كيف استطاع قاسم أمين أن يسبق عصره بأفكار جعلته يواجه اتهامات الكفر والزندقة في حياته، والذكورية والاستعلاء بعد مرور عقود على وفاته؟

“منه لله قاسم أمين” جملة انتشرت على لسان الفتيات والسيدات من قبيل المزاح، على اعتبار أن دعوته لتحرير المرأة أرهقتهن. بينما لم تطمح أيا منهن لذلك. فقط أردن أن يعشن دون إجهاد التعليم والعمل. بالتأكيد تردد النساء هذا القول كمزحة أو سخرية، غير مدركات أنه لولا قاسم أمين لكان هذا هو حالهن بالفعل.

ليس سهلا أن تواجه أفكار المجتمع الراسخة مقدمًا له رؤية مختلفة للعيش بصورة حضارية.هذا ما أدركه قاسم أمين. معترفا أن محاولته للإصلاح لن تواجه بالترحيب، وأن أثرها سيأخذ اتجاها بطيئا حتى يحدث بالفعل، وكان يعرف أنه سيلقى التشنيع والقذف بالباطل حتى يومنا هذا.

“سيقول قوم إن ما أنشره اليوم بدعة. فأقول نعم أتيت ببدعة، ولكنها ليست في الإسلام، بل في العوائد، وطرق المعاملة، التي يُحمد طلب الكمال فيها”

               قاسم أمين كردي الأصل.. مصري الهوية

في عائلة أرستقراطية، ولد قاسم أمين في الأول من ديسمبر عام 1863. والده هو محمد أمين بك كردي الأصل, مصري الهوية, كان حاكم ولاية عاصمة كردستان – أمد- دياربكر. انتقل إلى مصر وتزوج من سيدة أرستقراطية ذات أصول صعيدية. فعاشا معا في الإسكندرية. حيث أنجب قاسم وأخواته. ثم استقرت الأسرة في حي الحلمية بالقاهرة.التحق قاسم بمدرسة رأس التين الإبتدائية. فاستطاع قاسم أن يحظى بتعليم جيد؛ بسبب مكانة عائلته.كان من أوائل الملتحقين بمدرسة الحقوق، وتخرج فيها عام 1881، وعمل محاميا لفترة، قبل أن يسافر إلى فرنسا في بعثة دراسية، ويلتحق بجامعة مونبلييه.

كانت فترة الدراسة نافذة على عالم الثقافة الغربية، التي تأثر بانفتاحها*، واطلع على كتابات كبار الفلاسفة والمفكرين، أمثال: داروين ونيتشه وماركس.عمل قاسم قاضيا، وكان مصلحًا اجتماعيًا ومفكرًا، يمتلك صلات قوية بسعد زغلول، والشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني.كما عمل على المساهمة في تأسيس الجامعة الأهلية، التي صارت جامعة القاهرة بعد سنوات طويلة. كما عمل في النيابة والقضاء، ووصل لمنصب مستشار وهو في الواحدة والثلاثين من عمره.

قاسم أمين وتحرير المرأة

                         قاسم أمين وتحرير المرأة


قبل التطرق إلى القضايا التي طرحها أمين من أجل تقديم وجهة نظره في الإصلاح المجتمعي، الذي يبدأ من صلاح حال المرأة، وتحسين أوضاعها، يجب وضعها في سياق الزمن وتركيبة المجتمع لاكتشاف مدى حداثتها، والحرص على عدم اقتطاع أجزاء من كتبه، ومقالاته، والتعامل معها وكأنها صادرة في هذا الزمن.

تعتبر حركات نسوية من أجيال مختلفة أن قاسم دعا لتحرير المرأة من وجهة نظر ذكورية، وأن هدف الإصلاح الذي تبناه هو لتحسين حياة الرجل، قد يبدو ذلك صحيحا بمعايير الأزمان الحالية، متغافلات أنه أتى بأفكار تنادي بالتعليم ووقت تعدد الزوجات، في وقت كانت تعتبر فيه المرأة شيء للإمتاع والخدمة.

