كان قدر يلماز أن يولد في بلد يمنع فيه استخدام لغته الأم ……ولد الروائي والممثل والمخرج الرائع يلماز بوتون سنة ١٩٣٧ في قرية ينيجة في كردستان تركيا ….نشأ الصبي غوناي كسائر صبية قريته واشتغل في الزراعة والعمالة وشاهد مقتل والده سنة ١٩٥٨ ….
بدأ مشواره مع الكتابة واصدار النشرات ليدخل السجن ولأول مرة أثر نشره لقصة قصيرة ، قضى في السجن ١٨ شهراً ثم نفي الى قونية ، ليبدأ مع الروايات وكتابة السيناريو ليدخل السجن مرة أخرى اثر اصداره لسيناريو (زهرة الصحراء) حيث اتهم بالترويج للأفكار اليسارية .
بدأ رحلته مع السينما في ١٩٥٧ كمساعد مخرج لفلم (أبناء هذا البلد) ومن بعدها اشتغل كممثل في ٤٠٠ عمل سينمائي منها ١١٠ فلما بدور البطولة وكان ملقباً ب(السطان القبيح) كما أخرج ١٨ فلما سينمائياً.
تركيا كانت تشارك المهرجانات السينمائية من خلال أفلام غوناي ، وكان تكريمه يأتي دائماً من خلال القاء القبض عليه وزجه في السجن كما حصل معه حين أخرج فلم (غداً هو اليوم الأخير) ….
نال يلماز غوناي ١٧ جائزة سينمائية ممثلاً ومخرجاً …,لكن أهم جوائزه بالطبع هو حصوله على السعفة الذهبية في مهرجان كان عن فلمه الشهير (الطريق) ……هذا الفلم السياسي الذي كان يتابع قسماً من أعماله وهو في السجن ثم أكمله حين هرب من السجن ليتوجه الى فرنسا ويؤسس مع زملائه المعهد الكوردي في باريس ، وكان اخر اعماله هو الفلم السينمائي (الجدار) .
توفي يلماز سنة ١٩٨٤ وشارك في تشييعه كبار الشخصيات السياسية في فرنسا الى جانب الآلاف من محبيه .
ابراهيم العريس هو من أفضل النقاد العرب الذين كتبوا عن غوناي
أقتبس قسماً مما قاله عن غوناي في جريدة الحياة اللندنية بتأريخ ١٧ أغسطس ٢٠٠٧.
حياة تبدو خارج المألوف تماماً. بل أقرب الى الأسطورة. والحقيقة ان يلماز غوناي يعتبر أسطورة حقيقية، هو الذي طلع من الحضيض تماماً، من حضيض بؤس الفلاحين المغامرين والمقامرين بحياتهم في المناطق الزراعية المحيطة بأضنة في الجنوب التركي، ليصبح خلال فترة قياسية من الزمن واحداً من السينمائيين الأكثر حضوراً في السينما الأوروبية. وبفضل ماذا؟ بفضل أفلام تقول الحكاية انه أدار إخراج الأفضل من بينها وهو في زنزانته في السجن.
ويقول أيضاَ
لكن يلماز غوناي لم يحظ بمكانته الأساسية كسيد من سادة السينما التركية الجادة والجديدة إلا سنة ١٩٧٠ حين أنجز «الأمل» (أوموت)، هذا الفيلم الذي اعتُبر، عالمياً، بداية غوناي الحقيقية إذ راح يدور، في الخارج، من مهرجان إلى آخر وراحت أقلام النقاد العالميين تكتب عنه بحماسة، حتى وإن كان موضوعه – في ذلك الحين – قد بدا عصياً على الوصول إلى المتفرج الشعبي التركي الذي كان غوناي يسعى أصلاً إلى التعبير عنه والوصول إليه. ويتحدث «الأمل» عن حوذي يقتل سائق سيارة حصانه، مصدر رزقه الوحيد ورزق عائلته. هذا الموضوع البسيط حوله غوناي مع مسار الفيلم الى موضوع كافكاوي بامتياز. والحقيقة ان غوناي إن كان عجز عن ايصال حبكة الفيلم الى متفرجه، أوصل إليه عدوى الثورة وحس التمرد على الأوضاع القائمة، مصوراً البؤس والجوع اللذين تعاني منهما ملايين الأتراك. ومن هنا كان من الطبيعي ان يربط النقد العالمي سينماه بسينما الواقعية الجديدة الإيطالية، ما زاد من احترام الجمهور التركي له، وبالتالي من حذر السلطات الرقابية التركية حياله.
