نوسوسيال

حركة الأديان في الرافدين و المناطق المجاورة

648

الكاتبة الصحفية والاعلامية ليلان جمال

انتشرت في بلاد الرافدين الجنوبية عقائد غنطوسية معمدة ذات جذور سومرية و فارسية مارست الغسل , أو التطهر كوسيلة لإنقاذ المرضى , كما كان الزيت الذي عرف باسم ( زيت الحياة ) عاملا هاما في جميع الطقوس.

فإذا كانت بلاد الرافدين قد أنتجت الممارسات الدينية في إطارها الطقسي , فإن بلاد فارس هي التي أعطت معنى تأملياً و فلسفيا لهذه الطقوس بالذات , و وأضح هذا في حالة المندعيين أو ( المندائيين ) وهي طائفة معمودية صغيرة مازال مؤيدوها و أتباعها خاصة في جنوب العراق , قرب البطاح المليئة بالمستنقعات الواقعة حول شط العرب (1) و المنطقة الجنوبية من إيران وهم طائفة من القبائل الآرامية ( مندا ) اسمها هذا مشتق من الكلمة الآرامية و تعني المعرفة و يسمى أصحابها بالصابئيين او المندعيين (2) .

وهم موحدون يؤمنون بوجود الله الخالق , و متفقون على صلوات , و يغتسلون من الجنابة و من الميت و تقديس قوانين الحياة و الخصب و رمز الحياة عندهم ( الماء الحي ) أو الماء الجاري و هو الاغتسال في الماء و الطهارة من النجاسات في الماء و التعميد في الماء (3).

و لسنا هنا في معرض العقيدة المندائية , بقدر إشارتنا إلى كونها ديانة رافدية تكونت من مزيج انصهار العقائد التي تلاقحت مع اليهودية و المسيحية إلى أن استقر بهم المقام في بغداد ثم في جنوب الرافدين (4).

و أشهر أنبيائهم النبي يحيى , أو يوحنا المعمدان الذي كان مقره في جبال ميديا ثم في حران بكردستان (5)

وعلى الرغم من أنه يتبادر إلى الذهن في أول وهلة ما يتعلق بالتعميد انه طقس مسيحي و يمارس في الديانة الايزيدية , إلا أنه يتوافق بشكل محكم مع الطقوس الفارسية و افكارها الميثولوجية كطقس التعميد بالنار أو الماء و عبور الجسر الذي يسمى الصراط على الرغم من أن هذه الظاهرة لم تتعرض للبحث و الدراسة والتحليل بشكل كاف , و لم يتم سبرها بشكل دقيق , إنما تشير بوضوح إلى بعض الآثار الفارسية كما هو الحال في طقس قداس الموتى (6) .

لقد عمت المؤثرات الزردشتية و بعض عقائدها آسيا الصغرى و سوريا و مصر, بل وصل حتى حدود اليونان في الفترة الأخمينية , إلا انه أصابها بعض الجزر في زمن الدولة الأشكانية , الأمر الذي هيأ الظرف للمسيحية أن تطل برأسها .

لكن سرعان ما برزت الزردشتية مجددة لذاتها و منتشرة في عهد الدولة الساسانية بعهد شابور و بهرام الاول و برز هذا التجدد بشكل جلي في تقديس الربان  و ميثرا و أناهيد , و استقبال إله جديد عرف بالزروان أو الزروانية (7) .

لقد دخلت الآلهة المذكورة الدين الزردشتي و لاقت التأييد في مناطق الرافدين العليا و ما وراء الهضبة الإيرانية .

لأن الطقوس الميثرائية كانت معروفة سابقاً في هذه المناطق , بل مورست في بعض مناطق الجنوب من الرافدين مثل دورا و أوروك , كما مورست في مدينة الحضر التي عرفنا طقوسها من خلال التنقيبات و التي سيرد ذكرها لاحقاً .

