نوسوسيال

بقلم: القاص : خليل أوصمان / …صقيع الليل…

676
 كانت ليلة من ليالي آذار، هادنت فيها سماء الربيع غيوم الشتاء، فتغامزت النجوم وتراقصت النسائم وغمرت النعومة أرجاء المكان . الليل يسري على القرية، بينما الهم يجثم على صدر الشيخ فوزي الذي غلب عليه لقب “الشيخ”، ليس من أجل عمامته وزهده، وإنما لكثافة لحيته وطيب معشره . لحظاتٌ طويلة ملأ فيها الصمت الثقيل الحجرة الرطبة، بينما الرائحة النتنة بدأت تغزو مخيلة الشيخ فوزي، ولهيب السيجارة يلسع لحمه، وفي غمرة نفوره من كل شيء أخذ يكرُّ على ماضيه في عناد، وهو يحاول أن يستعيد وجه أبيه دون سبب، ثم عادت به الذاكرة حينما جاء إلى هذه الدنيا من غير إذن، حيث النكد والأسى . كان فيما مضى من حياته، وكلما عاد إلى بيته المتهدم وزوجته البائسة، مكفهر الوجه ضيق الصدر، يفتش عن مخرج لعذابه وهو يمني النفس بلقمة تسد الرمق، وطفل يبكي بينما صرير مهده يزيده أرقاً ولكنه أرق بهيج، كيف لا وهو يحلم كل ليلة بصبي يمهد بروحه المتعبة وسنين عمره المهترئة . انتفض ووثب فجأة، وأغلق الغرفة على زوجته في سكون، بينما صوت شخيرها يشنج أعصابه أكثر، ومضى ينهب الطريق إلى دار صديقه إيبو الذي يصغره بعقدين، أخذ يسير وقد لفحت محياه هَبّةٌ باردة وهو هائم على وجهه، مضطرب الخطى ملتهب الوجنتين، وراعه أنه وحيد، وأن الليل لا يمكن أن يكون صامتاً إلى هذه الدرجة من الرعب الأخرس . كان يحاول أن يجمع شتات أفكاره، بينما أطلت من النوافذ الأخرى أضواء خافتة، ودبت حركة بداية الليل بجميع الكائنات؛ إلا صديقه إيبو الذي استقبله بتكاسل كعادته، تسلل الشيخ فوزي إلى الحجرة في سكون ومرارة، وقد رشق نظراته في عيون مستضيفه، جلس إيبو بجواره ممسكاً بذراعه مستفسراً عن سبب قدومه في تلك الساعة . تجهم ملامح الشيخ و بدا فيها انشغالٌ ورعشةٌ تهز أطرافه، وكل شيء يتراقص أمامه، فشعر بالجليد يحيط به، بدء كمن يبحث عن الدفء المفقود في حياته، بينما تثور في نفسه ضغينةٌ وأشياء أخرى . كان الشيخ فوزي يرى في وجه صديقه إيبو إشراقة الشمس، وكان من عادته أن يثرثر له و يستشيره في متاعبه ومعاناته . أما إيبو ومع دخول الشيخ عليه، أحس بكثافة الجو حوله وهو ينهي مكالمة ماراثونية مع بوزان الذي كان في يوم ما صديقاً وفياً له. بوزان من أولئك الذين عصفت الحرب بمدينتهم، وفَرَّ كغيره من مسقط رأسه، ليصبح من المشتتين في اصقاع الدنيا وكانت تلك فرصته الأخيرة، فأصبح ينشد الحياة وراء تلك البحار، وقتها أدرك بأن البقاء صعب، والرحيل صعب مثله، واختار الرحيل بعد أن زخرفت قلبه بحلم الحرية . لكنه بدأ يعاني أنين الإغتراب في البداية و طيف وطنه لا يبرحه، وهو لا يكف عن سؤال حيره ويخص به من تركهم خلفه : — هل خرجت وتركت فراغاً في قلوبكم وسوف يغزوكم القلق وتظلون كالضالين بعد رحيلي عنكم ؟ ولكن الزمن شحب كل شيء، وجعله يلهى عن ذلك الهاجس . وها هو الآن يتجنب جميع البشر ويتناءى عنهم . في تلك الليلة، أراد بوزان أن يخفي كل تلك الخواطر الخبيثة عن ذهنه، عندما اتصل بصديقه إيبو، ومن ثم استرسل بالحديث عن “قطته” والتي اسماها (لامون)، وجعل منها موضوعاً حيوياً يستحق الخوض فيه، وبدأ يسترسل في سرد قصتها بكثير من المتعة ويجهد نفسه بإنتقاء العبارات، ويبدي لهفته وشغفه بها، وكأن وجود تلك القطة في حياته كان حلماً من أحلام الطفولة وقد تحقق فجأة …! كيف عثر عليها في النت، وانزلق من بيته إلى منتصف تلك المدينة الأوربية واقتناها، وتعهد بجميع الالتزامات من تأمين على الحياة وضمان صحي، ثم جعله حيواناً مخصّياً بإشراف طبيب مختص، إلى زرع شريحة إلكترونية تحت جلدها، والكثير من الجهد والمال، لتصبح أحد افراد اسرته بل وأكثرهم اهمية ومكانةً لديهم . كان إيبو في غمرة توتره واضطرابه، بعدما أنهى حديثه الأثيري مع بوزان، وبدا مندهشاً وأخذ يصيح، ولكن الصيحة ماتت ولم يسمعه أحد، فكلمات صديقه دخلت قلبه لتعصره عصراً وتجعله يعاني التوتر والغضب . كان الرجل يعيش آثار الصدمة، ولحظات أخرى اضاعها في ردم الهوة السحيقة بين صديقيه “شيخ فوزي وبوزان” ولكنه كان يدرك بأنه لا يستطيع إلا أن يحتفظ بتلك الظلمة في اعماق ذاته . أصابه الشرود وهو يحادث روحه ويواسي نفسه قائلاً : — البعض ينصرفون إلى إرواء ذواتهم من المتعة واللهو، ويتوهون في تفاصيلها، ربما بوزان من هؤلاء البشر . — وهناك من الناس من يمضي بحسب ما توجده الصدفة في حياتهم، فلا ينظرون إلى ما هو اعلى من جباههم ، كما هو صديقي الشيخ فوزي . في زحمة ليلة طويلة تيقظ المارد في اعماقه، واستفاقت الاشباح، فشعر إيبو بالحنين لطفولته القديمة، وبوزان رفيق صباه، والمدرسة، ومعلمه الذي يشبه صديقه الشيخ فوزي بأحاديثه التي لا تنتهي وعصاه كلما تأخر عن الدوام . و بدأت تلك التناقضات في مخيلة إيبو وكذلك الحياة بتجلياتها كالإعصار الذي احرقه وخلفه كالرماد . ليلتها ارتشف الصديقان الكثير من أكواب الشاي . في ساعة متأخرة من الليل شوهد الشيخ فوزي وهو عائد إلى داره، وقد أكتسى ثوب الذهول وعدم الاكتراث، بينما الخوف يتمشى إلى قلبه، فيبعث فيها برودة كبرودة الموت مع ما يحسه بحلقه من جفاف، وما يستشعره فوق وجهه من حبات متكاثفة من العرق رغم صقيع الليل . امتدت يده إلى الباب يطرقه في استرخاء، ثم أخذ المفتاح من جيبه وفتح الباب، كانت بقايا بيتٍ كئيب وشبح إمرأةٍ ترقد كالجثة فوق فراش مهترئ . رمقها بنظرة ملتهبة عطوفة بينما لسان حاله يقول : — الليل طويل، فأحبس دموعك أيها العجوز ، لعل الفجر يحمل لك قليل من النور وبعض الحياة، وإياك وظلالك تتنحى فوق الطريق مرة أخرى وتغيب كالسراب .
Khalil قام بالإرسال 6 مارس الساعة 9:48 م

Khalil قام بالإرسال 6 مارس الساعة 9:49 م
القاص : خليل أو