كان قدر يلماز أن يولد في بلد يمنع فيه استخدام لغته الأم ……ولد الروائي والممثل والمخرج الرائع يلماز بوتون سنة ١٩٣٧ في قرية ينيجة في كردستان تركيا ….نشأ الصبي غوناي كسائر صبية قريته واشتغل في الزراعة والعمالة وشاهد مقتل والده سنة ١٩٥٨ ….

بدأ مشواره مع الكتابة واصدار النشرات ليدخل السجن ولأول مرة أثر نشره لقصة قصيرة ، قضى في السجن ١٨ شهراً ثم نفي الى قونية ، ليبدأ مع الروايات وكتابة السيناريو ليدخل السجن مرة أخرى اثر اصداره لسيناريو (زهرة الصحراء) حيث اتهم بالترويج للأفكار اليسارية .

بدأ رحلته مع السينما في ١٩٥٧ كمساعد مخرج لفلم (أبناء هذا البلد) ومن بعدها اشتغل كممثل في ٤٠٠ عمل سينمائي منها ١١٠ فلما بدور البطولة وكان ملقباً ب(السطان القبيح) كما أخرج ١٨ فلما سينمائياً.

تركيا كانت تشارك المهرجانات السينمائية من خلال أفلام غوناي ، وكان تكريمه يأتي دائماً من خلال القاء القبض عليه وزجه في السجن كما حصل معه حين أخرج فلم (غداً هو اليوم الأخير) ….

نال يلماز غوناي ١٧ جائزة سينمائية ممثلاً ومخرجاً …,لكن أهم جوائزه بالطبع هو حصوله على السعفة الذهبية في مهرجان كان عن فلمه الشهير (الطريق) ……هذا الفلم السياسي الذي كان يتابع قسماً من أعماله وهو في السجن ثم أكمله حين هرب من السجن ليتوجه الى فرنسا ويؤسس مع زملائه المعهد الكوردي في باريس ، وكان اخر اعماله هو الفلم السينمائي (الجدار) .

توفي يلماز سنة ١٩٨٤ وشارك في تشييعه كبار الشخصيات السياسية في فرنسا الى جانب الآلاف من محبيه .

ابراهيم العريس هو من أفضل النقاد العرب الذين كتبوا عن غوناي

أقتبس قسماً مما قاله عن غوناي في جريدة الحياة اللندنية بتأريخ ١٧ أغسطس ٢٠٠٧.

حياة تبدو خارج المألوف تماماً. بل أقرب الى الأسطورة. والحقيقة ان يلماز غوناي يعتبر أسطورة حقيقية، هو الذي طلع من الحضيض تماماً، من حضيض بؤس الفلاحين المغامرين والمقامرين بحياتهم في المناطق الزراعية المحيطة بأضنة في الجنوب التركي، ليصبح خلال فترة قياسية من الزمن واحداً من السينمائيين الأكثر حضوراً في السينما الأوروبية. وبفضل ماذا؟ بفضل أفلام تقول الحكاية انه أدار إخراج الأفضل من بينها وهو في زنزانته في السجن.
ويقول أيضاَ

لكن يلماز غوناي لم يحظ بمكانته الأساسية كسيد من سادة السينما التركية الجادة والجديدة إلا سنة ١٩٧٠ حين أنجز «الأمل» (أوموت)، هذا الفيلم الذي اعتُبر، عالمياً، بداية غوناي الحقيقية إذ راح يدور، في الخارج، من مهرجان إلى آخر وراحت أقلام النقاد العالميين تكتب عنه بحماسة، حتى وإن كان موضوعه – في ذلك الحين – قد بدا عصياً على الوصول إلى المتفرج الشعبي التركي الذي كان غوناي يسعى أصلاً إلى التعبير عنه والوصول إليه. ويتحدث «الأمل» عن حوذي يقتل سائق سيارة حصانه، مصدر رزقه الوحيد ورزق عائلته. هذا الموضوع البسيط حوله غوناي مع مسار الفيلم الى موضوع كافكاوي بامتياز. والحقيقة ان غوناي إن كان عجز عن ايصال حبكة الفيلم الى متفرجه، أوصل إليه عدوى الثورة وحس التمرد على الأوضاع القائمة، مصوراً البؤس والجوع اللذين تعاني منهما ملايين الأتراك. ومن هنا كان من الطبيعي ان يربط النقد العالمي سينماه بسينما الواقعية الجديدة الإيطالية، ما زاد من احترام الجمهور التركي له، وبالتالي من حذر السلطات الرقابية التركية حياله.

