نوسوسيال

بقلم عبد الله رحيل : مالك بن الرَّيْب مرثيةُ النَّفسِ في البِيدِ

1٬017

 

 

 

رياح هوجاء مغبرة عاتية، تصفُر في عمق صحراء نجد المديدة، وكثبان رمال تُعفَّى فيها الآثار بمناسم الهبوب، وارتحال الوحش فوق جريدة النخل القديمة، فتتراءى بين المسافات التليدة، وبين الليالي الحالكات الموحشة الصامتة، تبدأ من أعالي البصرة شمال الجزيرة، ثم تتوغّل جنوبا نحو القصيم والإحساء، حتى تُقبِّل مشارف

اليمن السعيدة، تتوالى فيها ساعات الهجيرة القائظة على أحجارها الصلدة المتينة، فكُسرت أوجهها، وفُتّت، حتى صارت كأفئدة البشر الباحثة عن تآلف من جديد، بينما الليالي مقمرات، والنسيم العليل في هبوبه

 

المؤنس ليل الخريف والربيع، في حمى نجد، وبين أودية البصرة، شعر بعض من الكرماء إهمال الزمن والإنسان لهم، فتقوقعوا داخل متون الفقر والحاجة والفاقة، فتعفَّنت الكلمات في أفواههم، وارتموا صرعى تحت مطرقة النقد المجتمعي اللّاذع، حتى جُنُّبوا الحياة، فامتهنوا مهنا خارجة عن النص الأخلاقي والمعرفي، الذي اعتزَّ، وتحلَّى به الإنسان، فهام البعض طالبا الجبال والأودية والشعاب؛ مغيرا على مؤن الطبقة الغنية والمترفة من

المجتمع، سالبا وناهبا للبعض الآخر، في تذمّر الواقع المُعاش، الذي خلفته الهوّة السحيقة بين الإدارة الحاكمة وعامة أفراد الشعب، وهم بنجد بعيدون عمّا يحصل في زمن بني أمية، الذين لم يكونوا عادلين في تقسيم الثروات المختلفة، فخرج مالك بن الريب عن نمط الحياة المجتمعية، ممتشقًا سيفه وترسه، فهو الشجاع، الذي لا يشقُّ له غبار في معركة، وهو نبيل يصعب عليه رؤية بعض أفراد قومه في فاقة وفقر، وعوز وقمع، بينما الثروات المترفة والبذخ والرخاء تُوهب إلى أحضان أمراء وملوك بني أمية، فانضمّ إلى حركة الذؤبان، ليس طمعا

في سلب ونهب وقطع طريق، إنما كان ثورة على القمع وانتزاع الحقوق بالقوة والسيف، من الطغاة واتباعهم، هو مالك بن الريب، بن حوط بن قرط بن حسل، بن عاتك بن خالد بن ربيعة المازني التميمي، عكف مالك إلى قطع الركب، وسلب الطبقة المترفة، حتى جعله الأمر بين معنيين لا يغادرهما، وهما مطلب اللا تكامل الاجتماعي، والمطلب الفكري والتصدُّع، والتفكُّك الناتج عن التغيرات القبلية، وموالاتها لسطوة بني أمية، فهذان المطلبان لا يجتمعان عند شخص واحد، هذا ما جعل مالكا متمرّدا على طبيعة الواقع، فهو شجاع وقويٌّ،

وجريءٌ، ومما يذكر في أخباره، أنه قتل قاطع طريق بخراسان، ظل ينهب الركب المسافرين عشرين سنة وحده، قتله مالك وحده، ولجرأته ظل يهجو بني أمية، ويثور عليهم، حتى ناصب والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي العداء، فقد ندّد بالسياسة الأموية الظالمة في نظره:
أحقُّ على السلطان أمّا الذي له
فـيـُعـطـي وإمـّا مـا يـراه فيمنع
ومـا أنـا كـالـعـيـر المقيم لأهله
على القيد في بحبوحة الضيم يرتع


 الحصان العربي الأصيل شموخ وعزة  في جماله وأصالته

 

