نوسوسيال

بقلم القاص خليل اوصمان : ♦️ السعادة  ♦️

329

 

 

 

 

 

 

 

  ‎كانَ المتسولُ يسيرُ وحيداً بينما روائح بقايا الشعير المحصود تختلطُ مع عبق الأرض البكر ليفوحَ

شذاها على الأرجاء، وأشعة الشمسُ بقرصها المتوهج في السماء اللامتناهية جعلته يتصبب العرق

بغزارةٍ على جبينه وتحت إبطيه، أما الأرض فبدت وكأنها تنبض أسفل قدميه المثقلتين وهو يمضي قاصداً قرية عمر آغا. لم تكن للخضرة أثرٌ على تلك السهول الفسيحة سوى “القندريس” الممتد على جانبي الطريق، وكأنها تحرس المكان بزهورها البنفسجية المنتصبة على دروعها الشوكية وهي تبدو كحورياتٍ ساحرة تهلل لعابر السبيل، وتجعله يمضي دون أن يتوه في ذلك الدرب الترابي المتعرج ليصل القرية بأمان. 

كانت عينا المتسول أوسب ترمقان الأفق وقت المغيب بشيء من الشرود، فتراءت له بعد حين تلةَ القرية وكأنها تحمي بيوتها المتناثرة، والتي بدت كقببٍ مبنيةٍ على قبور الموتى في مدافنَ قديمة. أما منزل آغا القرية عمر فكان منتصباً على أرضٍ عاريةٍ في أسفل التلة، معلناً بهيئته تميزه عن باقي البيوت. 

حين بلوغ أوسب تخوم القرية لاحت له وجوه بعض القرويين ممن صادفهم واجمةً تتعثر كلماتهم مع صفير الرياح الغربية المفاجأة التي كانت تهب بين الحين والآخر، فسأل قلبه الهرم فجأة:

 

  • هل تقادم بي العمر لأستحيل إلى كنهٍ باهتٍ لهذه الدرجة؟

كان لا يزال يغزوه منذ دقائق خلت طيف من السعادة، ولم تكن هذه الأفكار البائسة قد طغت بعد على سطح وعيه المتلبد وضميره الغافي. 

وصل أوسب مع هبوط الظلام قصر الآغا، ومع خروج المستضيف من داره مرحباً بقدوم ضيفه، خفت نبضات قلب أوسب على حين غرة. وبقيت عيناه معلقتان في وجه الآغا المهلل، وكيف لا وهو من علية القوم، وهو الذي اعتاد على تكريم الغرباء بلا حدود. وبعد أن ألقى الضيف التحية بحرارة، قاده الآغا إلى باحة الدار بينما عبارات التهليل لا تزال تتردد وتتناغم مع خطاه. راح أوسب يجول بعينيه متأملاً ارجاء المكان، ليتجمد بصره على جسيم محنطٍ مصلوبٍ على جدار غرفة المضافة لرأس ذئبٍ فاتِحاً فمه ومكشراً عن أنيابه. 

داهم أوسب شعورٌ غامر بالإعتزاز بعد الحفاوة من هذا الرجل الوقور، والذي بدا كمن يترقب بلهفةٍ قدوم صديقٍ افتقده منذ زمن.

حينها ظن الضيف بأن بقية أهل الدار خارج تلك الجدران الحجرية، بينما همهماتُ كلماتهم الغامضة تتسرب إلى المضافة دون اعتبار، فهو ضيفٌ من العوام يأتي في مثل هذه الأيام من كل عام، لينال نصيبه من المكرمة ويغادر في حال سبيله، لم يكن يعلم بأنهن بعض النسوة ممن اعتدن التجمع حول “خاتون” زوجة الآغا، ليرتشفن الشاي وهن يثرثرن دون ملل.

كان أوسب المسن متعباً،  بينما تتراقص الصور المحمومة في رأسه، وامعائه تتلوى من الجوع في جوفه كأفعى تبحث عن فريستها.

بعد تناوله القهوة المُرّة طغى صوتٌ حاد على ذلك المشهد قائلاً:

  • سنتناول العشاء بعد قليل أيها الرجل الطيب.  كلماته جعل وجه أوسب يُشرق كتمثالٍ قديم.

أحضرت الخادمة ما تيسر من الطعام، انفرجت شفتا الضيف على أثرها، ثم عادتا إلى اطباقهما وكأنه يفكر بماذا يجيب حينما لمح وجه الآغا الذي كان يراقب بنشوة، كيف يلتهم الضيف طعامه بشهيةٍ مدهشة، بينما هو يفتقد تلك القابلية وذلك الحماس للطعام.

ثم بدأت الحيرة تفرد جناحيها في غرفة الصمت مجدداً، وبدا الضيف بوجهه النحيف ونظراته العميقة وكأنه لم يلمح شيئاً.

هبط الليل على الجميع ومعه توافد القرويون إلى المضافة، وتناغمت الأصوات وأخذ المسنون يبدعون في سرد الذكريات وهم يرتشفون القهوة، والتبغ الملفوف بحرفية يحجز مكاناً لا يستبدله شيء بين الأصابع وبين الشفاه.

مضى الوقت سريعاً دون أن يشعر به المتسول رغم ما يعانيه من إرهاق.