ويسرد لنا العريس جزءاً من حياة غوناي فيحكي:
ايليا كازان يكتشف غوناي: انه صادق مثل فلاح حقيقي
في ربيع سنة ١٩٧٤، كان يلماز غوناي مسجوناً في أحد السجون التركية. كانت هناك محاولات كثيرة يقوم بها مثقفون ومناضلون أوروبيون لدفع الحكومة العسكرية التركية إلى إطلاق سراحه… ولكن من دون طائل. في ذلك الحين كان المخرج اليوناني الأميركي المولود في تركيا، ايليا كازان، قد قام بجولة في مسقط رأسه رافقه فيها الكاتب ياشار كمال، يومها استقبل كازان بحفاوة لم ينكرها… وحين وصل إلى باريس بعد تلك الجولة قيّض له أن يشاهد في العاصمة الفرنسية فيلم «الأمل» ليلماز غوناي، وكان بالكاد سمع باسمه… لكنه خرج من الفيلم مبهوراً… وإذ أخبر في ذلك الحين أن غوناي في السجن، كتب نصاً نشرته خلال الأيام التالية صحيفة «ملييت» (الأمة) التركية يوم ٥ نيسان (أبريل) ١٩٧٤… وكان من نتيجته ان أطلق سراح غوناي. وهنا الجزء الأخير من النص والمتعلق بهذا الأخير.

(…) إذا كان كاتب أو فنان ما راغباً في إيصال أفكاره ومشاعره إلى جماعة من البشر، هناك طريقة تبدو لي أكثر فاعلية بكثير من الكلام. وأنا أتحدث هنا عن المهنة السينمائية. فالسينما يمكنها ان تعطي بالصورة والصوت ما لا يمكن للكلمات ان تعطيه. وبفضل سمتها هذه تبدو لي السينما فريدة من نوعها… تبدو لي شديدة القوة. أذكر هنا انني دعيت منذ شهور إلى حضور عرض لفيلم في المكتبة السينمائية الفرنسية في باريس. شاهدت الفيلم يومها وشعرت بأنه يلامسني حقاً… يلامسني إلى درجة انني لا أزال حتى اليوم واقعاً تحت تأثيره. اسم هذا الفيلم «الأمل»… وحققه مخرج لم أكن قد سمعت باسمه. اسم المخرج يلماز غوناي، أما اسم الفيلم بالتركية فهو «اوموت».

حين تشاهد هذا الفيلم تشعر من فورك أن النظرة التي يلقيها مخرجه على البشر وعلى قومه، نظرة صادقة، حقيقية ومتكاملة إلى درجة انني حين كنت أتابع مشاهد الفيلم شعرت بقلق شديد على مصير الرجل والعائلة اللذين كنت أشاهدهما على الشاشة. بل انني ظللت على قلقي هذا حتى بعد نهاية الفيلم. ما الذي سوف يحدث لهذا الرجل يا ترى؟ هكذا رحت أفكر وأتساءل. وماذا سوف يحدث لاحقاً له؟ ماذا سيصيبهم… بل ماذا سيصيب أطفالنا جميعاً؟ ما الذي سوف يصيب تركيا… وماذا سيصيب هذا العالم كله؟ ان أقلق… ان أهتم… ان أتساءل معناه بالنسبة إلي ان هذا كله يشكله أساساً لتطوير هذه المهنة… وهذا، والحق يقال، أهم ألف مرة من طرح أحكام حاسمة قاطعة.

ويختم العريس مقالته بمقتطفات من أقوال غوناي تخت عنوان هكذا تكلم يلماز ….أدرج هنا بعضاً منه:

* حين كنت أدرس الحقوق في أنقرة، لم أكن أعرف أن هذه الحقوق هي حقوق البعض وليست حقوق البعض الآخر.

* فحين يمضي المرء ٥ سنوات في السجن تبقى لديه آثار كثيرة تطبعه. وأنا أعتقد أنني لا أشذ عن هذه القاعدة على رغم كل الجهود التي بذلتها كي أحصن نفسي. فأنا أيضاً انطبعت بهذا كله ولكن من دون أن أعرف كيف يلوح علي

* ان أولئك الذين يمضون وقتهم وهم ينشدون الأغاني الثورية حين تكون الأمور هادئة ولا قمع هناك ولا يحزنون، سرعان ما يختبئون خلف أبواب بيوتهم حين تصبح الأمور صعبة…

* القضية الكردية قضية في غاية الصعوبة والتعقيد. ذات يوم سأحقق فيلماً أحكي فيه حقاً حكاية نضال شعب من أجل ولادته أو بعثه. أما اليوم فالأمر عسير كما ان القضية نفسها عسيرة. ومع هذا على المرء أن يحكي، ذات يوم، كيف تم تشتيت الشعب الكردي وتقسيمه، وما هي الآفاق المستقبلية المطروحة أمامه. على أي حال اعتقد ان من الأمور الشديدة الصعوبة الحديث عن مثل هذا بموضوعية. فالتاريخ ليس حافلاً بالانتصارات فقط، بل هو حافل، كذلك، بالهزائم والأخطاء وخيبات الأمل.

