نوسوسيال

رواية ” ملائكة في الجحيم ” لنشأت المصرى بين القيمة الأخلاقية وأدبية النص

256

 

 

                                            /  القاهرة :  بقلم الدكتور شعبان عبد الحكيم  /                                     
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

 

                                                -1-

نشأت المصرى مبدع متعدد المواهب والعطاء ، كتب الشعر والرواية والقصة القصيرة ، ناهيك عن رحلة طويلة في العمل الإذاعى وإخراج كثير من الأعمال الفنية ، و نذكر من أعماله الشعرية إلا هذا اللون الأحمر ، الدفء والتلاشى ، حوت يونس ، صبر أيوب ، ناقة صالح ، نار إبراهيم ، قد نختلف  ، الحفر إلى أعلى ( مسرحية شعرية ) …إلخ  ، ومن أعماله القصصية : قالت الأشجار قصص شعرية ، صانعة الإشعاع قصة شعرية ، البذور الغامضة، قصة شعرية ، خالد بين الأخطار قصة شعرية، السباق العجيب قصة شعرية ، ومن أعماله الروائية : المهزوز ، خاص جدا ، كوتشينة ، ملائكة في الجحيم ….إلخ ، وسنقف على رواية ملائكة في الجحيم .

ولعل ما يميز كتابات نشأت المصرى الجانب الإنسانى ، فهو أدب هادف ، يسمو بالإنسان ، ويرتقى بإنسانيته ، ليعبر الأدب عن روح التفاؤل في بناء الإنسان ، البناء الأخلاقى السامى ، الذى يسمو بالقيم والأخلاق ، وكأن الكاتب يوحى بأن تغيير المجتمع في عصر الانفتاح والعولمة لا يكون إلا برجوع الإنسان إلى إنسانيته وسمو مشاعره وأخلاقه ، ولكن هذه القيم ( الأخلاقية ) لا تجىء على حساب القيم الفنية في النص ، فالنص قبل كل شىء نص أدبى ، أى يخضع لمعايير الأدب ، لا لمعايير الأخلاق والالتزام .

وفى هذا النص جاء اهتمام الكاتب بالقيم الأخلاقية متمثلة في قيم الطبيب ، واعتقد أننا لا نبعد عن الصواب حين نقول إن أقرب المهن التى تعكس لنا الجانب الإنسانى مهنة الطب ، لأنها مهنة تلتحم بالإنسان في لحظات ضعفه ، واحتياجه للعون في أعز ما يزخر له في الدنيا صحته التى بها حياته ووجوده ، لذا يظهر هذا الجانب لمن ينغرس فيه قيم مهنة الطب أكثر من غيرها من المهن والمجالات الأخرى .