و حسب الاستاذ الدكتور زكار فإن تبجيل و تقديس ميثرا شمل أرمينيا و بلاد فارس و كردستان , و الامبراطورية الميدية و التي كانت تعتبر من المراكز الأساسية لعبادته , و تركزت فيها السلطة الدينية العليا , فهناك نعم ميثرا   بمنزلة سامية في التفسير الزرواني , و لاقى قبولاً لدى طائفة الكهنوت المجوسية التي وجدت في الإله زروان إلها أكبر للزمان و ممجدا جدا لتدخله في الشؤون البشرية , بل صار في الزردشتية المجددة أباً لأهورا مزدا الذي لا يكل من محاربة أهريمان في الصراع المحتدم بين الإلهين الأخيرين , و في ساعة الحسم وقف ميثرا بينهما موقف الوسط القادر على الخير و الشر , أما أناهيد فقد ظلت رمزا للخصب و الأمومة (8) و في الوقت الذي كانت الزردشتية في أوج حالات هضمها و استيعابها للعقائد المحلية أو الأقليمية , و في زمن الدولة الساسانية عام 224م ظهر ماني بمذهبه و الذي عده بعض المؤرخين منشقا من العقائد الفارسية أو الزردشتية , و اتهم في وقته بالهرطقة و أتباعه بالزندقة و قتل عام 274م .

لكن رغم ذلك انتشرت المانوية في مناطق واسعة حول البحر الأبيض المتوسط (9) و على أية حال فوالد ماني أميرفرثي عاش بكردستان في مدينة همذان عاصمة الامبراطورية الميدية ثم انتقل إلى الرافدين الجنوبية وسط طائفة غنطوسية معمدانية هي في الأغلب الطائفة المندعية أو المندائية , تلقى المؤثرات الهامة و الحاسمة بالنسبة لمستقبله (10) لذا جاء دينه أو مذهبه مزيجا توفيقيا من المسيحية و الزردشتية مع بعض المؤثرات الفلسفية الرافدية القديمة متخذا شكلا جديدا أو إطارا ظاهريا يشابه العقيدة المعمدانية , و هكذا اعتادت كل من المسيحية و الزردشتية على نوع و نكهة جديدة من التقوى الرافدية (11).

ومن أجل ذلك عد منشقا من الزردشتية أو مهرطقا بالنسبة للمسيحية (12)

لقد اعترف ماني بقيمة الديانات التي سبقته , لكنه اعتبرها مؤقتة و غير كاملة , لذلك كان مشروعه يقوم على صياغة ديانة شمولية تحتوي جميع الأفكار و المعتقدات و تتجاوزها في تركيب جديد قادر على ضم الجميع إلى عقيدة موحدة و بالتالي السعي إلى توحيد العالم بأسره تحت راية دينية واحدة (13) .

لقد كتب ماني مؤلفاته بنفسه على عكس عيسى و بوذا و زردشت الذين دونت تعاليمهم فيما بعد و بيد حلفائهم , حمل اتباع ماني هذه المؤلفات و التعاليم و بشروا بها و هم متأهبين للدخول في صراع مميت مع أكبر ديانتين شموليتين إحداهما شائخة و نعني بها الزردشتية التي كانت في سعي مستمر لتجديد نفسها من خلال حركة إحياء شاملة و الأخرى هي المسيحية التي كانت تشق لنفسها طريقاً صاعداً بإصرار نحو روما (14) .

وقد تلقت المانوية من الزردشتية أولى ضرباتها القاسية , في البلاط الساساني زمن الملك بهرام خليفة شابور بتدبير من كهنة الزردشتيين ” كرتير ” , حوكم و قضي عليه كما نوهت , و الضربة الثانية عندما اعتنق الامبراطور الروماني قسطنطين المسيحية و أعلنها دينا رسميا للدولة , و ما تبع ذلك من ملاحقة و اضطهاد للمانويين على يد كل من الديانتين المذكورتين , أما الضربة الثالثة فجاءت من الديانة الشمولية الجديدة الإسلام خاصة في فترة الخلافة العباسية في بغداد الذين استأصلوا المانوية من إيران و عموم الشرق (15).

لسنا هنا بصدد سرد التاريخ السياسي الإسلامي في بلاد الرافدين , فهذا معروف بشكل عام , لكن المهم بيان موقف الإسلام من هذه المعتقدات و الأديان و أتباعها في بلاد الرافدين , و على أية حال فقد كان الإسلام هو دين الفاتحين الذين ساووا عملياً بين الأمم والنحل ولم يمارس الفاتحون ‪‎‪أية عملية ضغط على أصحاب الأديان السماوية لاعتناق الدين الإسلامي ولم يسجل التاريخ ارهاباً ذي طابع منظم سوى ما ذكر عن عمر بن الخطاب الذي أمر بهدم معابد النار أو بيوت النار وإزالتها وملاحقة معتنقي الأفستا وإتلافها لأنها تخالف ما جاء في كلام الله وهي رواية تفتقر الى التواتر بل بالعكس وجدنا بعض الحكام المسلمين كانوا ينشطون عمداً هداية غير المسلمين لأسباب مالية بحتة لأن إشهار الإسلام يسقط الجزية عن المسلم.

