلا أنها تدمن الكذب مع نفسها ؛ لتتلاءم مع أمواج الأفكار العالية التي تضرب ماشبت عليه، ولهذا فهي تسافر كثيرًا وهي في سريرها، حتى أنها تصارح خليل بما لايفهم “!.

غرفة واحدة بل سرير واحد يجمع بين نفس شفيفة  تعشق الحياة بطريقتها الإنسانية، ونفس لاتعشق إلا الأموال ومواقعة النساء بغلظة ؟

الحقيقة إن الإغتراب النفسي مع الشريك أصبح  مشكلة المشكلات التي تمتليء بها المحاكم الشرعية في بلادنا العربية إلا قليلًا  ، مشكلة الكثيرات أن يجتمع الغرباء المتنافرين تحت سقف واحد، أكثر منها قسوة أكيد أحدهم للآخر جسديًا بدعوى الحق الشرعي ، أو التهديد بالإنحراف، ولعل أكثر حالات الطلاق تأتي من هذا الإغتراب المقيت الذي فرضه الفقر المادي والروحي تارة والعادات والتقاليد التى نسيء استخدامها تارة أخرى .

هنا تتجلى فلسفة ” الزجزاج ” التي يقدمها الأديب نشأة المصري في روايته “كوتشينة” .. فيعرض عدة مشاهد  ، تارة ليس الفقر المادي بطلًا فيها، فنرى مشكلة صاحب المسدس والرتبة الرسمية  ـــ  المُقدم المفصول من الخدمة ـــ مع زوجته الطبيبة “. هامش يزيد حالة الإغتراب شرحًا وتوضيحًا .

أيضًا لاتتجلى تلك الفلسفة  التفكيكية في العلاقات الزوجية فقط وإنما في ملامح وروح ابن خليل وسماح وكأنه نسخة من  ابن صديق” النادي”    الذي قتله أبوه بطريق الخطأ وهو يحرك السيارة ، وعرض الصداقة عليه وكأنها محاولة جادة لتبني هذا الولد الشبيه عاطفيًا وكأنه ابنه المفقود وربما تزيد حالة التوأمة الروحية هذه بشكل كبير وكأنها واقع لايمكن الفكاك منه .

وهكذا يواصل المؤلف بنعومة وسلاسة شعرية  رسم تفاصيل شخوص روايته المدهشة ” كوتشينة”، فنرى صفوت الاعلامي  الذي كان يأمل أن يكون صيدلانيًا يمارس الادب إلى جوارالصيدلة، ذلك المختلف مع زوجته التى لاتطيق الثقافة ولا المثقفين ..إلا أنه هام بعشق جمالها، وصارحها بذلك فكانت عندها نقطة ضعفه التى تروضها بها وكأنها لجام في فمه ! وعودته إلى صندوق ذكريات الطفولة وكأنها المتعة الوحيدة التى لايمل منها .. بينما زوجته المتسلطة التي  أغلقت عليها باب غرفة النوم كعقاب له لأنه ببساطة يعشقها . نراها هى الأخرى تفتح صندوق ذكرياتها ولكن بشكل مختلف..فهى الآن تمتلك غرفة نوم كاملة بعد أن كانت تنام على “الكنبة” القديمة الفقيرة في بيت والدها إذا جاز أن يسمى بيتًا، رغم ذلك كانت مذ صغرها تتقمص دور الملكة التي يجب أن تطاع ساعد نفسها الشرهة في ذلك جمال جسدها وساقيها التى تذكره دون حياء بل مباهاة.. لنكتشف أو ليكشف لنا المؤلف بأن لكل منا صندوقه الأسود أو “الوردي” إذا شئت الدقة يهرب إليه كلما ضاقت نفسه .

وهاهي  شيماء ” الملكة” المزيفة تتذكرأو تدخل صندوق ذكرياتها ..تلك التى تملك سريرا وغرفة نوم رائعة بعد أن كانت تنام على كنبة قديمة في صالة بيت أبيها! تلك المتغطرسة زوجة صفوت الإعلامي المستسلم لعشق جمالها..

تقول:” أيقنت أن صفوت حين يراني يهتز، ويلتذ، وينسي كل الفوارق، وأنا أتربص بالأيام؛لأعوض مافاتني من عز ومال، فأنا أملك ثروة الجمال.. كما قال لي ذات يوم : أنتِ رائعة الجسد والساقين. ولم يخطر ببالي أن أقول له: سمعتها كثيرًا من غيرك.