لكن مالكاً، وإن اتصف بتلك الصفات الرافضة للواقع، والمتمرّد عليه، وعلى نظام سياسة السلطة، فكان مثالا للكلمة الصادقة النبيلة، ومثالا للرجل الحكيم، الذي يؤثّر فيه الحرف، ويقنعه الموقف، فهجر الصحراء والناس، إلى وادٍ، ممتد بين الصحراء وبين الجبال في ربى القصيم، وسهول الإحساء، يمارس القنص للمستحقين من الناس في طريق الحجيج إلى مكة، متّخذا من خيمة البؤس، والعناء منزلا له، برفقة زوجته، وابنته الوحيدة، التي ابتعد بها، عما يُحاك له من وعود بالقتل، والتشريد؛ حتى بلغت شهرته ملوك بني أمية، وذاع صيته في

الآفاق، ولما عجز آل مروان من القضاء عليه، وبالإطاحة به، عمدوا إلى الحل الدبلوماسي في أخذ هذا المتمرّد إلى صفّهم، والخلاص من تمرّده السياسي، فعمدوا إلى سعيد بن عثمان والي خراسان في عهد معاوية بن أبي سفيان، الذي يتّسم بالحنكة، وبالقوة، وبحسن الاقناع ، فقصده في الشعاب، وحين بلغه طلب منه أن يعود عن هذا الأمر، وعندما التقاه كُبُر في عينيه، لما فيهما من عزّة وأنفة، وعظّم ما في قلبه من حبّ، ووئام لبني قومه، ولرفاق ليله فقد كان مالك مليح الوجه، وحسن الثياب، فسأله سعيد بن عثمان متعجباً: «ما

 

 

يدعوك إلى ما بلغني من العبث والفساد، وفيك هذه الصفات الجميلة، الشجاعة والنجدة»؟، فردّ عليه ابن الريب قائلاً: «يدعوني إلى ذلك العجز عن الوصول إلى المعالي، ومساواة ذوي المروءات».
فعكف سعيد إلى استمالته، فتكلم معه بلغة الشرفاء والحكماء، إلى جانب الأعطية المجزاة من ولاة الأمر، بأن يترك هذا الأمر، أمر الصعلكة، ويُعطى أعطية شهرية، وبعد لأي وافق مالك، وترك السلب والإغارة، التي أخذت منه مآخذ العزّة والكبرياء، وصمت الصحارى ليلا، وصوت سمار كانوا بالأمس وسط الرمال يغيرون، وينهبون، وفي بعض الأحيان يُقتلون لشيء زائل في الدنيا، فأخذ يفكر في الأمر، وأن يترك هذا العهد القديم، ويتخلّق بخلائق الكرام، والشجعان من الناس، فعقد العزم أن يلحق بجيش سعيد بن عفان إلى خراسان؛ يجاهد في سبيل الله، ويرد ما كان قد خسره، وراح منه أياما طوالا، فأحضر راحلته، وشد العزيمة إلى بلاد ما وراء النهر، خراسان، لكن ليس وحده، بل برفقة من وثق بهم في أيام غاراته الليلية، لكنّه قبل الرحيل نحو الشرق، قدم إلى ابنته، التي أمسكت بزمام الناقة، تنظر إليه بعيني مولهة موجعة، وقالت له: أخشى أن يطول سفرك، أو يحول الموت بيننا؛ فلا نلتقي، فبكى، وأنشأ يقول:

 


ولقد قلت لابنتي وهـي تـبـكـي
بــدخيل الــهمـوم قـلـبـاً كـئيبـا
وهي تذري من الدموع على الخدّين
مــن لــوعة الـــفـراق غــــروبـا
حــذر الحــتف أن يصــيب أباهـا
ويــلاقـي في غــير أهـل شـعوبا
اسكتي قد حززت بالدمع قـــلبي
طـــالما حـــز دمعكن الــقلـوبـا
فـــعسى الله أن يــــدفـع عـنـي
ريب ما تــحــذرين حتــى أؤبـا

