نوسوسيال

القاهرة بقلم الكاتب الصحفي محمـد هلال:(( ويسألونك عن الليل ؟ )) ..  

286

 

                    وطن العشاق والشعراء وقطاع الطرق واللصوص !

 

 

سرٌعظيمٌ ذلك الذي أودعه اللـه في الليل، وسر أعظم هذا الذي يحار فيه المتأمل لأهل الليل، أسرار وأسرار، لايحيط بها سوى خالق الليل وأهله. وكما أن الليل أنواع، فمنه الليل البهيم والحالك السواد،وليل أليَل، يعني أشد سوادًا، فأهله أنواع وأصناف وأشكال. منهم الصوفي الساهر مع ربه في معراجه الروحي ،ووداده  لأهل  صفائه،   ومنهم               قاطع        الطريق والراهب والسارق، ومنهم السكير والشاعر والأديب والمريض والمسافر وصاحب اللهو وصاحب الحزن والعاشق والساحر والمجاهد الساهر لحماية الوطن وطالب العلم و. . . .. و. . . . .. باختصار تتجلّى نفحات الرحمن لعباده، ووساوس الشيطان لمريديه في أقوى صورها ليلًا.

يحدثنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأن اللـه ـ سبحانه وتعالى ــ يتنزّل إلى السماء الدنيا في الليل: “يتنزّل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: مَن يدعُني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له”.

فالدعاء الأعظم في الليل، والحب الأجمل في الليل، والهمس القاتل في الليل، والقتل في الليل، وكذا العبادة المُثلى في الليل.

يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في فتوحاته عن الحق: كذب من ادّعى محبتي ونام الليل، وما عرفني ولا عرف مقدار قولي “الليل لي” وماعرف لماذا نزلت في الليل إلا العارف المحقق، فاللـه قد جعل الليل لأهله مثل الغيب لنفسه.

بل إن المولى ـ سبحانه ــ عندما أراد تكريم عباده المخلصين المحبّين، كرّمهم بليلة القدر، التي وصفها بأنها خيرٌ من ألف شهر،يعني ثلاثا وثمانين سنة. وتلك الأفضلية تستدعي مقولة بعض العارفين “سبق درهم ألف درهم” بما يعني أن رجلًا يمتلك مالًا كثيرًا، وقد تصدّق على الفقراء بجزء من ماله يقدّر بألف درهم، وذلك عمل محمود جدًا، ورجل لايمتلك سوى درهم واحدوتصدّق به كله، فهذا تصدق بجزء مما يملك ربما لايحتاج إليه، فالمال كثيروالثاني تصدق بكل مايملك،وهو الدرهم رغم حاجته إليه.

فهذا درهم خير من ألف وتلك ليلة خير من ألف، إذن هي ليلة اللـه وعطاياه وقدرهولتقرأ بعين قلبك كلام رب العزة “إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر *وما أدراك ماليلة القدر “، والمقصود بأنزلناه هو القرآن الكريمكلام اللـه ودستور حياة البشر، يعني أن علاقة الخالق بالخلق تجلت في الليل،خاصة ليلة القدرالتي هي نقطة البداية ومستودع أسرار الخالق التي تعجز أفهام الخلائق عن إدراكها إلا بما شاء هو،كما تشير الآية “وما أدراك ماليلة القدر”، وإن شئت قلت هي التواصل والالتحام والتلاقح الأسنى بين السماء والأرض “تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر”، وكل ذلك يحدث في الليل، الليل وحده حتى يولد النهار “سلام هي حتى مطلع الفجر”.

وقد سبق ذلك بزمن بعيد ما حدثنا به رب العزة مع نبيه موسى ــ عليه السلام ــ “وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً وأَتممْناها بِعَشْرٍ فتمَّ ميقاتُ رَبِّه أربعين ليلةً”، الأعراف 142، ولتتأمل تخصيص وصف كاملالوقت بكلمة “ليلة” رغم انقطاع نبي اللـه موسى ــ عليه السلام ــ عن قومه، وابتعاده عنهم أربعين يومًا في الليل والنهار،وإنما هو شرف الليل سيد الوقت، إذا جاز التعبير.