صفوت الذي يكتفي بأن يراها سيئة وفقط ، لنكتشف بأن كل ظالم أومظلوم  يرى الشريك الآخر بشكل رديء، ويرى الحل في الهروب الى صندوق ذكرياته حتى لوكانت زائفة إذا أراد استمرار الحياة في بيته.. فالحل الآخر يفتح بوابة الجحيم في أغلب حالاته ، سواء الإنفصال النفسي والجسدى أوالغوص في بحيرات ربما تكون آسنة، بوهم قصة حب جديدة .. حياة أشبه مايكون بالتفاحة الفاسدة ـــ على حد تعبير الرواية ــ

تعامل المؤلف مع معطيات العصر بنجاح جيد ، أظهر دور أجهزة الإتصالات الحديثة مثل المحمول والتابلت في تواصل الأشواق بل ونجاحها في إتمام قصة حب قوية بين ابنته رولا والشاب الفرنسي ماركوس، الذي جاء إلى القاهرة وأعلن اسلامه من أجل حبه .. رغم الدهشة التي غلفت الكثيرين .

وبعد حفل بهيج سافرت العروس إلى فرنسا، فتفجرت الرغبات المكبوتة عند البعض لنجاح قصة هذا الحب الغريب ، ورصدت الرواية ذلك بعدما تسللت إلى غرف نومهم أقصد نفوسهم، فالخيال في غرف النوم لصاحبه سلوى من قسوة الحياة، وربما ثورة عليها وقرارات بالتغيير.

في فصل ذات اسم لامع ” لكن الحب للجميع “، ومابعده من فصول تكمله من حيث المعنى الباطني، يكشف المؤلف خفايا وخبايا تعاسات النفس البشرية التي يورقها دائمًا البحث عن الشريك أو قل المحبوب الذي يوافقها، ولكن يخيب مسعاها.. البعض يستسلم والبعض يتمرد..

اسمع إلى ” سماح” التي قررت الإنفصال تقول : هل أظل هكذا كزهرة،يقطف خليل أوراقي يومًا بعد يوم ؛ لتصبح عصًا جرداء مهملة، إذا لم أستطع أن أقفز من ذورق الحياة، فإن بإمكاني أن أطوح بمائدته الزاخرة بالطعام والكساء والذهب والأماني الباردة……..

صفوت الإعلامي، عاشق القراءة والثقافة والموسيقى المحبوب من الكثيرات والكثيرين إلا من زوجته المستبدة التي انتشلها من براثن الفقر، وعشق جمالها وصارحهابذلك ، فكانت المصارحة نقطة ضعفه التي تنتشي بتعذيبه بها ..

يتذكر العلاقات التي لن تتحقق جسديًا حتى لو سنحت الفرصة ، فقد أصابه الوهن والمرض.. يتحسس ساعة اليد التي أهدتها إليه سماح التى تبادلا عواطف مكبوته. ناريمان تتأمل عيونها الليلة الساحرة ، التى هاجمها الحزن عندما ذهبت لبيتها في خلوة مريرة حتى أن الوجع في داخلها هتف : ياالله ! هل كل الناس على شاكلتي؟

سحر ، حبيبته صفوت الروحية أو قل ابنته.. فاطمة حبيبة الأمس الذي كان يرحب بزوجها في حرارة شديدة وكأنه هي .. ..و …. كثير من الإحباطات تجعلك تهتف : كم كم قاس ياأيها الحب ، لكننا نحبك ، فالحياة لاتحلو لحظاتها إلا بك أيها العَذبُ العذاب .

وكأن المؤلف يمهد نفوسنا لإستقبال فصل الرعب ” ولكنها تباشير القيامة ” حين يأخذنا لإجتماع عالمى لعائلة الفيروس كورونا وهم يقسمون على العمل بحب شديد، في إبادة العالم وبخاصة الدول الكبرى المتغطرسة لتعود الأرض إلى عذريتها القديمة .. في فانتزيا مدهشة وخيال خصب مرعب !.

 

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,  الكاتب في سطور ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

محمد هلال القاص والناقد في جريدة الأهرام المصرية