نوسوسيال

كتبت الدكتورة ثناء قاسم : نقد النقد في مسلسل وبينا ميعاد

662

                                                        / القاهرة : ثناء قاسم /

                                  ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

 

 

 

حين يتخطى النقد مرحلة الحكم المطلق غير المعلل إلى التوغل داخل نسيج العمل للكشف عن أسراره ومقومات بنائه ، وإضاءة جنباته بمعايير تخضع للعلم والدراسة ، يكون بذلك نقدًا مساهمًا في إثراء الجوانب الثقافية والفكرية والوجدانية في المجتمع ؛ لأنه يتشعب ويتسع و يستوعب كل خطوط العمل أيًا كانت طبيعة هذا العمل . ومن ثم فالناقد يقوم بإعادة تصدير العمل – بعد استيفاء مهمته في التحليل– إلى مبدع العمل والجمهور فيصيب منهم أثرًا وإثمارًا . والنقد الذي يجري على العمل الأدبي لا يختلف في آلياته وسماته وأهدافه عن النقد الذي يجري على العمل الفني كثيرًا ، فطبيعة النقد واحدة لا اختلاف فيها إلا بقدر الفروق التي تميز فنًا عن آخر. فضلًا عن الصلة الوثيقة بينهما حيث يجمعهما نطاق الإبداع . ومن أساسيات النقد لأى عمل إبداعي : 1- تأمله واستيعاب تفاصيله . 2- استشفاف فكرته ، أو رسالته . 3- امتلاك الناقد القدرة على اكتشاف النقاط الثرية . 4- الابتعاد عن الأحكام العامة وغير المعللة . 5- التركيز فيما يخدم اتساع رؤية العمل لدى المتلقي . 6- الأخذ في الاعتبار إفادة مبدع العمل والجمهور من هذا النقد .

شاهدت – مؤخرًا – مسلسلًا تلفزيونيًا أرى أنه يمثل الطفرة التي تظهر من وقت إلى آخر بين الأعمال الدرامية . هذا المسلسل هو ( وبينا ميعاد ) . واستمعت – أيضًا –إلى آراء بعض نقاد الفن في هذا المسلسل من خلال أحد البرامج التلفزيونية . فوقع في ظني أن هذه الآراء بعدت تمامًا عن جوهر العمل وقيمته الفنية ، وأنها – في الوقت نفسه – انتحت مكانًا بعيدًا عن الدور المنوط بالعمل النقدي . وبناءً على ذلك فإن الغرض من هذه المقالة ليس تقديم رؤية نقدية للمسلسل بقدر ما هى نقد للنقد الفني الذي استمعت إليه . لست متخصصة مثلهم في النقد الفني ، لكن أرى أن الاشتغال بالنقد الأدبي يسمح بتذوق أى نوع من الفن والإبداع مادام يلتزم المنهجية في التناول . ويمكن رصد وتفنيد آراء النقاد وفق ما وردت في البرنامج على النحو الآتي :

أولًا وصف العمل : وردت أحكام عامة مجملة غير منصفة للمسلسل ؛ مثل ( مسلسل لايت كوميدي ) ، و( لطيف ووجبة خفيفة) ، و (حوار طِعم والسيناريو حلو ، وتحولات الشخصية حلوة ، والبُنى الدرامي حلو) . صحيح أن المسلسل فيه كل هذا ، لكن ليس من الصواب اختزاله في هذه الشذرات. إن المسلسل عاطفي رومانسي فلسفي بالرتبة الأولى ، واجتماعي بالثانية .ومن ثم يصح أن يكون هذا تصنيفًا أكثر تحديدًا للمسلسل  وجلاء لاتجاهه .  

