بحث حلقة في سلسلة عمليات السطو العلمي والفكري
في عام 1926م ألقى الدكتور طه حسين على طلابه بالجامعة المصرية سلسلة من المحاضرات حول الشك في الشعر الجاهلي ، قبل أن ينشرها في كتابه (في الشعرالجاهلي) ، الذي أحدث ضجة كبرى في الأوساط الأدبية والدينية والثقافية وقتذاك . حتى جاء تلميذه في الجامعة الأستاذ محمود محمد شاكر فكشف أن آراء طه حسين هذه في الحقيقة مأخوذة عن مقالة بعنوان(نشأة الشعر العربي) للمستشرق (مرجليوث) . واتهم طه حسين بالسطو عليها ؛ لأنه أذاع هذه الآراء منسوبة إليه . وفي عام 1936م نشر طه حسين كتابًا عن المتنبي وعاد محمود شاكر ليتهمه مجددًا بالسطو على دراسته التي أجراها على المتنبي وشعره عام 1935م أى قبل دراسة طه حسين بعام واحد . و تمثل السطو في : المنهج المستخدم في الدراسة ، و مسألة ترتيب قصائد المتنبي ترتيبًا نفسيًا وتاريخيًا ، بالإضافة إلى قضايا وموضوعات أخرى عرضها طه حسين متبعًا فيها دراسة شاكر . ثارت ثائرة محمود شاكر على سطو طه حسين ، فأخذ يستصرخ ويستنجد كاشفًا عن حقيقة هذا السطو من خلال نشره عددًا من المقالات الأسبوعية في جريدة (البلاغ) بعنوان ( بيني وبين طه) . وأُغلقت المسألتان إلا من تاريخ لا ينسى .
وفي الأربعينات من القرن العشرين نشر الدكتور محمد مندور عدة دراسات نقدية في مجلة (الثقافة) ، جمعها بعد ذلك في كتاب (نماذج بشرية) ؛ لينكشف الأمر – على يد الكثير من الأساتذة الجامعيين وغيرهم – أن هذا الكتاب سرقه مندور كله تقريبًا من كتاب (جان كالفيه) أستاذ النقد الفرنسي الذي كان يدرس في جامعة السربون في الوقت الذي كان فيه محمد مندور مبعوثًا إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه و عاد دون أن يحصل عليها . من هؤلاء الأساتذة ؛ الدكتور الطاهر مكي والدكتور عبد اللطيف عبد الحليم . ولقد تابعت جريدة الأهرام هذه المسألة من خلال فتح ملف السرقات الأدبية والفكرية ، واستهلته بمقال للدكتور عبد اللطيف عبد الحليم عنوانه : المازني وكامل حسين ومندور هل كانوا يعترفون بالحقوق المحفوظة للمؤلف؟ . وفي عام 1954م قام الدكتور محمد مندور بنشر مجموعة من المحاضرات في معهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية ، ثم انكشف بعد ذلك أن هذه المحاضرات ما هى إلا بحث للدكتورة نعمات أحمد فؤاد ، حصلت به على درجة الماجستير ، ونشرته في طبعته الأولى قبل كتاب الدكتور مندور . لكنها كشفت عن هذه السرقة في مقدمة الطبعة الثانية ، وما حدث من إغارة ومسخ – على حد قولها – لهذه الدراسة حيث كتبت مبدية ألمها ” أن يأتي هذا أساتذة لهم تاريخهم ولهم شهرتهم ، بل لعلهم استنادًا إلى هذا فعلوا ما فعلوا ظانين أنهم في مأمن من النقد أو ما يلحق فعلتهم من الشين والتجريح ” . ثم مضت تقص القصة على النحو التالي : ” لقد صدر كتابي في أول يناير سنة 1954م ، فإذا أستاذ معروف يستعيره مني قبل التجليد في رجاء متعجل . وفرحت يومئذٍ ، إذ السن غضة والأمل ناشيء ، أن يطلب إلىّ الشيوخ كتابي . وما قدّرتُ لسذاجتي أن وراء هذا الطلب كتيبًا عن المازني صدر سنة 1954م – بالطبع بعد يناير ، وإن أغفل ذكر الشهر للتعمية حتى يلتقي مع كتابي في سنة الصدور- في صورة محاضرات تأكيدًا للأستاذية ، فإذا بالكتيب تأييد غير شاكر أو ذاكر لما جاء في كتابي عن تاريخ المازني وحياته وبيئته وثقافته وأطوار أدبه ” . واختارت الدكتورة نعمات كلمة (تأييد) ولم تقل(اقتباس) على سبيل التأدب . (يراجع كتاب الدكتورإبراهيم عوض ( د.