-2-

تبدأ الأحداث في المستشفى العام بموقف به الخيانة والتربص ، حيث تضع ميادة (كبيرة الممرضات ) رسالة مدلسة في جيب جاكت الدكتور بهجت تدعى فيها أنها رسالة اعتذار لها لعلاقة حب سابقة معها ، وذلك لبعث الفتنة بينه وبين الدكتورة نرجس ، لغيرة الدكتور يحيى من الدكتور بهجت الذى يفوقه خلقًا وعلمًا لاستحواذه على قلب الدكتورة نرجس ، وهذا الموقف يبرز لنا لطبيعة الصراع في الرواية بين القيم واللاقيم ، دكتور يحيى همه المال ولا يكترث بالجانب الأخلاقى ، ديدنه الحقد والغيرة والدسيسة ،  إضافة إلى جمع المال بكل الطرق ،  يؤسس مستشفى خاصة لاستغلال المرضى  (مستشفى الزهور ) ويقوم فيها بإجراء عمليات غيرمشروعة ، ويصطحب معه ميادة لتحصل على أجر يضاعف الأجر الذى تتقاضاه من المستشفىالمركزى ، يأخذها كأنثى جميلة ليستمتع بها ، ولكن لا يضع في حسبانه – كما تتصورهى –  أنه سيتزوجها ، وخدعها بإبرام عقد عرفى بينه وبينها ، ليستمتع بجسدها بصورة مبررة ظاهريًّا ، وجرى وراء الدكتورة نرجس والتى خُدعت به ، ثم أفاقت عندما علمت الحقيقة ، وانتظرت الدكتور بهجت  ….هكذا تبدأ الأحداث بصورة تثير انتباه القارىء فيعايش النص – بهذه الصورة  الشائقة  – حتى نهاية النص ، فلا تجد حدثًا مملُا ، ولا يتوقع أحداثًا يتوقعها القارىء قبل حدوثها ، نتيجة لمبدأ السببية والعليّة ، التى تبنى عليها أحداث كثير من القصص ذات البناء الهرمى مثل هذه الرواية ، تتطور الأحداث بعد ذلك فينقل دكتور بهجت إلى مستشفى بالقوصية محافظة أسيوط ، لرفضه استلام أجهزة مستخدمة من قبل مخافة من نقل فيروسات مضرة بالإنسان ، وفى القوصية تبرز شخصيته الطيبة النقية في خدمة المرضى ، فيجد من حب الناس ما يسعده ، ويلتقى بالدكتورة فكرية التى تحبه ، وتطلب منه المساعدة في إعداد رسالة دكتوراه عن المناعة ، يلزمها ذلك السفر إلى جامعة القاهرة ، فيكون لها عونًا في الجامعة ، يقضى عامين ويودعونه بحفل تكريم ، أثناء هذه الفترة كشفت ميادة لؤم الدكتور يحيى لطلبه الزواج من الدكتورة نرجس ، وإسكاتها بعقد عرفى ، فثارت لكرامتها كأنثى ، وبعدها أخذت كل المستندات من مكتبه ، وأبلغت دكتورة  نرجس بما حدث ، وأن الخطاب الذى وجدته في جيب الدكتور بهجت هى التى وضعته بتخطيط من الدكتور يحيى ، بعدها يرجع إلى القاهرة فيمارس عمله في المستشفى المركزى ، بجوار عمله في مستشفى الرحمة الخاصة به ، والتى يعالج فيهامرضاه بأجر رمزى، يتزوج من دكتورة نرجس ، وبعدها تعلن وزارة الصحة عن حاجتها لأطباء يذهبون إلى الصومال لمعالجة المصابين هناك جرَّاء الحرب الأهلية هناك ، فيغامر بحياته ، ويذهب إلى مقدشيو ، وهناك يرى القتال رأْى العيان ….تسلمه العناية الإلهية ، ويرجع سالمًا ، ويستمر في عمله ( في المستشفى المركزى ، وفى مستشفى الرحمة ) تتوالى الأحداث لنكتشف أن نرجس بها عيب خِلْقى  يمنعها من الإنجاب ، وبعدها يسافر مع وفد طبى إلى غزة ، لمعالجة المصابين في الانتفاضة ، وبعد رجوعه يجد صفاء محتاجة إلى زرع كلى ، يبحث جاهدًا لإجراء هذه العملية ، تقف أمامه عقبة المال ، ولكن عون الله له ييسر زوجته دكتورة نرجس فتتبرع بكليتها ، وبعد نجاح عمليتها تتزوج من رجل اسمه عادل ، ماتت زوجته ، ولديه بنت صغيرة في المرحلة الإعدادية ، وفى هذه الأثناء يتم القبض على الدكتور يحيى بحجة الإتجار في الأعضاء ، ويُحكم عليه بعشر سنوات تجتاح البلاد جائحة كورونا ، يحول الدكتور بهجت عيادته مستشفى لمرضى كورونا  ، يكون ضحيته في المستشفى عدد من الأطباء منهم الدكتور سالم ، وأعتقد الدكتورة نرجس التى ماتت إثر نزيف في المخ ، ولم يذكر الكاتب أنها ماتت ضحية فيروس كورونا ، ولكن – في ظنى – قد يكون هذا الحدث جاء من مضاعفات هذا الفيروس اللعين ، وتنتهى الرواية برسالة من الدكتورة فكرية تخبره بأنها سافرت إلى أمريكا ، وشاركت مع زملاء في التوصل إلى لقاح لعلاج كورونا .

فالبناء الفنى للنص وإن جاء تصاعديًّا ( أو هرميًّا ) لا يخضع لبناء السببية ( حدث يليه حدث ناتج عنه )  وهذا لايجعلنا نتصور وقوع أحداثقبل سردها ، فتذهب طزاجة النص ، وصدمته للمتلقى .

