نوسوسيال

بقلم: خليفة آل محمود / من نافذة التاريخ مقهى الحجاز الدمشقي

552

في برنامج «الكلوب هاوس»، بعد فترة من تدشينه، ظهرت لي صعوبةُ إيجاد غرفة تجذبني، الكثير من الغرف ينشأ دون تحضير «عطونا موضوع نسولف فيه»، جملة كثيرًا ما أسمعها، وغرف أخرى تستحوذ عليها مجموعة معينة ولا تسمح للآخرين بالحديث، مع تكرار لنفس الأفكار.

صباح السبت الماضي، أخذت أتنقل بين الغرف، اجتذبني عنوان لغرفة اسمها «مقهى الحجاز» دخلت وقد حدث ما سوف أخبركم به.

جُل الموجودين من السوريين المهاجرين في ستّ قارات، استغربت عنوان الغرفة وجنسية الموجودين، ما الذي جمع الحجاز بالشام؟، زالت حيرتي بمعرفة السبب، التجمّع بسبب إزالة معلم تاريخي في وسط دمشق وهو «مقهى الحجاز» وتبديله بمشروع سياحي، كان الحديث راقيًا وذا شجون، الحزن على المقهى ذهب بهم إلى الحديث عما تسبب به نظام فاسد لم يسلم منه الحجر والشجر والبشر.

الماضي وربطه بالواقع سمة الحديث، كلٌ منهم يدلي بدلوه عن ذكرياته عن ذلك المقهى، من أكاديميين وفنانين وحرفيين، توليفة من كافة طوائف المجتمع السوري، قالت الفنانة التشكيلية «عتاب» المُقيمة في شيكاغو: هل بقي شيء لم يعبث به هذا النظام، استسهل الدماء، لا نستغرب كل شيء دون ذلك، حديثها سمته الإحباط والحزن. تحدّث الملحن الموسيقي «مالك الجندلي» من نيويورك ليقول بهدوء ورقي عن الواقع المؤلم الذي ابتلي به المجتمع السوري، وعن صعوبة تجابه المجتمع المدني مستقبلًا لتلافي هذا الانقسام الكبير بسبب نظام، وقود بقائه زيادة هوة الانقسام بين أفراد المجتمع، وتحدث عن تجربته الموسيقية التي وُلدت من رحم هذه المأساة الإنسانية خاصة معزوفته الرائعة «يا الله ما لنا غيرك يا الله» الموجودة في اليوتيوب، شعار سامٍ يمثل ثورة رائعة مفعمة باليقين بالله، وصل صداها كل العالم، وليس فقط أشهر مسارح نيويورك.

شاب ينتمي للطائفة العلوية استرسل بحديث طويل غير مُنظم، عن معارضته لما يفعله نظام بشع، ضحاياه من الجميع، ليقول: إن الكثير من العلويين لا يقبلون ما يحدث، وإن حاول النظام إخراج صورة تختلف، وختم حديثه بقوله: جنى النظام الأرباح من فساده، ونحن من سيدفع الثمن الباهظ لإجرامه.

طلبت الحديث، قلت لهم: إنني أحزن أن يقترن اسم سوريا في الأخبار بالموت والدمار ولسنوات، مؤلم مشاهدة صور ذلك الشعب الكريم وهو يُدفن حيًا في ركام منزله جرّاء براميل متفجرة تسقط عمياء من السماء، وهي لا تعرف الشيخ الكبير، أو المرأة، أو الطفل الرضيع، عن تلك القوارب المكتظة التي تخترق البحار تحمل الباحثين خلف المجهول عن ملاذ آمن، ليبتلع البحر الكثير منهم، وربما عاش أحدهم يعتصره الألم لفراق الآخرين، الجميع أصبحوا تحت رحمة نظام تجرّد من كل رحمة، يحميه نظام عالمي غضّ الطرف عن كل الجرائم نظير حسابات سياسية، صور سوريا الجميلة لا تُحصى، نهر بردة، جبال قاسيون، الحميدية، الأسواق القديمة، جسر الشغور، الرقة، الزبداني، مناطق تمثل الشام الجميل النابض بالحياة، الشعب المضياف، الذي نشاهده في تنقلنا بين مدنه وقراه، بأحاديثهم الجميلة.

في الماضي «دمشق» عاصمة العالم، الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز كانت خيوله تأكل حشائش الصين وتهشّ بذيلها ذباب الجبال المُطلة على ضواحي باريس، هذه هي سوريا، وما نراه اليوم هو واقع مشوّه، وثقتي بالله أنه لن يستمرّ طويلًا.

نعود لمقهى الحجاز، الذي ارتبط خلال المئة عام من وجوده بذاكرة الكثيرين من أهل دمشق وزوّارها، بمساحة ١٦٠٠ متر، بحيّز يكفي ٦٠٠ شخص، وأخذ اسمه من قربه من محطة قطار الحجاز التي أسّسها العثمانيون لتربط بين دمشق والحجاز، تفاعل الدمشقيون وتصدّر اسم المقهى المواقع حين بدأ هدمه، حزن كبير أصاب الجميع، والغريب أن المشروع ذهب لصالح شركة أُنشئت قبل أسبوع واحد من ترسية المشروع عليها، عبث بمعالم دمشق، كتبت امرأة دمشقية في تويتر: «هُدم مقهى الحجاز ليغتالوا متعمدين ما تبقى لنا من ذكريات»، وكتب آخر: «يا كتابًا من ذكرياتي وداعًا».

استوقفتني مداخلة لصوت سوري مقيم في إحدى الدول الأوروبية، ليقول: لا بد يومًا أن نعود لدمشق، يقيني بذلك مثل يقيني بوجودي الآن، ولكن محزن أن نعود لنجد أحبابنا تحت التراب ساكنين بلا حراك، وأماكن ذكرياتنا أزيلت، لنكون حينها في أوطاننا كالأغراب.

ختامًا، «يا الله ما لهم غيرك يا الله».