في الخارج بدأت ريحٌ باردةٌ تهب ومعها تجف ألسن القرويين الخشنة، وشفاههم المتيبسة تصمت، ويغلبهم النعاس ليغادروا كلٌ الى منزله ..

بعد خلو المضافة من القرويين، بدا عمر آغا وكأنه يعاني من صراعٍ داخلي وعليه أن يُخَدّر جرح الأبوة في كبده المطعون، واسترسل في الحديث مع ضيفه، كان رأسه يضج بأصواتٍ غائرة مختلطةٍ بذكريات من العسير استيقاظها، ولكن شيئاً ما يجعله يُخرج كل ما بجوفه من معاناة، وبصوتٍ امتزج بحزنٍ مخفي شرع يسرد حكايته مع الحياة، وهو الذي لم يُخَلّف ولداً ولم يتذوق معاني الأبوة، بينما من اختارها لتشاركه الحياة كانت نكداً وعقماً خلال سنوات عمره التي مضت، ومع بلوغه خريف العمر لم يعد يملك روحاً ليحيا به من جديد، ثم تنهد وبدا صوته يضمحل شيئاً فشيئاً ليختفي في لحظات، ولا يبقى إلا انفاس الضيف، وصوت عقارب الثواني بساعة الجدار، ولكنه بدأ يشعر بعد أن أنهى شكواهُ للغريب بدفءٍ يلامس ضلوعه المثلجةِ بصقيع الليالي الحالكة التي عاشها.

هنا تفجرت في جسد الضيف الهزيل طاقةً جعلته يقول:

 

  • انا حقاً طاعنٌ في السن، ولكن لا تزال بي من قوة لتقديم يد العون لك، فأنت تستحق كل خير، وكان يلمح في أن يكون رسولاً بينه وبين إمرأة يختارها.

  •   قاطعه الآغا قائلاً:

  • إنني أغوص في شكايتي لا استمع حينذاك إلا إلى نفسي .. ولكنني ممتن لك .

كانت عينا المتسول كقارب نجاة له، أحس نحوه بامتنان وهو يسترسل بالفضاء بما في قلبه، بينما كان الضيف يشبك راحتيه على ركبة ساقه اليمنى التي اسندت على اليسرى، وهو يراقب حركة مستضيفه بعينين يخبأ فيهما ظلٌ من الألم والشكوى المدفونة وهو في صمته المهيب، ورغم ذلك فقد ارتسمت ابتسامةُ وداعةٍ مطمئنة على شفتيه!.

أكمل الاغا قائلاً: 

  • نحن الأحياء موتى مؤجلون نحكم على أنفسنا بلعنة تفقدنا الذاكرة، لنتمكن من الاستمرار بالحياة، إنها تهيؤاتٌ بلهاء تلف شرايين رأسي فتنفك تارةً ثم تعود إلى تشابكها مرة أخرى، ولكنني أحاول الالتفاف على العقل محاولاً إقناع روحي، ورغم أنني أبحرت في مئات الكتب وأنا المتيم بها، إلا أنني سلطت على نفسي هذا الشكل الساذج من القناعات التي أبحث بها لنفسي كي أركن في زاوية معتمة مثل لصٍ هارب. ثم صمت وكأن به لا يريد من ضيفه إلا الصمت.

وبعد لحظات من الوجوم مضى مسترسلاً:

  • ربما هو ذلك الهاجس الأزلي لدى البشر، وربما نحن الذين نبحث عن الخلود باستمرار الذرية، والتي تؤكد حاجةً في اعماقنا لنتغلب على عبثية الحياة.ثم أكمل بصوت أكثر دفئاً:

  • فالسعادة يا صاحبي تشبه الفراشة التي تكون دائماً بعيدة عن متناولك عندما تلاحقها، ولكن لو جلست بهدوء، فقد تهبط عليك دون استئذان.

إلا أن الضيف لم يفقه الجمل الأخيرة لمحدثه، عندها اطبق جفنيه تحت وطأة النعاس.

لم تمضي دقائق معدودة، كان الضيف يمضي غارقاً في سباته العميق.

تناولا طعام الفطور في الصباح اليوم 

التالي، اقترب الآغا من ضيفه و بدأ يهمس إليه وكأنه نام على بقايا هواجسه ويرغب في بوحها، فقال بثقةٍ لا تخلو من التعجب:

  • أنت غارقٌ في متع الدنيا يا صاحبي، تتناول طعامك بشهية وتخلد للنوم بملئ جفونك بلحظات، فأين أنا من ذلك، ليتني كنت كذلك.

غادره اوسب بعد أن وضع في جعبته نصيبه من عطايا الآغا، بينما بعض السحب كانت تخفي وجه الشمس، وأخذت الحيوية تسري في أوصاله كعادته كل صباح، إلا أن ملامح الآغا كانت لا تغادره، وتذكره بطول الطريق ووحشته، والهدوء الشامل لا يُنغصه إلا صوت ملامسة أقدامه البطيئة الكسلى بالأرض في ذلك الطريق الوعر، وهو يردد مع روحه:

  • يبدو أنني أكثر سعادةً وبهجةً من صديقي الآغا دون أن أعلم..               

إلى أن لاحت له قرية جديدة، ولكنها هي الأخرى بدت له وكأنها أوكاراً مهجورةً لم يطأها قدم إنسانٍ منذ الأزل، رغم الصخب والضجيج حولها