فمثلًا رفض دكتور بهجت تسلم أجهزة مستخدمة من قبل ، لا يجعلنا نتوقع نقله كرد فعل من الإدارة ، وفى القوصية لا نتوقع ما سيقوم به الدكتور ، حتى ولو عاش يعالج ( الغلابة ) على نهجه لا نتوقع تكريم المحافظ له نهاية خدمته هناك ، ولا نتوقع أثناء التكريم أن يهديه أحدهم وكان جميلاً خروج شاب من بين الصفوف، وفى يده صورة شخصية رسمها بريشته البارعة للدكتور بهجت، ألبسه فيها جلبابًا صعيديًا بالكم الواسع ، وفتحة الصدر المستديرة ، والطاقية المنقوشة ، قبله بهجت شاكرًا، ثم برز آخر وأهداه أبياتا مكتوبة على ورقة من أوراق البردي جاء فى مطلعها : حبيبي أنت يا بهجت  /بلا لقب ولا دكتور / إليك قلوبنا اتجهت / لأنك فرحنا المسطور ، قال المحافظ فى كلمته :أحيانا كنا نحاكم البالطو الأبيض لخطأ أو تقصير، واليوم ننحنى له.

ونضرب مثالًا  آخر يدلل على طزاجة البناء الفنى ، يفترق الدكتور يحيى وميادة ، وترجع ميادة لأهلها،  ولكننا نجدها  ترجع لعلاج خالتها من فيروس كورونا ، وتتقابل مع من اصطدمت بهم من قبل ، وكانت آخر وجهتها مستشفى الرحمة ،وتلتقى بالدكتور بهجت وزوجته دكتورة نرجس اللذين نفذت تخطيط الدكتور يحيى  للتفريق بينهما ، بدس رسالة  في جيب الدكتور بهجت كما ذكرنا …إلخ .

ويتصف البناء بالإحكام لا بالصورة المنطقية ، ولكن بالصورة الفنية التى تتجاور فيه الأحداث برابطة ( الشخصية ) والمهنة ( ممارسة الطب ) ولا نجد مطًّا للأحداث ، ولا إطالة لا طائل منها ، ولا جنوحًا في الوصف الممل للمكان والحدث …إلخ .

والنص – بعد – يعالج لمشكلة أخلاقية ولكن يظهرها الكاتب في صورتها الإيجابية ، حيث الدكتور بهجت الذى يضع صورة الدكتور محمد مشالى ( طبيب الفقراء ) نصب عينيه على مكتبه ، ليكون الدكتور مشالى( رحمه الله ) القدوة والنموذج الجميل للطبيب ذى الخلق ، وقد جاء انتصار الخير على الشر ، والجميل على القبيح كرسالة للكاتب يقرها ضميره وتطلعاته وأمله المنشود في الحياة ، فقد حُبِس الدكتور يحيى ،  ونجح الدكتور بهجت في حب الناس له ، واستراحة ضميره من الداخل لأنه أدى ما أملاه ضميره عليه ، فليس المال كل شىء ، فهناك أشياء لا تشترى على رأسها الأخلاق ، والعطاء دون انتظار مقابل .

