المأساة الحقيقية تكمن في تغييب الإنسان عقله، وفي جهله نفسه، وقدراته، وكيفية توظيفها لخدمته، وأن جوهر الصراع الحقيقي، هو بين الإنسان ونفسه، وليس بين الإنسان، وما يحيط به من مخلوقات، أو أشياء، أو ما يعلوه قدرةً، أي بين الإنسان، والآلهة، كما كان يرى كثير من المحلِّلين.
بقلم الكاتب الصحفي عبد الله
فبقدر ما يستخدم الإنسان عقله، يكون أكثر قدرةً على التوازن مع نفسه، ومع غيره، وبقدر معرفته بقدراته، التي يمتلكها وكيفية تسخيرها تسخيراً سليماً وصحيحاً في حياته، فإن عنا ذلك عناية سحيقة، يكون قد حقَّق التوازن مع نفسه، وهذا التوازن، هو الذي يضمن له التوازن مع ذاته، ومع أناه النفسي، أو مع ما يحيط به، فالإنسان مكون من عواطف، ورغبات وميول، وضعف وقوة، وكراهية ومحبة، وهذه كلُّها يجمعها القلب، فالإنسان قلب، وعقلٌ، وبقدر ما يوفِّق الإنسان بين هذين الشيئين، اللذين يكونانه يكون متوازناً مع ذاته، ومع غيره.
فالتوازن هو الفكرة الرئيسية، التي ركَّز عليها الفلاسفة والحكماء، ومن اقتفى أثرهم من الكتاب والأدباء، والشعراء الفلاسفة، وقد رؤوا جميعاً، أن العقل هو الأكثر قدرةً على جعل الإنسان متوازناً، كما رؤوا أن غياب العقل يحطِّم الإنسان ويشلُّ قدراته وتفكيره، ويجر عليه الويلات الكثيرة، من هذا المفهوم الجمالي للتوازن ومعرفة القيم الإنسانية، التي تتحدر بالإنسان من خلال الفطرة، بدا علم الشاعر اليوناني سوفوكليس، بهذا التمازج، والانتماء الروحي للنفس من خلال شخصية أوديب في مأساته، وهنا بدا للشاعر من خلال هذا التوازن أن يشرك الحيوان في هذا المعترك، حيث جعل حيواناً رابضاً على باب مدينة طيبة، يطرح سؤالا، ولم يكن سؤالاً عابثاً لا قيمة له، إنَّه السؤال الجوهري، الذي لم يعره الناس الانتباه، أو لم يلتفتوا إليه، أو يفكروا فيه من قبل، ولم يعرفوا معناه، وأسراره.
وبهذا الرجوع إلى أصل وجود الإنسان يتراءى أنه سيد الكون، والإنسان لا يكون إنساناً حقيقياً، إلاَّ حين يستخدم عقله في تدبير شؤون حياته، وليس من العبث في شيءٍ أن يبدأ سوفوكليس أول مشهد من مسرحيته بالحديث عن الإنسان، لقد أدرك الأدباء اليونانيون القدامى، وغيرهم من الفلاسفة، المأساة الحقيقية لشخصيات الأساطير كلِّها، وأين تكمن؟ فهي تكمن في عقولهم جميعاً، هذه العقول التي لم تُوظَّف توظيفاً صحيحاً في حياتهم، فجرّت عليهم المصيبة تلو المصيبة، وأدرك أن عرضها سيقود إلى اكتشافاتٍ أخرى، تمس جوهر الإنسان وحياته، وتفكيره، وتقوده إلى إعادة النظر في علاقته مع نفسه، ومع الكون من حوله، وتقوده إلى تغييرات جديدة لم يعتدها، أو يألفها من قبل، بل ربما ستقلب حياته رأساً على عقب.
وتعد أسطورة أوديب مرجعا لهذا التوازن، ولهذه التغيرات، التي تعتري طريق البشر، وتعد إطاراً فنياً مناسباً لمعالجة أزمة الهلاك، والموت وكارثة الأمراض والعقم، التي أُصيبت بها مدينة طيبة، ومعالجة اغتراب الإنسان المتعلق بالزمن، وبالروح الراجعة إلى المنبت الأولي والأصلي، الذي يعد رجوعا نفسيا فطريا لما تؤول إليه النفس البشرية، التي هي من روائع الطبيعة وأعظمها على الإطلاق.
فتقول الأسطورة: إن الآلهة اليونانية قضت أن يُقتَل ملك طيبة لايوس على أحد أبنائه، فلما رُزق ولدًا، أمر بتركه في قمة جبل؛ لتفترسه الوحوش، ولكن أحد الرعاة وجده؛ فحمله إلى بلدة نائية، تدعى كورانتيا، وحرص على تربيته، ورعايته، ولما شبَّ، أخذ يسمع تعريفا غريبا بولادته؛ فلجأ إلى الكهنة يستشيرهم، فأوحوا إليه: أنه إن عاد إلى وطنه، فسيقتل أباه ويتزوج أمه، وهجر كورانتيا، وأخذ يضرب في أرجاء اليونان، وعند أبواب إحدى المدن، صادف شيخا مهيبا مع حرسه؛ فتشاجر معه لسبب تافه، وقتله من حيث لم يرد، ودخل مدينة طيبة؛ فوجد المدينة في كرب شديد؛ بسبب وحش غريب مهلك، يسأل كل غاد ورائح لغزا معينا، فإن عرف الجواب نجا، وإن لم يعرف الحل عدا عليه الوحش وافترسه.
وأعلن كاهن طيبة، أنه يهَب العرش وزوجة لايوس، الملك الراحل، الذي قتله أوديب دون أن يدري لمن يقضي على ذلك الوحش، ويخلص المدينة، وتصدى أوديب للمهمة الخطيرة، ونجح في إعطاء الجواب الصحيح؛ فخر الوحش صريعا، وآل إلى الوافد الغريب مُلْكُ طيبة، وتزوج الملكة.
ويظهر وباء في طيبة، ويستفحل الأمر، ويستشير الملك الكهنة؛ فيعلنون أن الوباء لا يرتفع عن طيبة إلا إذا عوقب قاتل الملك لايوس، على جريمته، ويذيع أوديب في الناس، أن قاتل لايوس عدو للشعب، لا ينبغي إيواؤه، ولا التستر عليه، ويجِدُّ في البحث عن الحقيقة، وتتكشف له الحقائق رويدا رويدا، ولاسيما عن طريق الكاهن الأعمى، تيريزياس، الذي يعد رسول الحقيقة في هذه السلسلة من المآسي، التي أحاطت بأوديب وسلالته، وأخيرا يؤتى بالراعي، الذي أنشأ أوديب، وبحارس الملك، لايوس، كان قد نجا من حادثة العراك مع أوديب، وتتكشف لأوديب الحقيقة المرة المفزعة الصارخة، فهو قاتل أبيه، وهو زوج أمه، وهو الذي وقع في يد القدر، من حيث حاول أن يهرب منه، وهو الذي سعى إلى حتفه بيده؛ لكثرة ما بذل من جهد للكشف عن قاتل لايوس، ويواجه أديب أمه وزوجته، جوكاستا، ويتجلى فزع الموقف بما لا يطيقه أي من بني البشر، وتسارع جوكاستا إلى قتل نفسها؛ فيعمد أوديب إلى انتزاع المشابك الذهبية، التي كانت تتخذها زينة لها؛ ويفقأ بها عينيه.