ثانيًا تناول الشخصيات : تناول النقاد شخصيات المسلسل من جهتين ؛ الأولى الشخصيات المتحركة داخل العمل ، والحكم على مدى توفيق الكاتب في نسجها وتكوينها بما يتسق مع فكرة العمل . والثانية شخصية الممثلين الحقيقية والحكم على درجة أدائهم الدور المكتوب . وأبرز خلاصة هذا هو الخلط الشديد بين الشخصية الحقيقية للممثل والشخصية المرسومة في النص ، و إطلاق آراء ليست مستندة إلى مشاهدة دقيقة فاحصة للمسلسل . منها الحكم على أداء (صبري فواز) بطل العمل ، على وجه الإجمال بأنه ( أدى دوره كويس – مشخصاتي) ، وأظن أن الناقد الفني صاحب هذا الرأى كان يقصد بوصف مشخصاتي المدح ، لكن هذه الكلمة في استعمالها الحديث تطلق للذم ، وفي أحسن الفروض تطلق لتصف مهنة التمثيل بشكلها الظاهري فحسب . ومن عجب أن نجد اعتراضًا ونقدًا من أحد النقاد على إظهار البطل يعيش في قصر لا يتناسب مع حالته الاقتصادية المتواضعة ، فهو ليس لديه ما يأكل به أولاده ، فكان لزامًا عليه بيع هذا القصر ويشتري فيلا صغيرة ، ليوفر لأولاده عيشة كريمة . هذا نص رؤيتهم  ، وهذا كلام يدل على عدم متابعة المسلسل جيدًا ؛ لأن البطل لم يكن يعيش في قصر ، لكن في بيت كبير كان ملكًا لأبيه وهو قد تزوج فيه واحتفظ به – كذلك – لأولاده . وقد أثيرت هذه المسألة في المسلسل بشكل كشف عن علة هذه المفارقة بين وجاهة البيت والحالة الاقتصادية . كما ورد انتقاد لأداء شيرين رضا في أحد المشاهد ، في حين أنها كانت تؤدي الدور كما رُسم لها ، بالإضافة إلى أن هذا اللوم لا وجه لصحته . فقد قال أحدهم مقارنًا بين صبري فواز وشيرين رضا في ذلك المشهد الذي يصارح فيه كل منهما أولاده بالرغبة في الزواج : إن صبري فواز كان هادئًا وهو يعرض أمر زواجه على أولاده ، وفي المقابل تظهر شيرين رضا وهى تؤدي المشهد نفسه بعصبية . ويبدو أن مقدم البرنامج كان أكثر فهمًا للمسلسل حين رد هذا الكلام بأن هذا الأداء راجع لطبيعة كل منهما في المسلسل ، لترد الناقدة الفنية قائلة : هو أنت لما تبقى عصبي تفضل الـ30 حلقة عصبي ، ولا بيجي وقت تكون عصبي وشوية هادئ ! في الحقيقة هذا كلام عجيب لسببين ؛ الأول أن الحاكم هنا هو طبيعة الدور وليس حرية أداء من الممثلة . والحالة المزاجية المضطربة لشخصية البطلة جزء بارز في مقومات الشخصية. والسبب الثاني هو أن البطلة فعلًا قد تحولت بفعل الحب إلى شخصية هادئة ، وتم الإفصاح عن هذا التحول بوضوح لارتباطه الوثيق بمضمون فكرة العمل.

وقال ناقد آخر عن بطلة العمل أيضًا (شيرين رضا) : إن تربيتها محافظة . ومن متابعة المسلسل نعرف أن البطلة ليست محافظة بعوامل التربية والنشأة ، لكن بسبب الظروف التي وضعت فيها ، وضغوط الحياة ، وافتقادها الحب والأمان بسبب الأب والزوج ؛ الأب الذي كان يعاملها وأمها ببرود وقسوة لأنه كان يحب أخرى قبل زواجه من أمها ، وأنه بعد وفاة الأم بأشهر قليلة تزوج من حبيبته . وبسبب الزوج – أيضًا – الذي تركها بمنتهى الاستهانة واللامبالاة وسافر وأرسل لها ورقة الطلاق رغم حبها الشديد له ، وترك لها مسؤولية أربعة من البنات . فضربت على قلبها وحياتها عزلة طبعتها بالجمود والتحجر والعصبية خشية أن يعرف أحد أنها مطلقة فتصير وبناتها مطمعًا .