-3-

الشخصية هى عماد العمل الروائى ، من خلالها تنسج الأحداث ، ويكون الصراع ، والشخصية تمارس نشاطها في حيز زمانى ومكانى ، وأبرز هذه الشخصيات في هذه الرواية : شخصية دكتور بهجت ، دكتورة نرجس ، صفاء ، دكتورة فكرية ، دكتور سالم ، دكتور يحيى ، ميادة كبيرة الممرضات …إلخ ، ونلاحظ في بناء الشخصيات تغلب الشخصيات الخيّرة على الشخصيات الشريرة ، وتأتى هذه الرؤية امتدادًا للرؤية السردية للكاتب ، فالشخصيات الخيّرة هى التى استحوذت على معظم أحداث النص الروائى ما عدا الدكتور يحيى ، الذى اتخذ ممارسة المهنة كتجارة ، أنشأ مستشفى خاصة ( مستشفى الزهور ) وكسب منها الأموال الطائلة ، ومارس نشاطات غير قانونية كالإتجار في الأعضاء ، وكانت نهايته السجن ، وحرص الكاتب على رسم ملامح شخصياته رسمًا دقيقًا ، فجعل هذه الشخصية من صباها شخصية نفعية ، لا يهمها سوى مصلحتها ، نشأ في أسرة غنية ، لذا لا يشعر بالفقراء ، تعالى على زملائه الأطباء الفقراء ، حصل على بكالوريس الطب من جامعة خاصة لعدم تفوقه في الحصول على درجات عالية تدخله كلية الطب الحكومية ، كان يحقد على زميله بهجت منذ الصغر – وهما تلميذان في المرحلة الابتدائية –  فقد كان بهجت محبوبًا من زملائه ، ومتفوقًا عليه ، مما دفعه إلى التحرش به لضربه ، لأنه كان أطول منه ، وجسمه ممتلىء عنه ، ولكن بهجت تأنى مهادنًا ، ثم ضربه وأوقعه أرضًا …. بعد ذلك تربص به وهو زميل معه في المستشفى ، فصنع خدعة له ليبعد عنه حبيبته الدكتورة نرجس ، ولكن هذه الخدعة اكتشفت بعد فترة ، وظل يمارس نشاطه المريب في مستشفيته الخاصة ، فتاجر في الأعضاء ، حتى قبض عليه ، وسجن عشر سنوات ، هذه هى الشخصية الوحيدة الشريرة في الرواية ، تعبيرًا عن تأصل الخير في النفوس ، ونحمد للكاتب رؤيته التفاؤلية هذه ، والشخصية الثانية التى مارست الشر هى شخصية ميادة كبيرة الممرضات ، والتى نفذت مخطط الدكتور يحيى أملًا في الزواج منه ، وفرحت بالعمل معه في مستشفيته الخاصة للحصول على المال الأكثر ، وللزواج منه ، وانساقت وراءه  فوضعت رسالة في جيب الدكتور بهجت ، لتفرق بينه وبين الدكتورة نرجس لتحوز رضا الدكتور بهجت  ، ولكنها بعد ذلك فهمت مقصده ( دكتور يحيى ) بعد زواجهما زواجًا عرفيًّا ، ووجدته يريد الدكتورة نرجس ، وخطبها ، وهنا فاقت من ضلالتها وطحنت الغيرة قلبها وتساءلت في منولوج داخلى  ( إلى متى أكون عنصرًا مساعدًا، وكاتم أسرار بالمجان، ألست شريكة فى ذنوبه من دون عائد، يا إلهي حتى أجهزة الغسيل الكلوي التي رفضها بهجت يستخدمها يحيى فى المركزي والزهور أيضًا، فثمنها ثلث ثمن الأجهزة الجديدة، وهذه الفروق فى الأسعار ستؤول إلى الملكة نرجس ، وأنا يكفيني شرف المشاهدة والمباركة، هى صاحبة الجلالة ، وأنا صاحبة الفتات، كلا يا يحيى، لم تعد ساحري، والأخطر من ذلك كله تلك العمليات السرية الخاصة باستئصال الأعضاء، ياله من مستنقع لامع ، أمي الفلاحة قالت : لا تدفعي الثمن مقدمًا ).

وجمعت كل الأدلة على إدانته ، وتركته ، وبعدها ألغت الدكتورة نرجس بما حدث ن وتأسفت لها ، كما تأسفت للدكتور بهجت عندما أدخلت أمهامستشفى الرحمة ….إلخ .

وشخصية ميادة – هنا – شخصية نامية ، عاشت لحظات متناقضة ، اخطأت ، واستيقظ ضميرها ، وتندمت على خطئها ….

وباقى الشخصيات بعد ذلك شخصيات خيّرة ، وقد أجاد الكاتب في رسم شخصياته ، وأولها شخصية الدكتور بهجت ، شخصية بسيطة طيبة من الداخل ، ترفض التعالى والكبرياء ،  والاستغلال والتربح بصورة غير مقبولة ، وينظر إلى مهنته كمهنة إنسانية قبل كل شىء، ينشىء مستشفى خاصة لمعالجة الفقراء بأجر رمزى ، يعيش حياة العوذ ، رغم أنه طبيب ، وأمامه مستشفيات خاصة استثمارية ، كمستشفى الزهور للدكتور يحيى الذى عرض عليه العمل معه بمبلغ جزيل ، لكنه رفض ، لا يتكلف في ملبسه ، حتى أن منظم احتفالية تكريمه في محافظة أسيوط ، لم يعرفه للبسه المتواضع ، يحب الناس والحياة ، إنه امتداد للدكتور محمد مشالى طبيب الفقراء ، يسافر – مضحيًّا بنفسه – إلى مقدشيو مرة  ، وإلى غزة مرة أخرى ، لعلاج الجرحى ، رغم وجود حروب طاحنة ، قد تودى بحياته ، يحوّل مستشفى الرحمة إلى مستشفى علاج مرضى كورونا ، رغم خطورة هذا المرض ، مخلصًا في حبه للدكتورة نرجس ، وعندما أحبته الدكتورة فكرية لم يصدمها ، بل تجاوب معها ، ولكنها بفطانة المرأة لمحت ما بينه وبين الدكتورة نرجس ، عادت إلى بلدها القوصية ، وتركته مع محبوبته الأولى ، وظلت مرتبطة به روحيًّا ، حتى نهاية الرواية ، حيث خاطبتها من أمريكا وأعلمته توصلها مع زملاء لها إلى مصل لفيروس كورونا …