ويسرد لنا العريس جزءاً من حياة غوناي فيحكي:
ايليا كازان يكتشف غوناي: انه صادق مثل فلاح حقيقي
في ربيع سنة ١٩٧٤، كان يلماز غوناي مسجوناً في أحد السجون التركية. كانت هناك محاولات كثيرة يقوم بها مثقفون ومناضلون أوروبيون لدفع الحكومة العسكرية التركية إلى إطلاق سراحه… ولكن من دون طائل. في ذلك الحين كان المخرج اليوناني الأميركي المولود في تركيا، ايليا كازان، قد قام بجولة في مسقط رأسه رافقه فيها الكاتب ياشار كمال، يومها استقبل كازان بحفاوة لم ينكرها… وحين وصل إلى باريس بعد تلك الجولة قيّض له أن يشاهد في العاصمة الفرنسية فيلم «الأمل» ليلماز غوناي، وكان بالكاد سمع باسمه… لكنه خرج من الفيلم مبهوراً… وإذ أخبر في ذلك الحين أن غوناي في السجن، كتب نصاً نشرته خلال الأيام التالية صحيفة «ملييت» (الأمة) التركية يوم ٥ نيسان (أبريل) ١٩٧٤… وكان من نتيجته ان أطلق سراح غوناي. وهنا الجزء الأخير من النص والمتعلق بهذا الأخير.
(…) إذا كان كاتب أو فنان ما راغباً في إيصال أفكاره ومشاعره إلى جماعة من البشر، هناك طريقة تبدو لي أكثر فاعلية بكثير من الكلام. وأنا أتحدث هنا عن المهنة السينمائية. فالسينما يمكنها ان تعطي بالصورة والصوت ما لا يمكن للكلمات ان تعطيه. وبفضل سمتها هذه تبدو لي السينما فريدة من نوعها… تبدو لي شديدة القوة. أذكر هنا انني دعيت منذ شهور إلى حضور عرض لفيلم في المكتبة السينمائية الفرنسية في باريس. شاهدت الفيلم يومها وشعرت بأنه يلامسني حقاً… يلامسني إلى درجة انني لا أزال حتى اليوم واقعاً تحت تأثيره. اسم هذا الفيلم «الأمل»… وحققه مخرج لم أكن قد سمعت باسمه. اسم المخرج يلماز غوناي، أما اسم الفيلم بالتركية فهو «اوموت».
حين تشاهد هذا الفيلم تشعر من فورك أن النظرة التي يلقيها مخرجه على البشر وعلى قومه، نظرة صادقة، حقيقية ومتكاملة إلى درجة انني حين كنت أتابع مشاهد الفيلم شعرت بقلق شديد على مصير الرجل والعائلة اللذين كنت أشاهدهما على الشاشة. بل انني ظللت على قلقي هذا حتى بعد نهاية الفيلم. ما الذي سوف يحدث لهذا الرجل يا ترى؟ هكذا رحت أفكر وأتساءل. وماذا سوف يحدث لاحقاً له؟ ماذا سيصيبهم… بل ماذا سيصيب أطفالنا جميعاً؟ ما الذي سوف يصيب تركيا… وماذا سيصيب هذا العالم كله؟ ان أقلق… ان أهتم… ان أتساءل معناه بالنسبة إلي ان هذا كله يشكله أساساً لتطوير هذه المهنة… وهذا، والحق يقال، أهم ألف مرة من طرح أحكام حاسمة قاطعة.
ويختم العريس مقالته بمقتطفات من أقوال غوناي تخت عنوان هكذا تكلم يلماز ….أدرج هنا بعضاً منه:
* حين كنت أدرس الحقوق في أنقرة، لم أكن أعرف أن هذه الحقوق هي حقوق البعض وليست حقوق البعض الآخر.
* فحين يمضي المرء ٥ سنوات في السجن تبقى لديه آثار كثيرة تطبعه. وأنا أعتقد أنني لا أشذ عن هذه القاعدة على رغم كل الجهود التي بذلتها كي أحصن نفسي. فأنا أيضاً انطبعت بهذا كله ولكن من دون أن أعرف كيف يلوح علي
* ان أولئك الذين يمضون وقتهم وهم ينشدون الأغاني الثورية حين تكون الأمور هادئة ولا قمع هناك ولا يحزنون، سرعان ما يختبئون خلف أبواب بيوتهم حين تصبح الأمور صعبة…
* القضية الكردية قضية في غاية الصعوبة والتعقيد. ذات يوم سأحقق فيلماً أحكي فيه حقاً حكاية نضال شعب من أجل ولادته أو بعثه. أما اليوم فالأمر عسير كما ان القضية نفسها عسيرة. ومع هذا على المرء أن يحكي، ذات يوم، كيف تم تشتيت الشعب الكردي وتقسيمه، وما هي الآفاق المستقبلية المطروحة أمامه. على أي حال اعتقد ان من الأمور الشديدة الصعوبة الحديث عن مثل هذا بموضوعية. فالتاريخ ليس حافلاً بالانتصارات فقط، بل هو حافل، كذلك، بالهزائم والأخطاء وخيبات الأمل.
من هـو يلمـاز كونـاي..