أما عن رأى النقاد في الشخصيات التي أدت أدوار أولاد البطل وبنات البطلة فليس فيه ما يمكن أن نصل منه إلى شيء يمكن أن نحدد منه الحكم الواضح على الأداء ، إلا في القليل جدًا منها ، ومع ذلك أرى أنه حكمهم في ذلك جاء غير دقيق ؛ مثلًا رأيهم في أداء وموهبة (يوسف الكدواني) الذي جسد شخصية ( على ) الابن الأكبر للبطل ، حيث قالوا : إنه لم يستحق ضمان الاعتماد بعد، إشارة إلى أنه جيد ، لكن لم يثبت جدارة في التمثيل تمنحه جواز المرور. وفي رأيي أنه كان أميزهم، وأنه بهذا الأداء بدأ مشواره الفني بداية قوية جدًا. وبخاصة عند تحرك مشاعره للمرة الأولى في حياته ، وأسلوبه في التعبير عن هذه المشاعر البكر الجميلة . فكثيرًا ما كانت تعلو وجهي ابتسامة وأنا أتابع أداءه خفيف الظل والروح وهو يعبر عن هذه المشاعر . أما (داليا شوقي ) فقد  أذهلتني في مشهد جمعها مع أحد أبناء الرجل الذي تزوج بأمها ، وكان يستفزها إلى درجة أحدثت لها إغماء . كانت بارعة في الصوت المتقطع المضطرب ،وحركة الوجه والجسم المرتعش ، وكأنها تمثل من عشرات السنين .ولم يتناول أحد من النقاد هذا الأداء البارع لشخصيات الأولاد .

وجاء رأيهم في الطفلة (كنزي رماح) الأبنة الصغرى ، خلطًا بين الحقيقة والتمثيل ، فقال أحدهم : إن الطفلة تلقائية ، وفي لقطات بكت فيها. فهل التلقائية والبكاء في المشهد من سمات شخصية الطفلة الحقيقية أم الشخصية كما رسمها الكاتب ؟!

ثالثًا الفكرة والرسالة : حين ينتقد أحد النقاد المسلسل بأنه غير واقعي ، إذ ليس من المعقول – لديه – أن من كان أبًا لأربعة من الأولاد يستطيع أن يعيش قصة حب ثم يتزوج ممن يحب ، معللًا ذلك من واقعنا بأن من لديه ولد واحد يحارب لتعليمه وتربيته !!! فإنه بذلك ينسف مضمون المسلسل ، ويقضي على فكرته ورسالته بدلًا من أن يحقق الدور المنوط بعملية النقد ، فيساعد على تقديم رسالة الكاتب والمخرج إلى الجمهور بشكل علمي مستند إلى الحيثيات والأدوات الفنية التي أسهمت في خدمة فكرة العمل . وهنا يجب توضيح أمرين مرتبطين بالعمل الفني والنقدي معًا ؛ أحدهما عن الحكم على العمل بأنه واقعي أو غير واقعي ، وكأن العمل الفني أو الإبداعي مطالب بنقل الواقع نقلًا حرفيًا ، وهذا مجزوم بعدم صحته . مع الأخذ في الاعتبار أن من لديه أولاد يمكنه في الحقيقة أن يحب ويتزوج ، فهذا أمر ليس خياليًا ، أو مستحيل الحدوث في الواقع . إن هذا المسلسل مثل أى عمل فني وإبداعي آخر ينقل صورة للحياة ليس بما هو كائن ، لكن بما هو كائن في ذهن ووجدان وخيال الكاتب . فيحرك وجدان الناس نحو هذه الصورة التي ركبها وبث فيها الحياة . أما الأمر الآخر فعن تغاضي النقاد في حديثهم عن المسلسل عن تناول فكرة العمل ومغزاه . وفي رأيي أن هذا هو أهم ما يميز المسلسل ، فإذا أراد أحد أن يتناول هذا العمل بالنقد ، فإنه يجب أن ينشغل بهذا في المقام الأول . إن المسلسل يحمل فكرة فلسفية مضمونها الحب ، وكيف نعيش الحياة ونتعامل مع واقعنا الصارم المحبط بالحب والرومانسية والتغلب على ما يقع في وهمنا أننا لا نستطيع العيش بسلام وأمان ، إننا من يخلق واقعنا المحيط بأيدينا ، فلننظر ماذا نريد .