وتأتى شخصية الدكتورة نرجس في المرتبة الثانية من حيث مشاركتها في الأحداث ، وسمو ونبل  أخلاقها ، أخلصت للدكتور بهجت ، ولكن الرسالة التى وجدتها في جيبه ، جعلتها تثور كأنثى غيورة محبة ، لاترضى أن يستحوذ غيرها على محبوبها ، وكانت هذه الرسالة موقعة باسم ميادة والتى جاء بها ” حبيبى دكتور بهجت، أشكر الله على اللحظات الممتعة التى قضيناها معا، لقد منحتني السعادة وعلمتني الحب، وشعرت بين يديك بأنوثتي ، أخبرك أننى مضطرة إلى ترك المستشفى من اليوم لأسباب خاصة، وقد لا نلتقى مرة أخرى، لك كل التحية والشكر… حبيبتك  ”  ميادة.

وهذا مبرر فنى مراعاة لطبيعة الأنثى ، وعندما عرفت الحقيقة واجهت الدكتور يحيى بخطئه ، وظلت وفيّة لحبيبها الدكتور بهجت ، وبعد رجوعه من القوصية تزوجا ، وعمل معًا في مستشفى الرحمة ، من أجل الفقراء والمحتاجين ، لم يطلبا مالًا ، أو ثراء ً، صبرت في ابتلائها بمرض في المهبل يحول دون الإنجاب …تطوعت بكليتها لصفاء أخت زوجها ، لوقوفها بجوارها في تصفية ما علق في نفسيهما ( هى والدكتور بهجت ) ماتت ضحية فيروس كورونا في متابعتها لحالات مرضى كورونا في مستشفى الرحمة …إلخ .

الشخصية الثالثة من حيث تأثيرها في بنية النص شخصية صفاء ، شخصية نقيّة طيّبة كأخيها الدكتور بهجت ، لازمته حياتها ، لتأخرها في الزواج ، كانت حمامة السلام بين أخيها والدكتورة نرجس إثر أزمة رسالة ميادة الملفقة ، عاشت معه فترات المعاناة فترة كورونا …إلخ .

والشخصية الرابعة ذات التأثير الكبير في بنية النص شخصية الدكتور سالم ، وهو طبيب يقدر شرف مهنته ، ويسمو بها ، ويعتبر نفسه ثالث ثلاثة  أطباء الفقراء ( دكتور مشالى ودكتور بهجت ) ضحى بحياته ومات شهيدًا بفيروس كورونا وهو يتابع حالات المرضى بهذا الفيروس …إلخ .

ومن هذه الشخصيات – أيضًا – شخصية الدكتورة فكرية ، شخصية طيبة نقية ، تحب الناس والحياة ،  وكانت تتمنى أن تقدم منجزًا يفيد البشرية ، وقد تحقق ذلك نهاية الرواية ، حيث سافرت إلى أمريكا للحصول على درجة الدكتوراه في المناعة ، وهناك شاركت في اختراح لقاح ضد كورونا مع زملائها هناك ، تعرَّفت على الدكتور بهجت بعد نقله إلى القوصية ، أحبته لأخلاقه ولتعامله الراقى مع المرضى ، وأردات أن يخدمها في سفرها إلى جامعة القاهرة ، لإعداد رسالة دكتوراه عن المناعة ، وعندما التقت به في القاهرة شعرت – كأنثى- بالعلاقة التى بين الدكتور بهجت والدكتورة  نرجس ، فكان لقاؤهما وداعًا دون أن تعلن عنه ، وظلت وفيّة له كصديق ، حتى بعد ذهابها إلىأمريكا ، وكان أول منزفت له خبر نجاحها فىالتوصل إلى لقاح ضد كورونا الدكتور بهجت …إلخ .