من هـو يلمـاز كونـاي..

اعداد : صلاح الدين بلال


يلمـاز كونـاي

لكل شعب عظيمه… و العظماء لا يولدون إلا في كل قرن مره, ومن عظماء الشعب الكردي يلماز كوناي .هذا النجم الذي انطفأ على جسد يتفجر بالبراكين والثورات عن عمر لم يتجاوز السابعة والأربعين ( أنا مشتاق لوطني وهذا يؤلمني أن افتقد الكفاح الحار الذي يغلي والذي يجري هناك الآن أريد أن أكون فيه وجزء منه ) … في التاسع من شهر أيلول رحل كوناي وكأنه تقصد بذلك أن يجمع بهذا الشهر أكثر من ذكرى ليخلق من أيلول ملحمة لزمن الكرد وكردستان. كان كوناي سجل تاريخ شعبا بكامله كتبه بدمه على جدران سجون الأنظمة الفاشية في تركيا وسجل في تاريخها الأسود اكثر من ثمانية عشر عاما داخل زنزاناتها الحاقدة .لم يكن كوناي هذا المتمرد على مضطهديه ثوريا بالصدفة أو نتاج تناقض الضمير البرجوازي أو مثقفا متأففا .. ولحياة وتاريخ يلماز كوناي اكثر من جانب واكثر من عالم فهو سينمائي كما هو سياسي وهو إنسان مبدع كما هو أب بسيط وهنا سنتناول كوناي الإنسان وكوناي السينمائي.

انه من مواليد عام ١٩٣٧ حيث ولدته أمه ( غوللو ) في الأول من نيسان في قرية ينيجة في قضاء اضنة من أب فلاح فقير يدعى (حميد بوتون ) و لم يكن أبوه يدرك بان هذا الضوء الجديد سيكون يوما من الأيام عظيما لشعبه وشاغل لقلوب الكثير من الكادحين والكثير من محبيه وأصدقائه ورفاقه . بل رأى فيه الغريزة وطبيعة الحياة لينضم بذلك إلى أسرة اكتملت واجتمعت بافواهم السبعة الجائعة ليكونوا ويلا لأبيه الذي لا يملك غير قوته وزنده كعاملا موسميا زراعيا في سهول كردستان الخصبة والتي أكثرها ملكا لاغوات ومشايخ المقاطعات ومن يحكمهم . من هذا الواقع القاسي من هذا الجيش الكبير بفقرائه والذي يشكل شعب كردستان معظمه كان يلماز كوناي لهذا عندما تفتحت عينيه لم يشاهد سوى القهر والعذاب و الحرمان والاضطهاد … والاغوات والدرك.. وحياة قاهرة من البؤس والبرد والأمراض والجهل .لهذا لم ينسى أبدا طفولته التي لم يشاهد منها شيء كما لم يشاهد آلاف غيره من أطفال كردستان الذين تمر عليهم أعياد الطفولة وكأنهم رجال لا يعنيهم ولا يشملهم ذلك وللحق فأطفال كردستان لم يدركوا طفولتهم لأنهم رجال عنيد ون رغم ريشهم الصغيرة . و لأنهم يصمدون رغم كل أسباب الموت ليحيوا ويبنوا العالم الجديد ويلماز من طفولته لم ينسى أبدا كيف كان هو وغيره من الأطفال الفقراء وكيف مات صديق طفولته ( سلو ) الذي لم يستطيع الفقر رده … وكيف كان أطفال الأغوات والإقطاعيين في لباسهم حين يمرضون وحتى حين يلعبون.

مارس يلماز اكثر من مهنة ليكسب قوة عيشه ومصروفا لدراسته حيث اكمل الثانوية و سجل في جامعة استنبول في كلية الاقتصاد و في استنبول كان كوناي الثوري و الفنان المبدع. في استنبول تبلورت مفاهيم كوناي الثورية و الذي كان بطبيعته الطبقية الثورية حيث يدل على ذلك رفضه الطفولي في مرحلة بسيطة من حياته لأشكال التعسف الاجتماعي ضد طبقته , و شعبه, حيث يدل اسمه جليا على ذلك , ف (يلماز ) يعني ( القاسي ) و لقبه كان بوتون لكنه أختار كوناي و تعني ( المسكين ).