إن المسلسل يقدم وجبة مشبعة بالجمال ، جمال النفس والروح ، جمال الناس والمخلوقات ، جمال الطبيعة البشرية، جمال الواقع . تلك هى رسالة الكاتب ( هاني كمال ) الذي حملها إلى الناس من خلال قالب اجتماعي . ولكي يضمن سلامة وصولها كما هى في وجدانه وعقله قام بإخراج المسلسل ؛ ليذكرنا بأجيال العمالقة من الموهوبين ممن كان يجمع بين التأليف والإخراج للسبب نفسه ، مثل أنور وجدي وغيره . وربما يكون هذا المسلسل ليس جديدًا في مضمونه ، لكنه في الحقيقة اكتسب تفرده من الشكل والتفاصيل . فنجد تكثيفًا لملامح الحب والرومانسية والجمال ، تتمثل في : 1- شخصية (جميلة) التي قامت بها ( نادية رشاد) باقتدار شديد ليس مستغربًا على واحدة تنتمي إلى جيل الرواد في الدراما التلفزيونية . فقد مثلت أيقونة الحب والرومانسية في المسلسل ، استمرت من أولى الحلقات إلى آخرها ، وكأنما قد اختارها الكاتب لتطبع المسلسل بأكمله بطابع الحب ، ولا يجب إغفال اسمها – جميلة – تأكيدًا على رؤية الكاتب .

2- والد (البطلة نادية) ، و كانت طوال عمرها تعاني من جموده العاطفي ، لنكتشف مع نهاية المسلسل أنه قسيم أيقونة الحب في المسلسل ، وأنه هو نفسه بطل قصة الحب الكبرى مع ( جميلة) ، فتعيد (نادية) التفكير في حكمها على الأمور وعلى الناس وعلى نفسها ، فتنفتح على الحياة كزهرة نادية .

3-اختيار (مدحت صالح) في دور بطولة ، تمثيلًا دون غناء ، وهو مطرب الشباب والحب في جيله .وكان الغناء استثناءً حين دندن بأغنية لعبد الحليم حافظ لها طابعها الرومانسي المعروف( أنا لك على طول ) .

4- تصوير حلقة كاملة في مدينة الأسكندرية ،العروس والغادة الحسناء وسط محافظات مصر . مدينة السحر والجمال ، والأجواء المفتوحة ، الانطلاق والهدوء والصفاء . لقد  خصص الكاتب الحلقة الثالثة عشرة لمدينة الأسكندرية وحدها، فكانت الأسكندرية هى بطلة الحلقة ، وهذا سلوك غير مسبوق في الدراما . لكنها كانت مسرح الأحداث الذي عمق الارتباط العاطفي بين بطلي المسلسل ، وأسهم استخدام مدينة الأسكندرية – كذلك بوصفه وسيلة فنية – في بلورة فكرة المسلسل نفسه . وقد تصدرت الحلقة إهداء جاء فيه : إهداء إلى مدينة لا تتكرر مهما تشابهت المدن “الأسكندرية” قصص الحب وحكايات الدراويش .

 

 

ثناء قاسم أستاذ النقد الأدبي الحديث كلية دار العلوم – جامعة الفيوم