ومن الشخصيات الثرية شخصية الطفلة( فرح ) ابنة عادل الذى تزوج من صفاء ، فرغم صغر سنها ( في المرحلة الإعدادية ) ولكنها كانت فطنة واعية ، أدركت خطورة مرضها ( حيث أُصيبت بفيروس كورونا ) يقول عنها الكاتب : تؤرجح فرح  هواجس وأفكار تتجاوز عمرها بكثير ، هم ينظرون إليها كطفلة كبيرة ، قالت لنفسها (إنهم يفترضون أننى يجب أن أصدقهم ، ولا أطيل الحوار معهم، إذ أن الإجابات واحدة ، اطمئني، أنت في تحسن، لا تخافي ، حالتك مستقرة ، كلنا مجندون لك ولغيرك ، بينما ما فهمته بعقلي الطفولي أنهم يكذبون، فالكحة تفترسني في فترات متلاحقة، وأنا مرعوبة مما سمعته عن ضحايا كوفيد 19 ( الكورونا)، كل يوم يموت أناس وأطباء أيضًا هذا ما نقلته لى أخبار جوجل على محمولي، ولن أكذب على نفسي فإن حالتي تسوء ، ولا أحتاج إلى تقرير طبيب، فأنا المريضة وهم المجندون ، أنا أتعاطف معهم …..

فهم يأتون من وقت لآخر، ثم  يغادرون سريعًا عدا دكتور سالم فهو أكثر صبرًا معي وإنصاتًا لي، وهو المنوط بمتابعتي على ما أتصور، وهو يشفق علىّ من استخدام جهاز التنفس الاصطناعي، كما سمعته يهمس للدكتوره نرجس أعرف أنهم يقللون احتمالات العدوي بمرورهم الخاطف ، ربما لو كنت مكانهم لفعلت ما يفعلون ، فهل تتفق ظنوني مع ما يحسبه الأطفال؟!  لا أحد يذكر أمامي كلمة الموت ، وهو مني قريب ، ربما يترصدني في ركن هذه الغرفة ، علىّ أن أقرأ آيات من القرآن، وهذا ما أفعله بعض الوقت بحب وارتياح …إلخ .

ويُحمد للكتاب في رسمه لملامح شخصياته تشعر بتميز كل شخصية عن الأخرى ،  ويلجأ أحيانا لوصف الملامح الظاهرة لشخصياته كوصفه لجمال ميادة الذى يتجلى فى وجهها المشوب بالخجل والدفء الساحر، وجسدها حديقة من ثمر مختلف ألوانه ، وعيناها بلون نزوات الليل، وأنفها الدقيق ينقر أنفي، ولسانها حلوى لا تنقص أبدًا  .

وكوصفه لملامح شخصية الدكتورة نرجس بأنها طويلة القوام ، والأذنان الصغيرتان ولا أجمل ، والرقبة الملكية الطويلة ، والشفاه التى تفتنك قبل أن تنطق ، والأسنان البيضاء ، وشعرها غابتان من ليل دافىء ، والعينان لامعتان بالتمرد ، ولون بشرتها بين الخمري والأسمربلا نظير.. كل هذا الجمال هل تضمه ذراعاى ذات يوم ؟… ووصفها في موضع آخر فىمنولوج داخلى ( ما الذى يجذبني إليك؟ وجهك الذى ينافس القمر قبل الصعود إليه، ولونك الخمرى المسكون بالنشوة، وشفتاك كخاتم سليمان نضارة واستدارة ، وصدرك الناجز المتحفز، وسرك الأعظم فى ساقين فوق كل حسبان، وبعد ذلك كله هذا الصوت الفيروزى الذى يسلبنى مرافىء الوسنان ، يا إلهى ، كل هذا يتبدد فى يوم واحد ملعون، كم كنت إنسانة وأنا أحدثك عن أبي، أسطورة المحبة والسكينة…إلخ ) وإن ركز الكاتب على الصفات المعنوية لشخصياته ، فالدكتور بهجت شخصية راقية في كل شىء ، بلغ سموه في تركه لميراثه من أبيه ، لأنه لا يريد مشاحنات مع عمه وأبناء عمه ، وترك عقدًا في دولة الكويت ، من أجل معالجة الفقراء في مستشفيته ، رغم كل إساءة الدكتور يحيى له ، يزوره في سجنه …إلخ .

-4-

باقى الشخصيات في النص إما شخصيات ذكرها المؤلف مشاركة في بعض الأحداث ولكن جاءت مشاركتها في بناء الأحداث محدودة ، كشخصية عادل الذى تزوج صفاء ، كانقد فقد زوجته ، وله منها طفلة ( اسمها فرح ) لازمها فترة مرضها وإجارء عمليو زرع كلية ، وبعدها طلب يدها وتزوجها ، كان شخصيةنبيلة تبرع بكثير من ماله في دعم مستشفى الرحمة فترة كورونا ، ومن هذه الشخصيات شخصية الدكتور خالد صديق الطفولة الذى دعاه ( دكتور بهجت ) ليسلم عليه وهو مريض ، فذهب إليه ، وتبرع له بكيس دم ، لاتفاق فصليته مع فصيلة دمه .