 ولنا أن نتأمل شرف الليل في القراءة الجهرية للصلاة دون النهار، وهناك حديث منسوب للرسول الكريم ذكره الإمام الحافظ جمال الدين الزيلعي الحنفي،المتوفي في 762هجرية، ولد بساحل الحبشة ودفن بالقاهرة في كتابه “نصب الراية لأحاديث الهداية”يقول: “صلاة النهار عجماء”، أي سرية لاجهر فيها، إلا صلاة الجمعة لشرفها، فالقراءة فيها جهرية، وكذا صلاة العيدين لما فيها من البهجة والفرح رغم أنهما سُنة لا فرضًا. ومن ألطف الأقوال “صلاة النهار فرضوصلاة الليل حب،والمحبوب هنا هو اللـه ـ سبحانه ــ وتلك متعة روحية مابعدها متعة .

أما ركعتا الفجر فهي لحظات لها خاصيتها وتفردها وشرفها ولذّتها الروحية،أو قل الخلطة السحرية المعجونة بخمراللَّيل وماء النهار،لايعرفها سوى عاشقها،ولذا فالجهرية فيها علامة عليها.

وفي حديث للنبي الكريم أورده الطبراني في المعجم الكبير وأبو نعيم في حلية الأولياءيقول: فضل صلاة الليل على النهار كفضل صدقة السرِّ على العلانية. وبهذا المعنى الآية 247 البقرة “الذين يُنفقُونَ أموالهم بالليل والنَّهار سرًّا وعلانية فلهم أجرهم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحْزنون”، فتقدم الليل على النهار والسر على العلانية رغم أن الفعل واحد وكلاهما مُوجِب لرضا اللـه وحبه ــ سبحانه ــ .

يقول الصوفي الكبيرمحمـد بن عبد الجبار النِّفِّري في كتابه الفريد “المواقف والمخاطبات”في فلسفته المدهشة عن رب العزة: “ياعبد، الليل لي فلا تفتح فيه أبواب قلبك إلا لي وحدى”.ويقول الصوفي الكبير أبو اليزيد البسطامي: “إن للـه شرابًا يسقيه في الليل قلوب أحبابه، فإذا شربوه طارت قلوبهم في الملكوت الأعلى حُبًاللـه تعالى وشوقًا إليه”.

وفوق هذا كله،أن التوقيت الذي خصصه الحق للإسراء بنبيه الكريمكان الليل،يقول المولى في سورة الإسراء: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلًامن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى”.

وفي كتاب “ابن قتيبة أبو محمد عبداللـه بن مسلم”تحقيق ثروت عكاشة، وزير الثقافة المصرية الأسبق، “يقول ابن قتيبة: قرأت في التوراة في أول سِفر من أسفارها أنَّ أول ماخلق اللـه تعالى من خليقةٍ السماء والأرض، كانت الأرض خَرِبة خاوية، وكانت الظلمة على القمر، وكانت ريح اللـه ـ تبارك وتعالى ــ فرفَّ على وجه الماء، فقال اللـه: ليكن النور فرآه حسنًا فميّزه من الظلمة فسمّاه نهارًا .. وسمّى الظلمة ليلًا.

فما هذا الليل وما شأنه وشأن أهله؟يخبرنا جمال الدين بن منظور المصري في معجمه الجامع “لسان العرب”بطرف من خبر الليل “الليل عَقِيبُ النهارومبدؤه من غروب الشمس والجمع ليالي وليالٍوالمفرد ليلة وتصغيرها لُييْلية، والليل الذكر والنهار أنثى يقول الحق: “الليل نسلخ منه النهار”في إشارة لطيفة إلى خلق حواء من ضلع آدم، أي انسلاخها عنه،وفي سورة الرعد “يغشي الليل النهار”، وجمع نهار نهروأم ليلى هي الخمر السوداء، وليلى هي النشوة وابتداء السُكر،وليلى اسم من أسماء النساء، وأبو ليلى الضعيف والمحتقر،وليله ليْلاء إذا اشتدت ظلمتها، وليلُ أليلُ وألال القوم وأليلوا دخلوا في الليل.