ويترك المكان، يقلّب نظراته بين الرمال والأودية الممتدة، تاركا قصص غاراته، وشجاعته، تنتشر في صحارى نجد بين الغضا، والشيح، والقيصوم، تُعاد في مجالس الأدباء والكرماء، ويصل مالك خراسان، وينضم في المعارك، التي أبلى فيها بلاء حسنا، فأعاد لنفسه روح القبول والخلود، وربما وجد ضالته المنشودة في عبير غبار المعارك، وختم رحلته، وقفل راجعا مع بعض ما ذهب معه، وعلى نسمات الصحراء، وفي جهد الرحلة المديد، ألقى مالك جسده فوق الرمال، الذي لا يجد راحة إلا فوقها؛ فتسلّلت رويدا أفعى سامة، أرسلت رسائل موتها لجسد مالك، وقد أحس بالأجل، يدنو منه؛ فقلّب نظره في السماء البعيدة، رآها شعلة من نور، فمدّ يديه إلى الرمال الساخنة، فربما تغدو منزله الأبدي؛ ثم تغنّى بقصيدة رثاء لنفسه المرتحلة أبدا، وقرّر أن يكون هذا المكان محطته الخالدة، فارتوت البيد من عطشها للمعاني بقصيدة، طالما الرواة ظلوا يتناقلونها، وظل الدارسون يعكفون إلى تحليلها، والنظر إلى معانيها النفسية، التي ساقها بلغة قوية ملائمة لأناه الداخلي الذي تفرّد مع الموت:
أَلا لَــيتَ شِــعري هَــل أَبيتَنَّ لَيلَةً
بِجَنبِ الغَضا أُزجي القَلاصَ النَواجِيا
فَلَيتَ الغَضا لَم يَقطَعِ الرَكبُ عرضه
وَلَيتَ الغَضا ماشى الرِّكابَ لَيالِيا
وَلَيتَ الغَضا يَومَ اِرتَحلنا تَقاصَرَت
بِطولِ الغَضا حَتّى أَرى مَن وَرائِيا
وفي نظرة المتفحّص الدقيق، نجد مالكا يكرّر كلمة الغضا؛ لما لها من وقع نفسي في حياته، فقد كان الغضا، وهو شجر متوسط الطول يكثر في الصحارى، فقد كان رفيقا له في غاراته وفي حله، وفي راحة نفسه أياما طوالا، وقد هجره القوم هنا فهو الوحيد المغترب الذي تخلى عنه محبوه كلهم، فليس هناك من يواريه إلا الغضا، وكأنه قد شاركه موته، ثم يذكّر شجر الغضا باعتداله عن اللهو والسلب والإغارة والعدول عن ذلك إلى الإيمان والهداية، وطلب الجهاد:
ألَم تَرَني بِعتُ الضَلالَةَ بِالهُدى
وَأَصبَحتُ في جَيشِ اِبنِ عَفّانَ غازِيا
وَأَصبَحتُ في أَرضِ الأَعاديِّ بَعدَما
أرانِيَ عَن أَرضِ الأَعادِيِّ نائِيا
ولما تدانت المنية تنشب أظفارها بين عيني مالك، وقد تراءت له الصحراء ممتدة بعويل ذئابها، وصمت ليلها، وحفيف شجر الغضا المحزن، تُغنَّى للوداع أغنية، فأوهمت له الريح خيال ابنته وهو يودعها، ويذكر حروفها الغريبة، فتتكاثر في نفسه مرامي الأحزان والفراق الأبدي، وأسهم حرف الروي الياء المطلقة، فيما يبوح من آهات معلنة، وهو إذ يستحضر هذه الذكريات يحاول لمّ العجر، الذي لازمه ودرأه في هذه الساعات، التي لم يعد يقوى تحملّها، فأحدثت الألفاظ في تلائمها للنص، انتقالة من الواقع المؤلم إلى المستقبل، الذي لم يعد يعنيه إلا العجز المواكب لقلّة الحيلة، التي استشرت في مفاصل حركته، فقد آلت إليه المنية معاني الفراق، الذي يقترب من نهايته كل حين:
تقول ابنتيْ لمّا رأت طولَ رحلتي
سِفارُكَ هذا تاركي لا أبا ليا
تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ سوى
السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا
وأشقرَ محبوكاً يجرُّ عِنانه إلى الماء
لم يترك له الموتُ ساقيا
نجد أن مالكا هنا في مرثيته لنفسه، التي اطمأنت لفراق الدنيا والأحبة، قد خفّت مرامي بيانه بالسياق العام للقصيدة، فجاءت دون تكلّف، ولا صنعة بديعية، لهول موقفه المحيط به، وعسره، فظهر مصورا للبيئة المحيطة به مستذكرا حياتها القوية كلّها، وقد آل إليه ضعفه بأحداث متواترة، قد كَلُمت فؤاده نظرة اللحد الصغير، وسط المفازة الممتدة بالأفق، وقد ازدحمت في عينيه صور الذكريات، وشجر الغضا الملتف حوله، الذي يضمّ جسده:
فيا صاحبَيْ رحلي دنا الموتُ
فانزِلا برابيةٍ إنّي مقيمٌ لياليا
أقول لأصحابي ارفعوني فإنّه
يَقَرُّ بعينيْ أنْ (سُهَيْلٌ) بَدا لِيا
وخُطَّا بأطراف الأسنّة مضجَعي
ورُدّا على عينيَّ فَضْلَ رِدائيا
خذاني فجرّاني بثوبي إليكما
فقد كنتُ قبل اليوم صَعْباً قِياديا