كما وأنه مارس الضغط على أصحاب الأديان السماوية لاعتناق الدين الإسلامي .

وسجل التاريخ إرهاباً ذي طابع منظم , وهنا لا بد من ذكر عمر بن الخطاب ,الذي أمر بهدم المعابد وبيوت العبادة الخاصة و إزالتها واستباحة سبي نساء الكرد ,وملاحقة رقوق الافيستا و إتلافها لأنها تخالف ما جاء في كلام الله , وهي رواية تفتقر إلى التواتر , بل بالعكس وجدنا بعض حكام المسلمين كانوا يثبطون عمداً هداية غير المسلمين لأسباب مالية بحته , لأن إشهار الإسلام يسقط الجزية عن المسلم ( 16 ).

إلا أن الاسلام كان صارماً في قمع الحركات المناهضة ذات الأبعاد الدينية – السياسية كحركات بابك الخرمي والمقنع الخرساني الذي أدعى الربوبية عن طريق التناسخ مدعياً أن الله تحول إلى صورة آدم ثم نوح ثم الانبياء واحداً بعد الآخر وصولاً إلى أبي مسلم الخرساني , ومنه انتقلت إلى المقنع الخرساني والذي سمي بالمقنع لوضعه قناعاً من الذهب على وجهه ( 17 ) كما كان الإسلام صارماً في معاملة المرتد أو ( التقيه ) .

مثلما كانت الدولة الزردشتية صارمة في معاملة الزردشتي المتحول إلى الديانة المسيحية فالمعتصم الخليفة العباسي مثلاً لم يتردد في إنزال عقوبة الحد الشرعي بقائد جيوشه محمد الأفشين الأشروسي , عندما ثبت بالشهادة والإقرار , أن الافشين كان يحتفظ بالافستا في منزله وأن اتباعه كان ينادونه ( بالبغبغاء ) وهو ما يخاطب به ملوك الفرس وكان سليلهم ( 18 ).

قيل كثيراً أن الاسلام ساوى بين الجميع في المعاملة أيام الغزو الذي اعتبروه بالفتح في العصور الأولى التي تلته إلا أنه نظر إلى غير المسلمين من اليهود والنصارى والصابئة والأيزيديين والمجوس على اختلاف عقائدهم بأنهم مواطنون من الدرجة العاشرة من حيث الحقوق والواجبات ,  لقد فرض على هؤلاء شكلاً معيناً في حلاقة الرأس أي أن تجتز نواحيهم وأن يربطوا الزنار في وسطهم ليعرف زيهم من زي المسلمين ( 19 ) , حيث فرضت عليهم ضريبة الجزية , كما حرموا من الكثير من الامتيازات التي تتعلق بالإدارة والجيش عدا حالات نادرة لا يمكن ان تعمم , لقد أخذت من جميع الاديان غير السماوية ومن الزردشتيين أيضاً .

فقد ورد عن ابن سلام على لسان عمر بن الخطاب ( ما أدري ما أصنع بالمجوس , ليسوا أهل كتاب ( 20 )

فقال عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله يقول سنوا بهم أهل الكتاب ( 21 ) لا ندري درجة الدقة وصحة القول .