وفي التحام القوة بالبساطة انطلق يلماز كوناي موهبة إبداعية وإصبعا ثوريا يشير إلى عيني عدوه في عزما لا يهاب, كسبباً لكل آلام شعبه وفقره واضطهاده. لهذا أحبته الجماهير وجعلته في أعلى القمم .وكانت صوره واسمه هي الأكثر ظهوراً في شوارع تركيا وبيوتها الفقيرة وفي صالات عرض الأفلام السينمائية وما أن وصل كوناي إلى استنبول حتى تحررت دمائه من عروقه ودبت فيه حركة أكثر توهجا فكان ورشة كاملة من العطاء. منها إصداره عام ١٩٥٨ مجلتين هما بوران ودوروك ويساهم في تحرير جريدة الحائط الجامعية, لكن ذلك لم يستمر طويلا ً ولأسباب معروفة دوماً. كتب قصته الأولى الأعناق الملوية ١٩٦١ وكانت محطة ليزج في إحدى السجون بتهمة ( المثقف الأحمر ) .


الطريق

لم يكن السجن ليلماز جدران مغلقة بل عالم جديد من العمل واختراق الذات وانفعال الفكر والقهر والخيال والحب ليكتب من عالمه هذا اجمل سيمفونياته وأجمل ملاحمه فقد كتب رائعته (صالبا) عام ١٩٧٣ من سجن السليمة والتي طبعت داخل تركيا اكثر من سبع مرات وطبعت خارج تركيا بعدة لغات حيث طبعت في سوريا مرتين وكتب رواية (معادلات مع ثلاث غرباء ) وكتب مئات القصائد والمقالات كما كتب سيناريوهات اكثر من فيلم داخل السجن وكان أكثرها شهرة فيلم ( الرفيق. القطيع وآخرها فيلم يول, الطريق ).
انه ليحق لنا أن نسمي فن كوناي فن الحرية وليس بفن السجون لأنه كان يدرك حريته داخل السجن اكثر ما كان يحسها خارجه.

كان كوناي زائرا دائما للسجون ومنها كان يزداد عنادا اكثر في مواقفه ورؤيته للعالم وتصويرا لعلاقات مجتمعه. بدأ كوناي العمل السينمائي كعلاقة عمل يغطي مصاريفه الدراسية ولكنه رأى نفسه منغمسا في حب السينما لأنه كان أصلا مولعا بالشعر والقصة, وكان أول عمل له مع المخرج التركي التقدمي عاطف يلماز عام ١٩٥٨ ومنها بدأ يلماز يكتب ويمثل ويخرج حيث ظهر في أول عمل فني عام ١٩٥٨ في فيلم ( أبناء هذا الوطن ) .
لم يكن عمل يلماز السينمائي سهلا رغم قوله (وبالفعل تحقق ذلك بسهولة لم أن اكن أتوقعها ).

فقد كان محاصراً من فاشية العسكر والرقيب لفكره وعمله وقد عمل يلماز في أولى حياته أفلام تجاريه فاقت المائة اصبح من خلالها البطل الأول في بال الجماهير والبطل الأكثر طلبا من منتجي الأفلام السينمائية فمن يتعاقد مع يلماز كوناي على فيلم فهذا يعني ربحا أكيدا ومن أفلام تلك المرحلة. النهر الأحمر , النعجة السوداء , القاتل الضحية , ملك الملوك… وغيرها ومن خلال ذلك تحققت ليلماز كوناي الأرضية القوية من الشهرة وشباك التذاكر والرأسمال الممكن ليستطيع أن يحقق ما يريد ويفرض نفسه على المنتجين.

وكان عام ١٩٦٦ تحولا كبيراً في حياة كوناي حيث ظهرت له أفلام من نوع جديد أرسى من خلالها مدرسة جديدة للسينما التركية والتي أخذت بعداً عالمياً وداخلياً وسرعان ما تأثر بها المنتجين المتخمين نتيجة طلبها من الجمهور فأخرج , سيد خان , الذئاب الجائعة , رجل قبيح , وكانت باكورة أعماله في تلك المرحلة فيلم (الأمل )الذي أوصل كوناي على جناحيه إلى أكبر المهرجانات العالمية حيث نال – ١٧ – جائزة على فيلمه وجذب إليه العيون والسمعة القوية بين فناني العالم.

كانت مقولة يلماز في تلك الفترة ( أنا لا أصنع سينما بل أكتفي ببيان الحياة الواقعية… لابد من إظهار الاستغلال الذي تتعرض له طبقتي ولصالح من …) ورغم تتضايق يلماز من شهرته التي بدأت الجماهير من خلالها تنظر إلى كوناي مخلصا ودليلا يخرجها من عالم البؤس والفاقة كان كوناي يتألم لعفوية الوعي الجماهيري فهو أراد في أفلامه أن يقول…(هذا الواقع وهذه طبقاته وشرائحه وهؤلاء هم المسببين فشقوا الطريق, ومزقوا صدور ظالميكم بفؤوسكم ومطارقكم واصنعوا حياتكم وتاريخكم الجديد) .