“من احتقار المرأة أن يطلق الرجل زوجته دون سبب، من احتقار المرأة أن يقعد الرجل على مائدة الطعام وحده ثم تجتمع النساء من أم وأخت وزوجة ويأكلن ما فضل منه..

من احتقار المراة أن يسجنها في منزل ويفتخر بأنها لا تخرج منه إلا محمولة على النعش إلى القبر، من احتقار المرأة أن يعلن الرجال أن النساء لسن محلا للثقة والأمانة”

                           قضايا قاسم أمين السابقة لعصره

في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لم يكن مرحبا بخروج النساء من المنازل، أو تلقي التعلييم، أو أن يكون للمرأة رأيا في أمر خاص أو عام. على المرأة فقط أن تقضي واجبات المنزل والزوج، وفي ظل ذلك تبدو دعوة قاسم لخروج النساء، وتعليمهن، وعدم التزامهن بالحجاب الذي يغطي الوجه، وكأنها دعوة للكفر، وذلك واجه اتهامات التغريب والزندقة.

ويمكن رصد أهم القضايا التي تناولها قاسم برؤية عصرية تسبق زمانه وما زال الجدال دائر حولها إلى الآن، في:

1. التحرش وغض البصر


اعتبر قاسم أن منع الاختلاط بين النساء والرجال يثير الشهوات أكثر مما يهذبها. فيذكر الرجال الذين طالعهم بنفسه ممن لم يعتادوا الاختلاط، كيف كانت نظراتهم للنساء تملؤها الرغبة. فكانت محاولاتهم المستمرة للمسهن في أي فرصة. من هنا اعتبر أن إبعاد النساء عن الحياة العامة إشارة لعدم الثقة بهن.

“أليس من الغريب ألا يوجد رجل فينا يثق بامرأة أبدا مهما اختبرها، ومهما عاشت معه؟

أليس من العار أن نتصور أن أمهاتنا، وبناتنا، وزوجاتنا، لا يعرفن صيانة أنفسهن؟”

يشير أمين في بعض مواضع الكتاب إلى غض البصر الملزم للرجل والمرأة، حتى في ظل وجود مفاتن ومغريات، وكأنه يتحدث عن التحرش الذي نقع فيه الآن، وأسبابه التي لا يأتي من بينها ملابس المرأة، واحتجابها من عدمه، وإنما التربية والقانون.

2. تعدد الزوجات

رأى قاسم في تعدد الزوجات احتقارًا للمرأة. فاعتبره عادة قديمة متوارثة تجعل المرأة في منزلة ما بين “الإنسان والحيوان”، واعتبره شقاءا للمرأة، وقبولها به يأتي من الصورة التي تُركت في أذهانها على أنها “متاع” للرجل. كما رأى قاسم أن الرجل الذي يعدد زوجاته لا يحترم نفسه أو يقدر زوجته.

“من احتقار الرجل للمرأة أن يملأ بيته بجوار بيض وسود أو زوجات متعددات يعوى إلى أيهن شاء منقادا إلى الشهوة، مسوقا بباعث الترف وحب استيفاء اللذة، غير مبال بما فرضه عليه الدين من حسن القصد فيما يعمل”

ومع ذكره لنصوص القرآن بأن الشريعة حللت التعدد لكن ألزمت العدل، الذي في حال عدم حدوثه يجب الاكتفاء بواحدة، معتبراً أن عدل الرجل تجاه أكثر من زوجة غير مستطاع، فكيف له ألا يخاف؟

3. حجاب المرأة

كان قاسم يمتلك ثقافة دينية وصلته بالشيخ محمد عبده، فجعلته أكثر اطلاعا على العلوم الفقهية. لكن مع تردد الأقوال التي تعتبره من دعاة خلع الحجاب، ذكر في كتابه أنه يرفض الحجاب الذي يدل على المبالغة، والمغالاة، والذي لا ينتمي للشريعة، وإنما هو عادة متوارثة.