ومن لطائف ماذكرته سورة الليل قوله تعالى “والليلِ إذا يغشى * والنهارِ إذا تجلى*وماخلقَ الذكرَ والأنثى” شبيه بآدم وحواء فالأدمة يعني السُّمرة، والآدم من الناس يعني الأسمر، وذلك معنى ذكورة الليل مثل آدم أسمر اللون والنهار دليل على بياض حواء، رغم خلْقها من ضلع آدم، أي عظام الضلع والعظام بيضاء اللون في كل البشر، مهما اختلفت ألوانهم، ويغشى الرجل المرأة واضح المعنى والتجلي هي حالة النشوة والبهجة، واللـه أعلم.

وفي كتاب “نثار الأزهار في الليل والنهار”لابن منظور يقول: وسُمّيَ الليل ليلًا لأنهُ يلالي بالأشخاص، حتَّى يتشكَّك الناظر في الشيء فيقول: هو هو ثم يقول: لا لا.

ويقال:غسق الليلُ يغْسق غُسوقًا وغسقَا أي أظلم، يقول تعالى: “ومن شر غَاسِق إذا وقبْ”. وأدمس الليلُ، أي أظلم، يقول أمير الصعاليك الشاعر الجاهلي عروة بن الورد:

ولقد أتيتكُم بليلٍ دامسِ:: ولقد أتيت سُراتكم بنهارِ

كما أن لليل تأثيرًا على أمزجة الخلائق، فإن رطوبة الليل المعتدلة تؤثر على أخلاق أصحابه الدائمين فيه، مثل الشاعر والصوفي والكاتب المفكر والفنان وغيرهم، ولذا تتحسّن طبائعهم وتصفو أجسامهم من الكدر، ويشعرون بغيرهم بل يألمون من أجلهم، فشهيد التصوف الإسلامي الحسين بن منصور الحلاج، قد باح بسرِّ حبه لمّا رأى القوم غافلين عنه، أراد لهم أن يعرفوا ماعرفه ويلتذوا بما الْتذت به روحه، لكن أفهامهم قصُرت وعقمت، فقتلوه وأحرقوا جسده وذروا رفاته في نهر دجلة بالعراق، بزعم تقرّبهم إلى اللـه.

وعلى عكس الرطوبة تكون الحرارة، فهى تجلب الخفة والطيش،وهذه الحالة مناخها النهار وليس الليل، يقول ابن خلدون في كتابه “المقدمة”: قد رأينا من خُلق السودان ــ السودان جمع أسود مثل أعرج عرجان وأعمى وعميان وأبرص وبرصان ــ على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب، فتجدهم مُولعين بالرقص على كل توقيع وإيقاع. والسبب الصحيح في ذلك؛ أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشّيه، وطبيعة الحزن بالعكس، وهو انقباضه وتكاثفه، وأن الحرارة مفشية للهواء والبخار.

ولهذا يجد المنتشي من الفرح والسرور مالا يعبَّر عنه، وذلك بما يدخل بخار الروح في القلب من الحرارة الغريزية التي تبعثها سوْرة الخمر في الروح، وكذلك نجد المتنعِّمين بالحمامات إذا تنفّسوا في هوائها، واتصلت حرارة الهواء في أرواحهم حدث لهم فرح وانبعث الكثير منهم بالغناء.

والليل أقسام، فأوله السمر ووسطه السهروآخره السحر، وهو قبيل الفجر. والليل، كما سلف، هو الذَّكر والنهار الأنثى، ولذا فهو الوقت المحبب لوضع بذرة الإنسان، فألذ أوقات الرجل وأنثاه في الليل، فالكلام له طعم آخر وكذا الفعل.

والناس مقسّمون بحسب أحوالهم إلى أهل ليل وأهل نهار، فأهل النهار هم أهل الأنثى والأنثى تحب دائمًا من يعمل لأجلها، ففى النهار التعب والكد والمعاش وربما نسيان الإنسان نفسه في معترك هذ الصراع، فإذاجاء الليل عاد لنفسه لسمره وكلامه وروْنقه أو حتى لراحة بدنه ونومه.