وكان لابد من نظرية فكانت الماركسية…(إنني استرشد بالماركسية كمبدأ ومنهج جمالي وفكري التزم به وأسير على هديه)…ولهذا بدأ يخرج أفلام اكثر قوة وذلك بعد عام ١٩٧٢ حيث اخرج أفلام … ( الآلام المرثية … غدا هو اليوم الآخر .. الأب .. ) ليدخل السجن من جديد ولكنه لم يتوقف عن العمل أبداً حيث ضربت إحدى أفلامه أرقاماً قياسية في إنجازها…أربعة عشر يوما … كان كوناي فكرا لا يتوقف وأحاسيس لا تنضب وجسدا لا يتعب فهو يريد الوصول إلى بغيته بأسرع وقت فاخرج ( القطيع ) ليقول القليل عن الكثير من قضايا شعبه الفقير في عالم محروم حتى من ذكر اسمه .. أتراك الجبال ..حيث رسم كوناي مأساة هذا الشعب المستمرة وفجرها على يد بيرفان عندما يخنق سمسار الخراف ليقول أن هذا الشعب عندما سينفجر سيجرف معه من يقف في وجهه ولن يفلت أحد من عدله ومن أصابعه. وفي فيلم …(يول ).ماذا أراد أن يقول كوناي أين الطريق .. أين السجن الحقيقي . هل هو السجن المحاط بالهراوات والأسلحة والأسلاك الشائكة أم هو هذا البلد الكبير المحاط بنقاط الحدود وبالبحار المسمى تركيا.

ماذا أراد أن يقول كوناي … أراد أن يكتب لنا وصيته … أو أن يرسم لنا عالما يجب مسحه وإزالته .. ماذا أراد أن يقول كوناي… هل هذا النورس الجريح أراد أن يعطينا صدره وقلبه لكي لا ننسى الطريق … ورحل يلماز هذا الإله الجميل رحل…هذا القزح الملون غاب في يوم لم يكن غائما أوممطرا في كردستان بل ممطرا في ديار الغربة في إحدى مشافي باريس . هل احتج قلب كوناي عن الحياة وهو بعيد عن الوطن…بعدما كان يردد في أيامه الأخيرة … أيتها الطيور حطمي النوافذ إلى الحرية…هل نحن الطيور… والأنظمة الغاصبة هي النوافذ … وكردستان هي الحرية … عندما سؤل يلماز عن الغربة قال… أن المنفى هو تبديل شكل من أشكال السجن بآخر… في أي عالم أنت أتيت أيها القاسي المسكين… يلماز كوناي … لتموت وأنت متألقا بشعرك الأبيض كقمة جبل أكري وهكاري. يلماز في آخر أيامه لم يكن يملك شيئا لا مال ولا جواز سفر بعد أن أسقطت عنه الفاشية التركية حق المواطنة.

يلماز في آخر أيامه كتب وصيته ووهب جسده للمجمع الكردي في باريس ليتصرف بها…وهب نفسه لبقعة صغيرة وبعيدة عن شمس الوطن يتردد فيها يوميا اسم كردستان على الصفحات والأفواه حيث كان حلمه قبل أن يغمض عينيه أن يصنع فيلما عن تاريخ كردستان وعن نضال شعب كردستان ضد مستعمريه . وفي سؤال آخر له عن كردستان موحدة أهي حقيقة أم حلم طوباوي صعب التحقيق .

قال كوناي بألم وثقة : (سيكون ذلك لو اعتمد الأكراد على حسن نية كذا الأنظمة الغاصبة لكردستان ولهذا السبب بالذات لا خيار أمام الأكراد سوى الاعتماد على قواهم الذاتية. ) يلماز كوناي كتب من داخل قلوبنا من داخل دمائنا وبهم عاش وعندما ابتعد لم يستطيع الحياة فتوقف قلبه الصغير ليترك لنا مئات الأسئلة وآلاف الدموع.

أفلام يلماز كوناي

المرحلة التجارية
١. أبناء هذا الوطن.
٢. زمن التبغ.
٣. ملك المحتالين.
٤. عشرة رجال لا يخافون.
٥. الوعل.
٦. قصة حب قرة جه اوغلان.
٧. البلاء العذب.
٨. الدفتر البني.
٩. أعيش كما مت.
١٠. الملك البشع.
١١. كان هناك دم في الشارع .
١٢. البطل يكون جريحا.
١٣ .النسر الجريح.
١٤. عارف من بالاط.
١٥. النهر الأحمر.
١٦. النعجه السوداء.
١٧. قوزان أوغلوا.
١٨. القاتل الضحيه.
١٩. قاسم باشا.
٢٠. صديق. الكونياك.
٢١. ملك الملوك.
٢٢. فرس امرأة وقطعة سلاح.
٢٣. أنا لا أتأثر بالرصاص.
٢٤. أنا اسميه كريم.
٢٥. نوري البرغوث.