كثيرة هي المصائب والمحن، التي تعتلج بحياة المرء، فيتجاوز بعضها أو تعترض أمانيه وغاياته، لكن أن يدري المرء لحظه موته، ودنو منيته، فهذا يولد شعور الياس والحزن والاستكانة للحدث، فتستلّ الروح نضالا للحياة، لكنها لن تدوم طويلا، فيستجمع العقل صنوف الشجاعة والقوة، التي تضيق بها النفس واليد، وبالمقابل من الشعور بالقوة تتجمّع الروح مستدرة مخرجا للصراع بالمآل، الذي تكوّر حوله، فبات يستجدي من يعزيه ومن يحزن له، ومن يشهد طقوس موته، مستذكرا عويل النساء الثكالى؛ لتخفف عما يشعر بالموت وحيدا:
أقلّب طرفي حول رحلي فلا أرى
به من عيون المؤنسات مراعيا
وبالرمل منّا نسوة لو شَهِدْنَني
بَكينَ وفَدَّين الطبيبَ المُداويا
فمنهنّ أمي وابنتايَ وخالتي
وباكيةٌ أخرى تَهيجُ البواكيا
إن رؤية المرء للأماني السائدة في النفس، وقد حرم منها، تجعله يتشبث بأسرار الحياة، وبطرقها في البقاء، وهنا تظهر في عينيه حالات الاكتئاب والعزلة، التي تنجم عن فقدان الإنسان جدوى القيمة المعطاء وراء تحقيق الرغبة الملحة في النفس، وهنا يبرز المكان وقد بان بونا شديدا عن مبتغاه في رثاء النفس الذاتي، الذي يعد من أصدق أنواع الرثاء، فهو صادر من إنسان لا يطلب رغبة، ولا يخشى رهبة، فقد طوّف عينيه تجاه المأوى، الذي كان يؤويه سنوات طوال، فالآن لا يستطيع إدراكه؛ بسبب البعد الشاسع، وقد حالت بينهما أماكن شتى غريبة، فيقول متجاوزا الرغبة في البعد:
أقول وقد حالت قرى الكُرد بيننا
جزى الله عمرا ما كان جازيا
إنِ اللهُ يُرجعني من الغزو لا أُرى
وإن قلَّ مالي طالِباً ما ورائيا
ويغادر النهار، مسرعا نحو المغيب، وتحطّ شمس الغياب في بحر من السراب والأسى، وتغور عينا مالك بالظلام الأبدي حيث يتلاقى الجسد والمصير عند الخالق الرحيم، ثم ليلا، وعند صمت الصحارى ينشأ غبار تَذرِيه الرياح حول لحده، الذي يكاثره النشيج والنحيب، وقد صارت الذكرى والأمنيات ممكنتين في هذا الليل السرمدي، فلا رائحة معزٍّ حوله غير حبل معلّق براحلة، وفرس نشيط، قد سقاه الموت كأس المنون، يمتد حبله من رأسه إلى مشارف لحده، الذي اندثر بعويل الرياح، وخطو الرمل إليه، فمضى مالك نحو الموت بطيئا، وصوت مرثيته بلغ أوج السماء، ومضارب الصحارى، فخلّدت القصيدة اسمه بين الورى، رثاءٌ أبيٌّ لنفسه لحظة الموت في زفرة دعاه الشغاف إليها؛ لتبقى حروف قصيدته بين طرفي قبره، علامة الرائين له، الشاهدة على رجلٍ أنفٍ عزيزٍ.