كان القرن الأول الهجري من تاريخ التأليف والكتابة، هو عصر قول الشعر ومدارساته في أفواه الرواة وقائلي الأشعار، وكان ذلك ما يحدث في أسواق العرب مثل سوق عكاظ، والمربد، لكن الكتابة النثرية لم تكن تُعرف في القرن الأول الهجري، كفن قائم بذاته، إلا في منتصف القرن الثاني الهجري، فبدأ عصر التأليف والتدوين في فنون
الكتابة العربية، حتى صار النثر جنسا أدبيا من أنواع الكتابة، فأُلِّفَ في اللغة والأدب، والحديث والتفسير، والرسائل، في هذا الخضم الهائل للكتابة والتدوين في فنون الكتابة الأدبية، وفي النثر خاصة، ظهر كاتب مختلف عما كان يدور في عصره، كاتب وشاعر وأديب وفيلسوف عصره وزمانه، أراد بفكره العميق لنظرته حول الوجود، أن يقدم تفسيرا للوجود الكوني، وإلى الخوض فيما وراء الطبيعة، بما يعرف بالميتافيزيقا” في العصر الحديث، وهذا الأديب هو أبو العلاء المعري.
ولد أبو العلاء المعري في بلدة معرة النعمان في إدلب السورية، واسمه أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان التنوخيّ، ولد عام 336-449هـ 973-1057م عاش في عائلة مثقفة، حيث كان جده قاضيا في المدينة، ثم قد المعري نظره وهو في سن الرابعة، ثم أصبح كسيحا بعد ذلك، فلزم بيته، وقد التصق به لقب رهين المحبسين وقد
اُشتُهر به، درس المعري الأدب والفلسفة، والشعر والحديث، والتفسير واللغة، حتى أصبح أديب الفلاسفة، وفيلسوف الأدباء، حيث كان على قدر عال من الذكاء، والإبداع، فقد كان ينظر إلى الاختلاف سبيلا للتفوق على ما كان يدور في عصره، وفي هذا الإطار روي عن أبي العلاء المعري بيتا من الشعر، يلخص لنا، ما نحن في الحديث عنه، حيث قال:
أنا وإنْ كنْتُ الأخيرَ زمانَه لَأَتٍ بِما لم تستطعهُ الأوائلُ
أبو العلاء المعري
ضمن هذه النظرة أراد المعري، أن يتفوّق على علماء عصره، ومخالفتهم لما يكتبون، فرأى التميز بكتابة الأشعار مهنة مكررة، الكل يطرق بابها، فذهب إلى كتابة فن نثري مختلف، عما يدور في ذلك الزمن، فكتب رسالة الغفران، حيث أملى على كاتبه هذه الرسالة الطويلة، التي تعج بالكثير من المعاني، والفكر الأدبية والفلسفية، ومحاولة لتفسير ما وراء الكون، وكانت ردا على رسالة قصيرة
لصديقه المقرب ابن القارح، الذي يطلعه على حاله، ويشكو له عسر عصره، وأهل زمانه ويذكر فيها أمر توبته، وذكّره بنهاية الملحدين، الذين عُرفوا في عصره، وفي التاريخ، مثل: ابن الرواندي، والحلّاج، وبشار بن برد وغيرهم، فرد أبو العلاء على رسالة ابن القارح برسالة مطولة، تقع في أكثر من خمسمائة صفحة، يشرح فيها أهوال النار، ونعيم الجنة، في أسلوب سردي بلغة متفردة، مستخدما مصطلحات، وكلمات غريبة، لم تكن معروفة عندهم، وببلاغة عالية السبك، والتأويل، وبذلك عُدت عملا نثريا مميّزا تفوق به أبو العلاء على علماء عصره.