المرحلة الجادة
١. سيد خان
٢. الذئاب الجائعة
٣. رجل قبيح
٤. الأمل
٥. الهاربون
٦. الفقراء
٧. المضاربون
٨. غدا هو اليوم الأخير
٩. اليائسون
١٠. العلقم
١١. المرثية
١٢. الأب
١٣. الرفيق
١٤. القلق
١٥. الكابوس
١٦. إجازة
١٧. لا بد من ذلك ذات يوم
١٨. العدو
١٩. القطيع
٢٠. الطريق
٢١. الهاربون
٢٢. الجدار

يـلــمـــاز كــونـاي

يـلــمـــاز كــونـاي
– لــقــــاء فــي الســـجـن –

ترجمة وتقـديم : بُرهـان شـاوي
٢٥ / ١١ / ٢٠٠٧

فـي العـام ١٩٨٧ صدر عن دار العلم ( ناوكا) في موسكو كتاب بعنوان ( يلماز كوناي ) من تأليف الصحافي والكاتب السينمائي الأذربيجاني ( حسينوف ). والكتاب في مجمله هو لقـاء طويل، تم على مراحل، مع السينمائي الكردي، التركي، الراحل، (يلمـاز كـونـاي )، حينما كان في السـجن. وكنت قد عزمت وقتها ( بعد صدور الكتاب ) على ترجمته الى العربية، وفعلا بدأت بترجمته، لكنني توقفت لأسباب وظروف مختلفة، رغم ان الكتاب ليس كبيرالحجم أبدا. المهم، حينها نشرت ما ترجمته في مجلة ( الاغتراب الأدبي) التي كانت، ولسنوات، تصدر من لندن. ولم يتسنَ لي مواصلة الترجمة، بل انني ونتيجة التنقل فقدت الكتاب نفسه. والآن، وبعد هذه السنوات، أعيد نشر ما ترجمته من هذا اللقاء في ( تيريز)، وفي باب (السينما الكوردية)، لسببين، أولهما هو أرشفة كل وثيقة أو خبر أو بحث أو نص له علاقة بالسينما الكوردية، بحيث يكون هذا الباب أقرب إلى( بنك المعلومات) فيما يخص السينما الكوردية، وثانيهمالأرشفة كل ما له علاقة بيلماز كوناي، وأن نتعرف على سيرة حياته كما يرويها هو نفسه..دونما تأويل أو تفسير أاو تضارب في المعلومات، لا سيما وأن الجزء الذي ترجمته له علاقة بهذا الأمر. ولا أدري إن كان هناك من الإخوة والأساتذة من الكرد الذين درسوا في روسيا، ممن لديهم علاقة بالسينما أو الأدب او الصحافة قد أقدم على ترجمة هذا الكتاب الى الكوردية، فيكون بذلك قد قدم خدمة كبيرة للثقافة والفن الكوردي.

* اسـمك الكـامل ؟

– يـلماز حميـد، وأمـي اغلو بيتون.

* أيـن ومتـى ولـُـدت..؟
– في الأول من نيسان العام ١٩٣٧ في قرية ( اينجـة) على مبعدة ٢٧ كلم من مدينة ( أضنـة).

* لماذا يكتب البعض تاريخ ولادتك في العام ١٩٣١؟
– إنهـم يخطئون.

* حدثنا، رجاء، بالتفصيل عن طفولتك وإبداعاتك؟
– أبي وأمـي أكـراد. أمي من عائلـة غنية،هربت العائلة بعد زحف القوات القيصرية في الحرب العالمية الأولى. أبي على العكس..، إنه من عائلة فقيرة جدا،في شبابه كان أبي مضطرا لهجر أهله خوفا من الانتقام العشائري،وحدث أن التقيا في(أضنة) وتزوجا. لم يكن عندهما مال او أرض لذا عاشا المرارة لفترة، لكن حالف الحظ أبي لاحقا، فعمل ملاحظا في شركة تابعة لإقطاعي كبير مما انعكس على حياة العائلة ماديا.
كانت طفولتي سعيدة حتى السابعة من عمري، حتى تلك اللحظة التي جاء أبي فيها بامرأة ثانية. منذ ذلك اليوم لم تهدأ حياتنا العائلية، بل تحولت الى جحيم. أبي كان يضرب أمي دائما، وكان يطردنا أحيانا من البيت. في تلك الفترة، كانت لي أخت اسمها (ليلى) تصغرني بسنتين،وكانت عند بابنا قد نمت شجرة توت واثنتان من اشجارالتين، وحينما كان أبي يطردنا كنا نرقد تحت ظلال هذه الأشجار.
ذات مرة اتجهنا ثلاثتنا الى مدينة (أضنة) حيث كان يعيش ابن عم لأمي، وطوال الطريق كانت أمي تبكي وتغني أغاني كوردية حزينة.. ورغم انني وأختي كنا نعرف لغتنا الأم بشكل سيء، فلقد كنا نرفع أبصارنا نحو أمنا ونذرف الدموع. عندها كنت أفكر بان تعاستنا لن تنتهي، ووددتُ لو أموت كي لا أرى أمي تتألم. ثم بدأت العمل. ومنذ الصغر.. وفي مواسم قطف الفواكه في المزارع، وقطاف القطن ( يخرج يلماز فيما بعد افلاما عن الانتقام العشائري، وعن عمال التراحيل الموسميين عند قطاف القطن..- م )،..ثم حمّالا. في القرية كنت قد أنهيت الصف الثالث الا بتدائي، وبعد وصولنا الى (أضنة) أنهيت دراستي الابتدائية والمتوسطة والثانوية، أدرس وأعمل. في البداية كنت أبيع الكرزات في الشوارع، ثم بائع صحف، ثم عملت بقالا..، كما عملت ميكانيكيا لآلات التشغيل السينمائي في الشركات. في البداية في شركة (اندفيلم)، وهي استوديو سينمائي ودار عرض، بعد ذلك في (كمال فيلم). كنتُ أتنقلُ بين القرى لعرض الأفلام، كما كنت أمثل ككومبارس أيضا، ويمكن القول ( هنا يبتسم يلماز) هكذا دخلتُ عالم السينما.

