نوسوسيال

قراءة في رواية «المترجم الخائن» للكاتب السوري فواز حداد

446

 

 

/   بقلم : ضياء اسكندر   /

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

 

 

هل سبق لأحدكم أن شرع في قراءة رواية وبدأ يلتهم صفحاتها، تسبقه عيناه لقراءة الأسطر اللاحقة قبل الوصول إليها، ولا يرغب في أن تنتهي؟ هذا ما حصل معي وأنا أقرأ رواية «المترجم الخائن» للكاتب السوري فواز حداد. ربما حالة نادرة أن يختار كاتب ما، خيانة المترجم لأمانة النص، موضوعاً لروايته. خلاصتها مترجم شابّ لا يتقيّد حرفيّاً بالنص الأصلي، بل يتلاعب ببعض الكلمات والعبارات وحتى الفقرات.. بما يُرضي ذائقة القارئ المحلّي. وما يراه المترجم بأن ذلك يخدم الفكرة التي ينشدها على نحوٍ أفضل من المؤلّف. يفرد الكاتب حيّزاً هاماً يفضح فيه عالم، بل غابة الأدباء وشلل المثقفين. معرّياً نفاقهم وتزلّفهم ومؤامراتهم ضدّ بعضهم البعض بتفاصيل يصعب على الغريب عن هذه الأوساط الوقوف عليها أو حتى تخيّلها. إذ تنهال على المترجم الانتقادات من بعض المتصيّدين من النقّاد تحت تهمة الخيانة العظمى للأدب. ومن خلال معاركه معهم يوضّح الكاتب تأثير الأجهزة الأمنية والأحزاب والمنظمات وتسلّطها على الكُتّاب وعلى الوسط الثقافي بشكلٍ عام. فهي تسعى لرفعِ شأن كاتبٍ تافه على حساب ذوي الإبداعات الحقيقية تبعاً لأجندة هذه المؤسسات. ليتحوّل مترجمنا إلى كائن منبوذ امتنعت عن التعامل معه كل دور النشر. وقاطعته كل الشلل الثقافية والأدبية، واختفى من ميادين الترجمة ردحاً من الزمن. إلى أن تطلبه دار نشر جديدة للترجمة مستغلةً وضعه المزري، وتمنحه أجراً زهيداً. فيوافق مقهوراً وتبدأ حالة الصراع مجدداً بين ما هو مكلف بترجمته طبقاً للأصل، وبين رغباته الدفينة بالتحوير وفق قناعته. يعرّج الكاتب إلى حياة المترجم الخاصة، فهو متزوج ولديه طفلين. وبسبب حياة التسكّع التي يعيشها ككثير من المثقفين، تهجره زوجته مع طفليها وتعيش في بيت أهلها. كما يتطرّق – من أجمل فصول الرواية – إلى القضية الفلسطينية وخيباتها، من خلال تسليطه الضوء على علاقة حب بين شاب فلسطيني يعيش في سورية مع صبية سورية، يقرران الزواج ويتنقلان من بلد إلى آخر في رحلة مريرة، لتنكشف لديها خفايا لم تكن تحلم حتى في أشد كوابيسها أنها يمكن أن تحصل في منظمات نذرت نفسها لخدمة القضية؛ فالسرقات والخيانات عناوين بارزة لدى شخصيات أوهمتها بسحر تفانيها لأجل فلسطين، ليتبيّن أنهم كسابقيهم ولاحقيهم.. أنذال. وتتوّج مأساتها بمصرع زوجها على يد رفيق له بسبب شجار تافه نتيجة اتهامات متبادلة بينهما. لم يقتصر تناوله للمنظمات الفلسطينية بمختلف تسمياتها بالنقد والتقريع، بل امتدَّ إلى كافة الأحزاب اليسارية قاطبةً. وأعتقد أنه كان متحاملاً جداً على جميع الشخصيات التي وردت في الرواية؛ فكلّهم مشوّهون سلبيّون معقّدون.. تُرى، هل يقصد من ذلك أن الإنسان الذي يتعرّض للاستبداد عقوداً من الزمن، يتحوّل إلى كائن عاطل عن منظومة القيم الخيّرة التي تدعو إليها كل الشرائع الأرضية والسماوية؟ تعود تلك الصبية السورية إلى دمشق وتتعرّف على فنان عراقي لاجئ من بطش صدّام حسين. يعمل نحّاتاً وتنشأ بينهما علاقة حب ويختاران (المساكنة) عوضاً عن الزواج التقليدي. لتشهد معه مأساةً مروّعةً أخرى تنتهي بمصرعه هو الآخر. بعد أن يتحفنا الكاتب بمقطع مؤثّر عن الاحتلال الأمريكي للعراق وعن فظائعه في تدمير العراق وإذلال شعبه. وأعتقد أن الكاتب رمَزَ بإخفاق علاقتها مع كلا الرجلين اللذين ساماها العذاب. وكأنه يقول بأن الزواج الناجح يتطلّب أزواجاً يتمتعون بالحرية والكرامة الإنسانية. وهذا ما افتقده الثلاثة. فلا يمكن أن يكون الإنسان حرّاً دون وطن حرّ. أما شخصية محمود التي تظهر في الرواية بين الحين والآخر، فهو أحد أهم شخصيات الرواية، فقد أبدع الكاتب في تصويرها؛ رجلٌ قبيح الشكل دميم إلى درجة يثير منظره الخوف بل الهلع، مهمته القيام بتأديب خصوم من يكلّفه بذلك لقاء أجر. فقد اضطر إلى هذه المهنة بسبب قباحة شكله، إذ لم يقبل على تشغيله أحد. «المترجم الخائن» رواية تستحوذ على القارئ بلغتها الشاعرية الرشيقة الآسرة، وتشدّه بلطف لإكمال قراءتها بشغفٍ ساحر رغم ضخامتها حوالي (500) صفحة. فواز حداد، صيّاد حاذق للجمال. ويستحق بجدارة جائزة البوكر الأدبية التي حصل عليها عام 2009. نقتبس فيما يلي من روايته هذا القول المأثور: «إذا لم يمسّ الأدب العظيم أرواحنا، ولم يرعَ في أفئدتنا تَوْقاً إلى الحقيقة والعدالة، مع قدرٍ كبير من التسامح، فبئس الأدب والأدباء!»