محمد مندور بين أوهام الادعاء العريضة وحقائق الواقع الصلبة ) . وتعليقًا على هذه القصص والحوادث أقول : إن مثل هذا النوع من السطو على الأعمال والأبحاث والآراء والأفكار يعتمد على عدة أمور ؛ أولًا ندرة المطلعين على المؤلفات والدراسات في لغات أخرى ، مما يسهل الأخذ عنها في أمان تام . ثانيًا قلة الإقبال على القراءة والاطلاع ومتابعة الدراسات العلمية ، مما يسهل اختلاط السارق بالمسروق ، فلا نعرف لأحدهما وجهًا خالصًا . ثالثًا وهو الأكثر أهمية وخطورة افتقاد الأدلة المادية للسرقة ، وبخاصة في الدراسات النظرية التي تعتمد على الأفكار والأراء التي يَسْهُل ادعاء نسبها وانتسابها إلى من يريد السطو عليها تحت مظلة توارد الخواطر وتشابه الأفكار ، فيختلط الحابل بالنابل ويضيع النسب . رابعًا أن هذا النوع من السطو سلسلة طويلة ممتدة ، سار في حذوها الكثير ممن يزهو بنفسه بآراء ودراسات آخرين أتته هينة لينة سهلة ولقمة سائغة . وأخرون يستصرخون ثمرة جهدهم وبنات أفكارهم المنهوبة ، وغصة تظل مرارتها في الحلق ، تستعصى على البلع أو الهضم . خامسًا أن هذا النوع من السطو المغطى لا يمكن اكتشافه بسهولة ، إلا إذا كان هناك من يعرف اللغة التي وردت فيها المادة العلمية الأصلية ، في حال كان النقل من الدراسات المكتوبة بلغات أخرى ؛ مثل حالة طه حسين مع مرجليوث ، وحالة محمد مندور مع جان كالفيه . أو أن يكتشف صاحب الدراسة الأصلية الأمر بنفسه مثل حالة محمود شاكر مع طه حسين ، ونعمات أحمد فؤاد مع محمد مندور. وفي الحالتين يأتي انكشاف الأمر مصادفةً .ولقد أدى هذا إلى اتساع رقعة السطو والأخذ عبر الزمن والأجيال . مما جعل مجال البحث في الدراسات النظرية في أغلبه عقيمًا ، ليس فيه جديد نتقدم به أو يُعترف به في حدود العالمية ،فبعضه مأخوذ عن البعض الآخر ، نصوص ودراسات متناسخة ومتشابهة .
لقد مررتُ بهذه التجربة القاسية ، وسرت سيرة المتألمين . وقصتي لا تختلف عن قصص السابقين ممن ذكرتهم إلا في شيء واحد سيكشف عن نفسه مع عرض القصة . تبدأ قصتي حين وقع في نفسي وجود ما يسمى (تيار الوعي) في النص القرآني الحكائي والقصصي منه خاصة. على الرغم من أنه تكنيك أدبي عُرف تحققه في الرواية الحديثة فقط . فجال في تصوري أن هذا التكنيك الحديث بما يختص به مضمونه من الاهتمام بالعالم الداخلي للشخصيات ، والاهتمام بالوعاء الذهني الذي تتداعى فيه أفكارها ، والكشف عن دخائلها ، وما تنطوي عليه من جوانب لا تجد لها منفذاً ظاهرياً ، أنه من الممكن القول بتحصيله أيضًا في النص القرآني . فقمت بالبحث إلكترونيًا عن أى دراسات سابقة في هذه النقطة فلم أعثر إلا على إشارة لدراسة جاءت في 18 صفحة منشورة بالعراق بعنوان ( تيار الوعي في القصة القرآنية سورة يوسف نموذجًا ) ، لكني لم أتمكن من الاطلاع على هذه الدراسة ؛ لأنها غير منشورة . فمضيت في بحثي وجاء بعنوان (تيار الوعي في القرآن تطبيقًا على الفئة الضالة )، وقمت بنشره في مجلة علمية محكمة 2022م. وبعد عدة أشهر أرسلت هذا البحث مع أبحاث أخرى لي ولغيري لصديقة ، على سبيل مساعدتها ، لأن أغلب شغلها في بلاغة القرآن ، وليس لديها – كما أخبرتني – دراية بمجالات البحث المطلوبة في تخصص النقد الأدبي ومستحدثاته . وكنت أتابعها وأشجعها في الأعمال البحثية رغبة في تيسير حصولها على الترقية العلمية إلى درجة أستاذ ، وبخاصة أنه لم يفصلها عن سن المعاش إلا أشهر قليلة ، فلا يمكنها التقدم إلى لجنة الترقيات بعدها . فأعجبها بحثي عن تيار الوعي ، وأخبرتني أنها وجدت فيه نقطة بحثية . ولِمَ لا ؟ وأنا قد فتحت المجال في خاتمة بحثي للباحثين بإمكانية استكمال دراستي من الناحية اللغوية والأسلوبية ، وهذه سُنة البحث والعلم ، أن يأخذ اللاحق عن السابق ، ويكمل على ما أنجزه . ثم أخبرتني الدكتورة منذ شهرين تقريبًا أنها قد استفادت كثيرًا من بحثي وأنها قد ذكرت هذا في بحثها ، وهذا طبيعي ، أن يأخذ من يشاء ممن يشاء شريطة الالتزام بالأمانة العلمية بنسبة الآراء المستفاد منها لصاحبها في هامش البحث كما هو متبع في قواعد كتابة البحث العلمي . فدفعني الفضول إلى الاطلاع على بحثها لأرى كيف وظفت بحثي لديها ؟ فقمت بتنزيل بحثها من الإنترنت وهو بعنوان( من جماليات المفردة القرآنية – قراءة لتيار الوعي في القرآن الكريم ،المجرمون نموذجًا) ، واكتشفت أنها لم تذكرني أو تذكر بحثي بحرف واحد . لقد قامت الدكتورة بنقل أفكاري وآرائي ، واستفادت من تحليلي الشواهد القرآنية ، وإجراءت تطبيق وسائل تيار الوعي في القرآن الكريم . ولم تشر ولو مرة واحدة إلى بحثي في المواضع الكثيرة المأخوذة عني ، أو التي استفادت منها . لقد اعتمدت الدكتورة – أيضًا – في تطبيقاتها على شريحة المجرمين ، وهم نموذج يندرج في الفئة الضالة التي قمت باختيارها شريحة في بحثي . وفي ذلك تقول الدكتورة : (وقد توقف البحث لدى شريحة خاصة لها سماتها الداخلية بالغة التعقيد ، وقام بإفراغ مخزونها الانفعالي ، وإبراز الجوانب الخفية والمظلمة من حياتها الباطنية ، وما يختلج فيها من مشاعر وأفكار ، ورصد وعاءها الذهني الذي يتشكل بفرادة ضمن جملة الفئات الضالة ) . ثم مضت الدكتورة في بحثها تثبت وجود تيار الوعي في القرآن تطبيقًا على فئة المجرمين ، متجاهلة بحثي وثمرة جهدي ، وكأنها هى صاحبة الفكرة والمضمون ، وغير مسبوقة فيه ؛ لذلك عمدت إلى تغييب بحثي وإخفائه عن قائمة المراجع لديها ، على الرغم من أن بحثي هو المرجع الأساسي لبحثها ، فضلًا عن أنه لا يوجد غيره .ومن الملاحظ في بحث الدكتورة أنها نقلت أفكاري وآرائي بحذافيرها بتصرف وبأسلوبها لا نقلًا حرفيًا . من هذه الآراء والإجراءت الكثيرة التي نقلتها الدكتورة على سبيل المثال لضيق المقام :
-
جاء في بحثها أن (المجرمين في السياق القرآني إما أشخاص بذواتهم كفرعون وقارون هم بمثابة رموز فردية يقدمها النص القرآني ، وإما نماذج من أقوام وجماعات مثل… ) يقابل هذا عندي : (إن القرآن الكريم لم يتناول شخوصًا مفردة فحسب ، لكنه حكى أيضًا عن فئات بشكل جمعي ، حين تربط الفئة الواحدة مجموعة من الصفات مثل…) .