ومن هذه الشخصيات – أيضًا – عم الدكتور بهجت الذى صادر ميراثه في أبيه ، ولكن الدكتور بهجت كان يرى أن المال يأتى ويذهب لكن صلات الرحم باقية بدون مستندات ، فقد حضر زفاف الدكتور بهجت بالدكتورة نرجس ، وكان بصحبته ابنه الرائد خالد ذو الأوداج المنتفخة والشارب المجنح، وظهر عليه أمارات الاعتزاز بالنفس .

ومن هذه الشخصيات – أيضًا – زوجة الدكتور يحيى ( سيدة الأعمال فدوى ) التى تبرعت ببعض الأجهزة الغالية لمستشفى الرحمة من حسابها الخاص ، ومنها – أيضًا – الدكتور ممدوح الذى كان يعمل في الاستقبال بمستشفى الرحمة ، وكان يحصل مالا من بعض المرضى منهم ، خالة ميادة ، لولا إدراك الدكتور بهجت لهذا الأمر …. هذا عن الشخصيات التى كان لها حضور في النص مع محدودية دورها في بنية النص .

وهناك شخصيات ذكرها المؤلف دون حضورها فى ساحة النص ، منها :  ابنة عم الدكتور بهجت الثرية التى رغبت في الزواج منه ، ولكنه رفض ، لأنه يريد الاقتران بامرأة في مستواه الاقتصادى ، وترغب في الحياة البسيطة ، التى تعيش في عمل الخير ، لا الجاه ، ولا الثراء ،

ومنها صديق الدكتور بهجت بالكويت الذى أرسل له تهنئة من الكويت بمناسبة زفافه مرفقًا بها عقد عمل بإحدى المستشفيات هناك ، ومنهم زملاء شاهدهم الدكتور بهجت منهم طبيب توفى إثر طلق نارى قبل مغادرته مقدشيو بيوم ، وشخص آخر أُصيب بطلق نارى ولقى حتفه .

ومنهم راكب في الأتوبيس دفع  ثمن التذكرة من الدكتور بهجت ، لأنه تعالج في مستشفى الرحمة ، وصرف له العلاج مجانًا ، زوج ميادة الذى وصفته بالرجل الطيب ن وكل ما نعرفه أنه أهداها نظارة سوداء في احتفال عيد زواجهما ، ومن هذه  الشخصيات – أيضًا – عم حسنين، وابنه سمير الذى حاول الانتحار لظروف الوالد المادية لم يعطه الأنسولين في موعده ، فأشعل في نفسه النيران ، فجرى نحوه ، وأطفأ النيران ، وأسعفه بالذهاب معه إلى المستشفى ، وأحضر له بعد ذلك العلاج  ،ومنها شخصية محافظ أسيوط الذى كرَّم الدكتور بهجت نهاية عمله في القوصية ، والمشرف على الاحتفالية الذى استغرب لظهور الدكتور بهجت في صورة بسيطة لا تكلف فيها في الملبس والجلسة …إلخ .

-5-

الزمن والمكان – في هذه الرواية –  تقنيتان فنيتان ، تبدأ الأحداث من نهاية عام 2011 ، نعرف ذلك من رويه عن ميادة حين نزعت أول ورقة من الأجندة، معانقة اليوم الجديد 2 يناير عام 2012 ، وكان ذلك بعد وضعها رسالة مدلسة في جيب الدكتور بهجت ، وتركها المستشفى المركزى ، لتعمل مع الدكتور يحيى في مستشفى الزهور بمبلغ مضاعف ، وتنتهى الرواية عام 2020 واستشراء فيروس كورونا ، فقد جاءته رسالة من الدكتورة فكرية تنبئه بمساهمتها في التوصل مع زملائها في أمريكا إلى اختراع لقاح ضد كورونا .