* فيما بعد أين درسـت؟
– في العام ١٩٥٦ دخلت كلية الحقوق في جامعة أنقرة، لكنني درست لمدة شهرين فقط. حينها لم أجد عملا، وكما ترى كان يجب ان أعيش وأساعد عائلتي التي نمت خلال هذه السنوات حتى أصبحنا أربعة إخوة وأختين. لذلك كنت مضطرا للعودة الى (أضنة). وبدأت العمل مباشرة في شركة لتأجير الأفلام. نهاية العام ١٩٥٧ وصلت الى أستنبول مستمرا بالعمل لدى المركز الرئيس لمكتب الشركة(دار فيلم). وفي العام ١٩٥٨ سجلت في كلية الاقتصاد بجامعة استنبول، لكنني لم أستطع إنهاء الدراسة لأنني اُعتقلتُ العام 1961 وكان ذلك لأول مرة. بعد ذلك واصلت الدراسة ذاتيا، قرأتُ كثيرا ودرست في جامعة الحياة.

* كيف جئت الى الفـن..؟
– قبل كل شيء، أنا مدين بذلك لأبي وأمي..,أقولها صراحة. رغم ان أبي كان يؤذي أمي دائما، لكنه كان يحب ابناءه كثيرا، خاصة أنا، أول العنقود. إذ كان يدفع آخر قرش لديه من أجل ان أواصل تعليمي.
أبي، وكذلك أمي كانا يغنيان بالكوردية أجمل الأغاني وأكثرها حزنا. وكان أبي يعزف على الساز( السنطور)..وكانت العوائل تدعوه في الأعياد وعند ميلاد الابناء وفي الاعراس أو عند أفراح الختان، فكان يأخذني معه في كل هذه اللقاءات. كنت أستمتع جدا بغنائه وعزفه. أما أمي فكانت خلال ليالي الشتاء الطويلة تقص علينا أقاصيص من التاريخ الكوردي، ومن الأساطير والخرافات الكوردية، فكان بيتنا يزدحم بالجيران الذين كانوا مستعدين للسماع حتى الصباح. كنت أود ان أكتب كل تلك الأقاصيص لكنني حينها لم أكن أحسن ذلك. وكان في قريتنا رجل عجوز اسمه ( يعقوب ) يغني جيدا ويعزف على الساز وينظم الشعر والأغاني. وتصادقنا، أنا وهو، ..كان يحبني، فلقد علمني كيف أنظم الشعر.
في الثالثة عشرة ولأول مرة دخلت السينما. وفي الرابعة عشرة أصبحت كما ذكرت مشغلا لماكنة العرض.. ثم بدأت كممثل كومبارس، وهنا بدأت حياتي تدخل منعطفا.