اعداد : صلاح الدين بلال
![]() يلمـاز كونـاي |
لكل شعب عظيمه… و العظماء لا يولدون إلا في كل قرن مره, ومن عظماء الشعب الكردي يلماز كوناي .هذا النجم الذي انطفأ على جسد يتفجر بالبراكين والثورات عن عمر لم يتجاوز السابعة والأربعين ( أنا مشتاق لوطني وهذا يؤلمني أن افتقد الكفاح الحار الذي يغلي والذي يجري هناك الآن أريد أن أكون فيه وجزء منه ) … في التاسع من شهر أيلول رحل كوناي وكأنه تقصد بذلك أن يجمع بهذا الشهر أكثر من ذكرى ليخلق من أيلول ملحمة لزمن الكرد وكردستان. كان كوناي سجل تاريخ شعبا بكامله كتبه بدمه على جدران سجون الأنظمة الفاشية في تركيا وسجل في تاريخها الأسود اكثر من ثمانية عشر عاما داخل زنزاناتها الحاقدة .لم يكن كوناي هذا المتمرد على مضطهديه ثوريا بالصدفة أو نتاج تناقض الضمير البرجوازي أو مثقفا متأففا .. ولحياة وتاريخ يلماز كوناي اكثر من جانب واكثر من عالم فهو سينمائي كما هو سياسي وهو إنسان مبدع كما هو أب بسيط وهنا سنتناول كوناي الإنسان وكوناي السينمائي.
انه من مواليد عام ١٩٣٧ حيث ولدته أمه ( غوللو ) في الأول من نيسان في قرية ينيجة في قضاء اضنة من أب فلاح فقير يدعى (حميد بوتون ) و لم يكن أبوه يدرك بان هذا الضوء الجديد سيكون يوما من الأيام عظيما لشعبه وشاغل لقلوب الكثير من الكادحين والكثير من محبيه وأصدقائه ورفاقه . بل رأى فيه الغريزة وطبيعة الحياة لينضم بذلك إلى أسرة اكتملت واجتمعت بافواهم السبعة الجائعة ليكونوا ويلا لأبيه الذي لا يملك غير قوته وزنده كعاملا موسميا زراعيا في سهول كردستان الخصبة والتي أكثرها ملكا لاغوات ومشايخ المقاطعات ومن يحكمهم . من هذا الواقع القاسي من هذا الجيش الكبير بفقرائه والذي يشكل شعب كردستان معظمه كان يلماز كوناي لهذا عندما تفتحت عينيه لم يشاهد سوى القهر والعذاب و الحرمان والاضطهاد … والاغوات والدرك.. وحياة قاهرة من البؤس والبرد والأمراض والجهل .لهذا لم ينسى أبدا طفولته التي لم يشاهد منها شيء كما لم يشاهد آلاف غيره من أطفال كردستان الذين تمر عليهم أعياد الطفولة وكأنهم رجال لا يعنيهم ولا يشملهم ذلك وللحق فأطفال كردستان لم يدركوا طفولتهم لأنهم رجال عنيد ون رغم ريشهم الصغيرة . و لأنهم يصمدون رغم كل أسباب الموت ليحيوا ويبنوا العالم الجديد ويلماز من طفولته لم ينسى أبدا كيف كان هو وغيره من الأطفال الفقراء وكيف مات صديق طفولته ( سلو ) الذي لم يستطيع الفقر رده … وكيف كان أطفال الأغوات والإقطاعيين في لباسهم حين يمرضون وحتى حين يلعبون.
مارس يلماز اكثر من مهنة ليكسب قوة عيشه ومصروفا لدراسته حيث اكمل الثانوية و سجل في جامعة استنبول في كلية الاقتصاد و في استنبول كان كوناي الثوري و الفنان المبدع. في استنبول تبلورت مفاهيم كوناي الثورية و الذي كان بطبيعته الطبقية الثورية حيث يدل على ذلك رفضه الطفولي في مرحلة بسيطة من حياته لأشكال التعسف الاجتماعي ضد طبقته , و شعبه, حيث يدل اسمه جليا على ذلك , ف (يلماز ) يعني ( القاسي ) و لقبه كان بوتون لكنه أختار كوناي و تعني ( المسكين ).
وفي التحام القوة بالبساطة انطلق يلماز كوناي موهبة إبداعية وإصبعا ثوريا يشير إلى عيني عدوه في عزما لا يهاب, كسبباً لكل آلام شعبه وفقره واضطهاده. لهذا أحبته الجماهير وجعلته في أعلى القمم .وكانت صوره واسمه هي الأكثر ظهوراً في شوارع تركيا وبيوتها الفقيرة وفي صالات عرض الأفلام السينمائية وما أن وصل كوناي إلى استنبول حتى تحررت دمائه من عروقه ودبت فيه حركة أكثر توهجا فكان ورشة كاملة من العطاء. منها إصداره عام ١٩٥٨ مجلتين هما بوران ودوروك ويساهم في تحرير جريدة الحائط الجامعية, لكن ذلك لم يستمر طويلا ً ولأسباب معروفة دوماً. كتب قصته الأولى الأعناق الملوية ١٩٦١ وكانت محطة ليزج في إحدى السجون بتهمة ( المثقف الأحمر ) .
![]() الطريق |