الفاعل هنا واضح وضوح الشمس، إنها حركة النهضة برئاسة الغنوشى، الجناح التونسى للتنظيم الإخوانى العالمى، الذى إن يضع قدمه فى موقع، يتحول إلى خراب، تسود فيه الصراعات والانشقاقات والانقلابات على الدستور من أجل تحقيق هدف واحد لا حيد عنه؛ وهو الهيمنة الكاملة على مؤسسات البلد وقطاعاته الاقتصادية، وتحويله إلى امتداد تلقائى للمشروع الإخوانى المتحالف مع التركى العثمانى.
ولا يهم الحركة فى مشروعها الخاص كم من مآسٍ تسببت فيها للمواطن البسيط صباح مساء وهو عاجز عن توفير لقمة العيش لأطفاله، وكم من التراجع والفشل وسوء الأداء يحدث فى البلاد، وكم من الفساد العلنى بلا محاسبة، وكم من صوت يطالب بتصحيح المسار، لكنه يضيع فى الفراغ، وكم من غضب يجتاح النفوس سيأتى يوماً يطيح بكل شىء.
وكشأن كل امتدادات الحركة الإخوانية وفروعها، فالهدف الأول هو ابتلاع السلطة والناس والبلد معاً، وبعباراتهم الشائعة التمكين بلا قيد والنهب بلا حساب.
ما يجرى فى تونس ينبئ عن صراع لا نهاية له إلا إذا قام الشعب التونسى قومة رجل واحد ضد هذا الفصيل الإخوانى وحليفيه حزبى ائتلاف الكرامة وكتلة الإصلاح السلفيين. إنها مهمة شاقة ولكنها ليست أكبر من إرادة جموع الشعب إن التقت على هدف عزل الإخوان وحلفائهم، وطرحهم خارج سياق المعادلة السياسية والمجتمعية التونسية طرحاً أبدياً، ومعهم كل الذين خانوا ضمائرهم وباعوا أحلام الشعب وحقوقه المشروعة، وتعاونوا مع النهضة بملء إرادتهم من أجل العيش فى كنف الجماعة المتمكنة، ونيل بعض فتات السلطة.
فى العقد المنصرم، الذى استفاد منه الفوضويون والإخوان، لم يرَ التونسيون سوى مؤامرات السيطرة على الدولة بأسرها. تضامن بعض اليساريين والفوضويين والانتهازيين مع الفصيل الإخوانى بغية الحصول على فتات السلطة، تحت زعم التحالفات الديمقراطية الثورية البازغة، مما كشف الوجوه وانتهازيتها. فالصراع السائد الآن منذ ثمانية أشهر بين رئيس الدولة قيس سعيد، ورئيس البرلمان الإخوانى راشد الغنوشى، وحلفائه، والذى وقع فى أحابيله رئيس الحكومة هشام المشيشى، هو صراع من أجل بسط النفوذ على عمل المؤسسات وإخراج الرئيس من كل المعادلات السياسية التى ينظمها الدستور.
وهو ما قال به صراحة «الغنوشى» قبل ثلاثة أيام، واصفاً دور الرئيس بأنه رمزى ولا يتيح له التدخّل فى شئون الحكم، ومطالباً بتغيير الدستور ليؤكد أن الحكم بيد رئيس الحكومة ويخضع للبرلمان، ولا وزن لرئيس الدولة مطلقاً. وهو التصريح الذى كشف بجلاء تام نية الانقلاب على الدستور وعلى رئاسة الجمهورية وعلى المؤسسات.
حين رشح الرئيس قيس سعيد، هشام المشيشى، وهو وزير داخلية فى حكومة إلياس الفخاخ المستقيلة، لتشكيل الحكومة الجديدة، كان الأمر بمثابة مفاجأة هزت الجميع، إذ لم يكن اسم المشيشى من بين المرشحين الذين تقدمت بهم الأحزاب للرئيس ليختار منهم رئيس الحكومة الجديد. وكانت حجة قيس سعيد أن المشيشى مستقل، ويمكنه التواصل مع كل القوى السياسية، ويتفاهم معها من أجل المصلحة العامة.
البعض آنذاك احتسب الرجل على الرئيس، وأنه سيراعى رؤيته للأحداث، ويتعامل مع نصائحه بكل جدية ممكنة، غير أن حصيلة الأشهر الستة الماضية كشفت الأمور على عكس ما قيل.
تقارب «المشيشى» مع حزب النهضة، وحلفائها الثلاثة، رفع طموحاتهم السياسية لتغيير المعادلات السياسية وإقصاء الرئيس وتهميشه عن صنع القرار فى البلاد، فى الوقت الذى يثور فيه البسطاء، وهم عموم التونسيين على حصيلة السنوات العشر الماضية من التهميش الاقتصادى، والتراجع التنموى وتدهور مستوى المعيشة، وسيادة الفساد وغياب الجهد الحكومى لمواجهة المشكلات المزمنة أو الطارئة بفعل انتشار جائحة «كوفيد 19».
باختصار انقلب «المشيشى» على رئاسة الجمهورية كمؤسسة وليس فقط شخص الرئيس، وأعطى لنفسه الحق فى تغيير 11 وزيراً بتنسيق مع «النهضة»، أغلبهم من الذين يوصفون بأنهم مناصرون للرئيس قيس، أو من حصته حسب التعبيرات الدارجة، وذلك دون الرجوع لرئيس الدولة أو استشارته أو الاستماع إلى رأيه، وكأنه لا وجود له.
تحفيز النهضة لـ«المشيشى» للإقدام على هذا التصرف واضح تماماً، فالهدف واحد، والأصح أن هدف الإطاحة بدور الرئيس وتهميشه تماماً وإطلاق يد «النهضة» فى الحكم، هو الهدف الأسمى لدى النهضة الإخوانية، ويعمل على تنفيذه رئيس الحكومة.
تلك بدورها معادلة جديدة يُراد لها أن تصبح القاعدة العملية التى يتم الاستناد إليها فى أى دعوة لتغيير الدستور تحت شعار أن رئيس الدولة لا قيمة له، فهو رمز بلا سلطة، وواجهة بلا دور.
إنها المعادلة الأنسب للنهضة لإطلاق يدها فى كل شىء فى البلاد، ومن ثم يتحقّق لها التمكين الأبدى من تونس ومؤسساتها وشعبها، والثمن بسيط؛ أن تمنح الفتات من السلطة لمن ينصاع للأمر. ويبدو أن «المشيشى» بات يمثل للنهضة الوسيلة المناسبة لضرب مؤسسة الرئاسة والرئيس.
الأمر لم ينتهِ بعد، وشرفاء تونس وممثلو الأحزاب الواعية بخطورة الموقف كحركة الشعب القومية والدستورى الحر وتحيا تونس وغيرها ما زال بيدهم حسم الأمور لصالح دولة ومؤسسات لا تنصاع لجماعة على حساب الوطن والمواطنين.
خروج المظاهرات ضد النهضة وضد الحكومة ومؤيدة للرئيس، يفتح الباب أمام جولة صراع كبرى سيُحسم أمرها فى الشارع.