* متى وكيف بدأت الكتـابة؟
– في السنة الثانية من المرحلة الإعدادية كتبت قصيدة للنشرة الجدارية عن فلاح فقير يأتي بزوجته المريضة إلى المدينة، ولم يكن عند هذا الفلاح أي شيء من النقود، لذا فلقد حمل إلى الطبيب المعالج ديكاً، وهو أغلى ما لديه، إلا ان الطبيب حينما علم بان الفلاح لا يملك نقودا طرد الثلاثة، الفلاح وزوجته المريضة والديك. ( بعد سنوات يخرج يلماز فيلم ( القطيع) عن فلاح يأتي بزوجته المريضة الى المدينة.. لكن مع أحداث أكثر مأساوية – م ). القصة لم تنشر بدعوى انها يسارية، رغم انني في هذه الفترة لم أكن اعرف ماذا تعني اليسارية.
وفي العام ١٩٥٣- ١٩٥٤ بدأت بكتابة المقالات والقصص القصيرة. فكنت أرسلها الى الصحافة المحلية والمركزية. وفي منتصف العام ١٩٥٤ أخذت مقالاتي وقصصي تظهر على صفحات الاعداد الخاصة ليوم الأحد في الصحف، وحتى نهاية هذا العام أخذت نتاجاتي تنشر في المجلات.
أهم قصة نُشرت لي حينها كانت تحت عنوان( الموت يدعوني)، تتحدث عن الحب المأساوي لاثنين من الفلاحين الفقراء، فالشاب لم يكن باستطاعته العمل وتأمين مستقبل العائلة فيهجر حبيبته التي تنتحر وتترك قصاصة من الورق كتبت له فيها( لماذا قتلتني، لقد أردتُ أن أعيش لكي أحبك)، وكذلك قصة (ليس ثمة من نهايةللإهانات)، وهي تتحدث عن شخص يبحث عن عمل، ويتحمل في بحثه ما لا يحصى من الإهانات، ورغم ذلك فلم يحصل على عمل فيلقي بنفسه من الجسر الى الماء.. القصتان نشرتا العام ١٩٥٦ في مجلة (أيتي أوفوكلار – الأفق الجيد ). ولكن الأكثر ضجيجا كانت قصتي( الأسرار الثلاثة لأسباب عدم المساواة الاجتماعية) التي نُشرت في مجلة (البحوث الفنية – انوج – العدد ١٣)، هذه القصة أصبحت مرحلة في حياتي، حيث كان دويها وانعكاسها واضحا وبارزا طوال مسيرة حياتي اللاحقة. لذا فحينما جئت إلى استنبول العام ١٩٥٧ كان لديَ اكثر من ثلاثين مقالة وقصة منشورة.. حينها منحني أصدقائي اول لقب ( القاص يلماز).

* هل بالإمكان، ولو باختصار، أن تحدثنا عن هذه القصة، لأنني لم أجد عدد المجلة التي نُشرت فية قط؟
– ولن تجده،لأن العدد لم يظهر الى النور، إذ احتجزه الرقيب، وكل النسخ قصت ومرت تحت السكين. أما القصة فقد كانت عن اللامساواة الاجتماعية في البلاد. فأحدهم يعمل والآخر يجني ثمارعمله. الأول يعيش في البؤس كما يعيش الإنسان البدائي والثاني يحصل على الشهادة العالية والضمان الصحي وضمانات الحياة الأخرى وهو يحاول ان يفرض سيطرته على الأول بواسطة ثلاثة عوامل: المال، والدين، والتقاليد. طبعا الأحداث مأخوذة من واقع الحياة، لكني أُتهمتُ حينها بالشيوعية.

* لقد قرأت رواياتك، والكثير من قصصك، وشاهدت أفلامك، وأعرف جيدا أرضيتك السياسية، لكن بودي ان أعرف أيضا الأشياء الأخرى التي أثرت في تكوين وعيك؟
– الحياة..؛ البيئة التي ترعرت وسطها. في طفولتي لم أشعر بانتمائي الكوردي، فحولي كانوا يتحدثون بالتركية. ,أعيدها هنا وأكرر، بأنني كنتُ أتحدث لغتي الأم، لغتي الكوردية، بشكل سيء. فلقد كان العداء بين السكان الاتراك والأكراد، أو قل النظرة العدائية ضد الأكراد والقوميات الأخرى واضحة للعيان.. وهذا الوضع فجر لديَ مشاعر المحبة إزاء المهاجرين.
أثناء لعبي مع ابناء الأغنياء، وانا صغير ، فهمتُ ماذا يعني التفاوت الطبقي. أمي كانت تعمل صيفا في الأرض مع أبي، وفي الشتاء كانت تعمل كخادمة في بيوت الأغنياء، وكانت تحمل معها بقايا الطعام الذي لم يتلف بعد. ولكن مع مرور الأيام كنت أتفهم بأن هذا الوضع مهين..؛ فكنت أصارع شعورالذل في أعماقي.
شكليا، العلاقة بين الإقطاعي والفلاح مبنية على أسس ديمقراطية، فالفلاح يشرب القهوة وكذلك الإقطاعي، وقانونياً إنهما متساويان بالكامل في الحقوق الاجتماعية، لكن الاضطهاد والاستغلال لا يتأثران بهذا.
أبي كان يحلم دائما في أن أواصل تعليمي، كان يقول:( اذهب الى المدرسة يابني وتعلم كي لا تصبح عبداً مثلما صرنا نحن)، لكنه لم يفهم بأنه في المجتمع البرجوازي يمكن أن تصبح عبداً حتى وإن كنت متعلماً.