وخلال هذه الفترة هناك بعض الإشارات الزمنية ، فنعرف أن الدكتور بهجت نال جزاء بالنقل إلى القوصية لمدة عامين ،  ورجع عام 2016 ، أى ذهب إلى القوصية عام 2014 ، وبذلك كان زواجه من الدكتورة بعد هذا التاريخ ، وكذلك مرض أخته صفاء ، ثم زواجها كما ورد في إشارة زمنية  في قول المؤلف ”  اليوم هو الموافق 25 ينايرعام 2018 ، اختارته صفاء لأنها تحب ذكراه ،  ولأنه ميلاد لكل الأفراح، ليكون يوم حفل زفافها ، تجمعت طيور الفرح حول مكان الحفل على حافة النيل ” وخلال هذه الفترة ذهب في قافية طبية مع زملاء له إلى مقدشيو ، ثم إلى غزة بعد هذا التاريخ ، واختيار الزمن هذه الفترة – هنا – له دلالته ، فقد اختار الكاتب فترة ما بعد الثورة لحدوث تصدعات أخلاقية في جسد المجتمع ، ثم فترة كورونا التى زلزلت المجتمع  ،  وظهرت معادن الناس ، وخاصة الأطباء ، الذين ضحى كثير بحياته فداء لحياة المرضى ، فوسط هذا الجحيم وجدنا أطباء شرفاء يضحون بأنفسهم من أجل حياة الآخرين .

المكان في الرواية مكان متعدد ويكاد يقتصر على  المستشفيات التى يجرى فيها أحداث تتصل بأبطال  النص ،  وتعدد المكان : المستشفى المركزى ، مستشفى الرحمة ، مستشفى الزهور ، مستشفى القوصية ، مستشفى معالجة المصابين في مقدشيو ، مستشفى معالجة المصابين في غزة …وبعد ذلك نجد أماكن مهمشة كمكان زفاف الدكتور بهجت ، وأيضا مكان زفاف أخته صفاء …إلخ .

ترجع قيمة المكان المتعدد إلى أنه حيز لإبراز مستويات الشخصيات ، فكل مكان يبرز لنا صفة من صفات الدكتور بهجت ، المستشفى المركزى ، يبرز لنا إيمانه بمبدأ سلامة المريض قبل كل شىء ، دون مجاملة لرئيس عمل ، فقد رفض استلام أجهزة كانت مستخدمة من قبل مخافة من نقلها فيروس ما ، مستشفى الرحمة يبرز لنا إنسانية الدكتور بهجت والرحمة بالمرضى ، فكان يجرى الكشف عليهم مقابل عشرة جنيهات ، مستشفى القوصية أبرزت لنا بساطة الدكتور بهجت في التعامل مع مرضاه ، وتكيفه مع بيئة قروية بسيطة ، مستشفى معالجة المصابين في مقدشيو أبرزت لنا مدى تضحية الطبيب بنفسه ،  ومداوته مرضاه تحت قصف الرصاص ، وكذلك الأمر في مستشفى معالجة المصابين في غزة ، تحول مستشفى الرحمة إلى مستشفى استقبال مرضى فيروس كورونا تبرز لنا تضحية الأطباء بأنفسهم من أجل سلامة غيرهم  ، يوطد ذلك ما حدث من المجتمع فترة بدايات فيروس كورونا ، فكان كثير منهم يرفض دفن ميت هذا المرض في المقابر ، وورد في الرواية عند دفن الدكتور سالم ” عند وصول نعش سالم إلى قريتة التى أوصى بأن يدفن فى مقابر العائلة بها ، تسربت أعداد من أهل القرية ثم تضاعف عددهم بعد ذلك يرفضون دفن سالم فى مقبرته لأنه مات مصابا بالكورونا وقد ينشر العدوى بينهم ، وتدافع الناس بين مؤيد ومعارض، ونسوا جلال الموت ، وما حكوه من قبل عن مثالية هذا الطبيب الملاك ، وبصعوبة شديدة تم الدفن ” مفارقة عجيبة ومؤلمة الطبيب يضحى بحياته من أجل المريض ، والناس ( كأهل للمريض ) يرفضون دفنه في قبره المجاور بقبورهم .

****

رواية ملائكة في الجحيم رواية ذات مذاق خاص ، نص يبعث الأمل في رجوع الإنسان لإنسانيته ، ليكون إنسانًا جميل الروح والنفس والفؤاد ، يعطى ، ولا ينتظر المقابل ، يحب الناس والحياة ، ويرفض الابتزاز والانحراف الأخلاقى والمهنى ، في عصر أصبحت مثل هذه القيم عزيزة المطلب والتحقق ، هذه رسالة الأديب بعث الروح الطيبة في النفوس ، إنها نص جدير بالقراءة والاحترام ، لقيمتها الإنسانية والفنية .