علماً أن الآية القرآنية تقول : إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة , إن الله على كل شيء شهيد ( 22 ) , بمعنى أن الزردشتيين أهل كتاب , ولا ندري لماذا كان الخليفة متردداً بشأنهم , وربما لأسباب سياسية تتعلق بتثبيت أركان الدولة الإسلامية , علماً أن الخليفة عمر نفسه لم يأخذ الجزية التي حاول فرضها على بني تغلب الذين كانوا على دين النصرانية , واتفق معهم على أن يدفعوا العشر مضاعفاً ( 23 ) كما منعت الصدقات على كل هؤلاء من اليهود والنصارى وغيرهم ( 24 ) وكان هذا نوعاً من التضييق الاجتماعي الذي دفع بكل هؤلاء إلى الانغلاق والانعزال والانكفاء على بعضهم البعض في أحياء ومدن يمارسون طقوسهم ومحافظين على دينهم , كما اعتبرت أراضيهم ومزارعهم والتي لم تفتح عنوة والتي بقيت في أيديهم , معرضة لدفع ضريبة الخراج وهذا حسب القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم , فعله أو سنه عمر في أرض الأعاجم التي تركها في أيديهم ( 25 ) على أية حال بقيت الكثير من المدن في بلاد الرافدين وبعض حواضرها على الديانات القديمة إثر صلحها مع الغزو العربي الإسلامي , ومع أمثال عياض بن غنم حسب البلاذري بقوله : ( فلما انصرف عياض بن غنم من خلاط وصار إلى الجزيرة بعث إلى شنكال ففتحها صلحاً واسكنها قوماً من العرب ( 26 ) مما يعني أن أهل شنكال بقوا محافظين على عقائدهم السابقة , والأمر ذاته مع القائد الإسلامي في الموصل ونواحيها عتبة بن فرقد السلمي سنة / 20 / هجرية الذي غزا نينوى عنوة وخاصة القسم الشرقي , أما الجزء الغربي بقي على دينه لأنه تصالح وقبل دفع الجزية كما سمح لمن لا يرضى بالرحيل أو الجلاء , كما سار إلى بقية المناطق الشمالية وصالح أهلها على الجزية مثل المرج وقراه و أرض باعذري مركز الامارة الايزيدية , وحبتون , و الحيانة وجميع معاقل الكرد حسب تعبير البلاذري ( 27 ) مما يعني أن خيار دفع الجزية دفع بأهالي بلاد الرافدين البقاء على عقائدهم القديمة من النصرانية أو اليهودية أو الزردشتية أو المثرائية أو حتى الأيزيدية التي هم من أقدم الأديان في ذلك الوقت , ولكن مع رسوخ الإسلام في معظم بلاد الرافدين في العصور التي تلت الفترة الراشدية .

و إثر التمتع بالامتيازات , خاصة بعد دخول السكان الإسلام , إضافة إلى أن الإسلام أصبح دين الدولة ومعاملة غير المسلمين معاملة مواطنين من الدرجة العاشرة , أصابت هذه الأديان والمعتقدات حالة من التراجع التي يمكن وصفها , الانتقال من حالة المد إلى حالة الجزر , بل استمرت حالة الجزر مع قوة وزخم الدين الجديد , ومبادئه وامتيازاته , فبقيت الأديان القديمة في حالة من الاستمرار في جزر منعزلة ومتناثرة في أحياء المدن أو في القرى البعيدة أو الجبلية محافظة على ما تبقى لها من دياناتها أو ذاتها في عموم شمال الرافدين كما هي الحالة عند النصارى أو اليهود أو المندائيين أو الأيزيديين معلنين أنهم غير بشريين من أجل البقاء وليعاملوا بشكل آخر في العصور التي تلت .

الهوامش والمصادر

1-   نغرين جيووايد – الأديان في الشرق ص 3

2-   الصابئة , عكلة الناشي طباعة بغداد 1983 ص 15

3-   غضبان الرومي الصابئة بين النهرين ص 25

4-   المرجع السابق نفسه ص 17

5-   نغرين جيووايد المرجع السابق ص 35

6-   الشهرستاني , مجلد الملل والنحل والجزء الأول للدكتور صلاح الدين الهواري طباعة بيروت 1998 ص 32

7-   نغرين جيووايد المرجع السابق ص 37

8-   المرجع السابق ص 115

9-   المرجع السابق ص 42

10-                      المرجع السابق ص 45

11-                      المرجع السابق نفسه ص 5

12-                      الهرطقة : يعني الخروج على التعاليم المتبعة في الدين المسيحي

13-                      كتاب دين الانسان للكاتب فراس سواح ص 13 صادر بدمشق عن دار علاء الدين

14-                      كتاب المصدر نفسه دين الانسان ص 15-16

15-                      المصدر نفسه دين الانسان ص 15

16-                      نفس المصدر ص 19

17-                      ابن خلقان وفيات الأعيان الجزء الثالث ص 23 طبعة بيروت 1998

18-                      نفس المصدر ص 28

19-                      الزنار خيط غليظ يشده غير المسلم فوق ثيابه

20-                      ابن سلام كتاب الأحوال الجزء الأول ص 75 طباعة مصر 1958

21-                      ابن سلام المرجع السابق الجزء اللأول ص 45

22-                      القرأن الكريم سورة الحج

23-                      ابن سلام نفس المصدر ص 39

24-                      نفس المصدر الجزء 2 ص 82

25-                      أبو يوسف كتاب الخراج ص 29 طباعة مصر المطبعة الأميرية

26-                      البلاذري – فتوح البلدان القسم الثاني حققه عبد الله أنيس الطباع ص 24 طباعة بيروت 1957

ليلان جمال

مشاركة

مشاركة

تعليقات