ولذا يسمِّي الصوفية أهل قيام الليل أهل الفتوة. ومن الأشعار اللطيفة في ذلك ماقاله الشاعرالفيلسوف صلاح عبد الصبور:

الليل سُكْرنا وكأسنا

ألفاظنا التي تدار فيه وبقلنا

اللـه لايحرمني الليل ولامرارته

وإنْ أتاني الموت

فلأمت مُحدثًا أو سامعًا

ومن العجيب أنه مات كما تمنّى محدثًا وسامعًا رغم أنه كان في ريعان شبابه 52 عامًا فقط، فإنه مات ميتة المغدور، فقد قتله بعض رفاقه بحماقة الكلمات النارية السوداء واتهامه له باستضافة العدو الصهيوني بمعرض الكتاب بالقاهرة عام 1981، رغم أن قرار اشتراك الصهاينة كان قرارالنظام الحاكم وليس رغبة موظف حكومي، رغم أنه على رأس الهيئة المصرية العامة للكتاب.

سرٌ هو الليل، ولكن لماذا الليل بالذات؟ ربما لذكورته وربما لأنه الأصل لا الفرع فهو العماء الأزلي قبل خلق السموات والأرض حين كان عرش اللـه ـ سبحانه ــ على الماء.

وقد ورد ذكر الليل في آيات كثيرة من القرآن الكريم، بل إن هناك سورة باسمه “سورة الليل” وأولى كلماتها الليل، وفيها إشارة لذكورة الليل فيقول الحق: “والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * وما خلق الذكر والأنثى”. ومن عظيم شأن الليل عند خالقه؛ أن يتكرر ذكره والقسم به، فلا قسم بغير عظيم فمابالك أن يكون صاحب القسم هو اللـه ــ سبحانه وتعالى ــ! وللمتأمل في ذلك فيوضات ولطائف، فعندما أقسم الحق بالضحى ــ في سورة الضحى ــ أردفه بالليل “والضحى * والليل إذا سجى”، وكذا في سورة الفجر “والفجر * وليالٍ عشر *والشفع والوتر *والليل اذا يسر” حتى في سورة الشمس يحتل الليل المكان المميز يقول الحق: “والشمس وضحاها*والقمر إذا تلاها *والنهار إذا جلاها *والليل إذا يغشاها”. وفى كتاب “نثار الأزهار في الليل والنهار”والحكماء يمدحون الليل والاشتغال فيه، قال بعضهم لابنه: يابنى اجعل نظرك في العلم ليلًا، فإن القلب في الصدر كالطير ينتشر بالنهار، ويعود إلى وكره في الليل، فهو في الليل ساكن ما ألقيت إليه من شيء وعاه.

وقال بعضهم يصف الليل: يجم الأذهان وتنقطع الأشغال، ويصح النظر ويؤلف الحكمة ويدر الخاطر ويتسع مجال القلب، والليل أحرى في مذهب الفكر وأخفى لعمل البر، وأعون على صدقة السر وأصح لتلاوة الذكر، وأرباب الأمر يختارون الليل على النهار لرياضة النفوس وسياسة التقدير في دفع المُلم وإمضاء المهم وإنشاء الكتب وتصحيح المعاني.

ومن طريف ماقالته العرب، ذلك الشاعر الذي يحبّذ خمر الغبوق، وهي التي تُشرب ليلًا، وإن سواد الليل لون الشباب في الرأس وبياض الصباح الأبيض لون المشيب يقول:

لاتدعني لصبوحٍ

 إن الغبوق حبيبي

فالليل لون شبابي

 والصبح لون مشيبي

ومن أمثال العرب: “فلان أنم من الصبح وأقود من الليل”، يعني أن الصبح فضّاح وكاشف والليل شديد الستر.

وللشاعر ابن المعتز بيتان بهذا المعنى يقول:

لاتلق إلا بليلٍ من تواعده

 فالشمس نمامة والليل قواد

كم من مُحبٍ أتى والليل يستره

 لاقى الأحبة والواشون رقاد

ويقول أبو الطيب المتنبي:

أزورهم وظلام الليل يشفع لي

 وأنثني وبياض الصبح يُغري بي .

……. والحديث موصول