نوسوسيال

بقلم خليل أوصمان : {الأسى والذكريات}…قصة من وحي الذاكرة

654

ة . كان الطريق نحيلاً يهرب أمامه، والهواء يتحرك بين الحين والآخر في ملل، فيصفع الضباب حوله وكأنه يتثائب، بينما قطراتٌ تائهةٌ تتجمع فوق ذقنه وتتساقط في الفراغ ، أما عيناه فتلتهمان الأفق لعلهما تجدان منفذاً ما . تكاثفت ليلتها موجة الضباب وحجبت كل شيئ، وفجأة اغتبطت عيناه وهو يلمح ذلك النور الذي بزغ من خلال السواد . عندها أيقن أنه لن يبقى تائهاً . إنه شهر شباط العائد فجأة إلى تجهمه وعبوسه، وفيه تهب الريح وتصفر وكأنها تعوي في العراء . كل ذلك زاده شعوراً بالوحشة، بينما تقرص وجهه هباتٌ من الرطوبة وهي تكاد تخنقه . هنا عاد به الخيال إلى آفاقٍ بعيدة، بدأ يتخيل نفسه وكأنه في المنفى، ورعاة القطعان، والشمس يغطيها السحاب، والدفء التائه خلف الغيوم، ومدينته الكئيبة، والخرائب والقبور … أضحى نفسه مرتعاً لآلاف المشاعر الثائرة على الوجود والبشر والدنيا بأسرها. فجأةً يقتحم وحدته وصمت الليل ، نباح كلب من بعيد … “يبدو أن الإنسان لا يمكن أن يبقى في ظلامٍ دائم، ففي قلب كل سواد مهما كان حالكاً شيءٌ من النور” . إنه قادو، عجوزٌ في ثوبٍ عتيق، بائع لبادٍ متجول، أتعبهُ وجوب الطرقات، دارت به الأيام، واختفى رأسه بين ذراعيه، وتقوّس ظهره من آثار السنين . في غياهب الزمن وقادو كور العابر مع حماره تلك الأصقاع كان يشيخ ويزداد بؤساً. (اسمه قادو وسمي قادو “كور” لحَوَلٍ في إحدى عينيه). ليالٍ مضت، شهور، سنوات، وهو يلاحق لقمة العيش وهي تهرب، يتبعها بخطواته المتعبة، يفتش عنها تحت وهج الشمس، وفي الظل، وتحت المطر . في تلك الليلة وعندما عاد إلى رشده، توجه إلى مصدر ذلك النور، بينما حماره كان يمد أذنيه إلى الأمام، وهو يسير خلف صاحبه مطيعاً، متثاقلاً تحت حمولته من اللباد المصفوف بعنايةٍ فوق ظهره، بينما الرطوبة زادت من ثقل وزنه ومن معاناته. وصل إلى مبتغاه … ضوء خافت، وعمودٌ هزيل من الدخان الأبيض يتصاعد متهالكاً من ذلك البيت، إنه منزلنا القابع في ذلك المكان المنزوي من خارطة العالم . ازداد نباح الكلب، فخرج والدي من الدار ليتفاجأ بـ”قادو كور” كشبح يظهر بين الضباب، رحب به وأنزلا الحمولة سوية عن ظهر الحمار، دخل الضيف الى الدار، بينما أخذ أخي يسحب الحمار إلى الاسطبل . الجوع والتعب والكآبة، كلها خرجت من حشرجة صوت العجوز، وحاجته إلى الدفء والطعام، وبدت هيئته كالتينة الناضجة والتي تسقطها الريح على الأرض . تمدد على الفراش بعد تناوله الطعام، وأخذ يغط في النوم، لحظتها حاصرت عيناي تراسيم الرجل، وأنا أبن العاشرة، بينما يحوم في ذهني فضولٌ صارخ لمعرفة كل جديد، وأندهش من رؤية الغرباء . في اليوم التالي استيقظت باكراً كغير عادتي، وقد خرجت الشمس من أسرها الطويل، لتشيع الدفء في عظام أولئك الذين لا يعرفون الدفء، إلا حين تمنحهم حرارة الشمس . لم تنقطع نظراتي الفضولية عن لحية العجوز البيضاء، وخيل إلي أنها نذير باقترابه من النهاية. عندما استيقظ الغريب في الصباح كان مستريح الخاطر، هادئ البال، وقد أخرج من جيبه علبة تبغه، وتناول سيجارةً ووضعها في زاوية من فمه، وراح يدخنها بغطرسةٍ، وكأنه ولد من السديم من جديد. استدركت شجاعتي، فجمعت أطرافها، وكمن يريد أن يزيح ثقلاً عن كاهله، قلت: ألديك بيتٌ وزوجةٌ وأولاد؟ ارتسم العجب على وجهه وجُحظت عيناه، رسم الألم على ملامحه خطوطاً عميقة. لحظتها حاول والدي أن يخلق حديثاً آخر، فسأل العجوز عن تجارته ومغامراته، ولكنه صمت، ويبدو أنه امتعض من سؤالي، وشعرت به وكأنه يبتلع كلماتي التي بدت كإهانة له، كان يريد أن يجمع الهواجس المتراكمة في ذهنه، ثم ظل ساهماً في مكانه وهو يرفع بصره صوبي، وفي وجهه انقباضٌ مخيف . قال بعد تنهيدةٍ عميقة: – طالما عانيت مما أنا فيه، ولكنني سأسرد لكم حكايةٍ من نوعٍ آخر: – في مدينةٍ حدودية، وفي يوم ربيعي جميل، كنت بضيافة رجل غني بماله وجاهه، وقضيت ليلتي في منزله الكبير، وكم تفاجئت به في صباح اليوم التالي حين استيقظت، رأيته يفزع من نومه فجأة كالملسوع، استوى جالساً يجيل النظر حوله مرتاباً قلقاً، كان وجهه مجعداً باهتاً، وكأنه يعاني من شيء ما. تنهد ومضى إلى الخارج ربما لقضاء حاجته، ثم عاد وجلس ينظر إلى وجهي قائلاً: – أتعلم يا صاحبي أنت أكثر مني سعادةً في هذه الدنيا، بالأمس رأيتك تتناول الطعام بشهيةٍ لا مثيل لها، وخلدت إلى النوم فور ذهابك إلى الفراش، بينما لا أملك تلك الشهية ولا تلك الراحة، وينتابني القلق والأرق، دون أن أجد لمعاناتي سبباً ؟ أنت في نعيمٍ وسعادةٍ دون أن تدري . عندما ودعته وغادرت منزله همست لنفسي: – لا شك أن القدر داعب هذا الرجل، صاحب المال والجاه في خشونة وعناد. وكأن ما سمعته منه يكفي لأن يملأ عيوني بدموعٍ حارة، نظرت إلى نفسي وأنا أقارن فقّري وقلة حيلتي برجل منحه القدر كل شيء، ورغم ذلك هو في تعاسة وبؤس، بل ويحسدني. كنت أسير في الشارع، وأشعر أن المارة حولي يشخّصون لي بأبصارٍ مرعبةٍ، وأفواهٍ مفتوحةٍ، وقلوب موصدة، ثم يمضون . عندما أتمّ قادو كور حكايته تلك، نهض يسحب رسن حماره مغادراً إلى محطة أخرى، أما أنا فرافقته لمسافة ما، لكنه لم يعرني التفاتةً، هز رأسه استخفافاً ومضى في سبيله، ثقيل الخطى مسمّر الاجفان وهو يتمتم وكأن به يهذي، وبدا بائساً ينهل من ملامحه شلالٌ من الأسى والذكريات