فكانت النساء يرتدين البراقع والخمار الذي يمنع عنهن الهواء والشمس، ويحجبها عن التواصل مع المجتمع.

“إنني لا أزال أدافع عن الحجاب، واعتبره من أصول الأدب التي يلزم التمسك بها، غير أني أطلب أن يكون منطبقا على ما جاء بالشريعة الإسلامية”

4. تعليم المرأة

كان يرى أن إهدار فرصة تعليم النساء هو تحطيم لمحاولة إصلاح المجتمع وبنائه. فواجه بنفسه آباء نصحهم بتعليم بناتهم، وأبدوا امتعاضا ورفضا، معتبرين الفتيات لا يتعلمن سوى أمور المنزل. شبه أمين إهدار فرص الفتيات في التعليم بـ “مثل رجل يملك رأس مال عظيم فيدعه في صندوق، ويكتفي بأن يفتح صندوقه كل يوم ليتمتع برؤية الذهب”

“فلأن النساء في كل بلد يقدرن بنصف سكانه على الأقل، فبقاؤهن في الجهل حرمان من الانتفاع بأعمال نصف عدد الأمة”

وطرح أن يتم تعليم الفتيات حتى المرحلة الإبتدائية على الأقل؛ حتى تمتلك من المعرفة ما يساهم في إثراء وعيها، واتساع أفقها، ويجعلها أكثر قدرة على تنشأة أطفال أفضل، ويخلصها من الكثير من الخرافات التي تسكن العقول إذا استقر بها الجهل.

5. الاستقلال المادي

من باب العناية بتعليم الفتيات، تطرق قاسم إلى العائد الذي تحصل عليه النساء من التعليم، بدءا من القدرة على اختيار ما ينفعهن بأنفسهن في الأمور الحياتية اليومية.

كما انه اعتبره سبيلهن للاعتماد على النفس في ظل غياب “الولي”، أو المسئول عن رعايتها من زوج أو أب أو أخ، منبها أن وجوده ليس مضمونا في كل الأحوال.

“لا يكاد تخلو عائلة مصرية من تحمل نفقات عدد من النساء اللاتي وقعن في العوز، ولا قدرة لهن على العمل للخروج منه”.

ونبه أنه حتى النساء الغنيات يضطررن إلى الخضوع لوكلاء ينوبون عنهن في التصرف في الأموال فتضيع حقوقهن. في حين أن تعليمهن سيغنيهن عن اللجوء لأي شخص، بل ويمنحهن استقلالا ماديا، وقدرة على التحكم في الموارد التي يمتلكوها.

6. الطلاق الشفهي

تناول قاسم أمين، الذي يشير كثيرون أن الشيخ محمد عبد ساعده في كتاب “نحرير المرأة”، إلى قضية الطلاق بالتفصيل، ومنها تناول أمر الطلاق الشفهي، الذي ما زال يواجه كثير من الجدال والنقاشات إلى اليوم، لكنه لم يقنع بوقوع الطلاق بمجرد التلفظ به، دون نية واضحة ومقصودة ولا التباس فيها.

ويبدو أن هذا الجزء- من الكتاب قد كتبه الشيخ محمد عبده، كونه يتناول بالتفصيل آراء الفقهاء ويحللها، ويشير الكتاب إلى استخدام الطلاق في أبسط الأمور اليومية من جانب الرجال، ولذلك كان الاقتراح بالأخذ بقول بعض الأئمة وأن يبكون الطلاق بالاستشهاد مثل الزواج.

“عاشت المرأة في انحطاط شديد أيا كان عنوانها في العائلة: زوجة، أو أما، أو بنتا. ليس لها شأن ولا اعتبار ولا رأي، خاضعة للرجل لأنه رجل ولأنها امرأة”

لن ينتهي الجدال حول قيمة ما أحدثه قاسم أمين، الذي رحل في 23 أبريل عام 1908، وترك كتب فكرية، منها “المصريون” و”المرأة الجديدة” و”حقوق النساء في الإسلام”.

كما تسبب في نقلة إصلاحية أدت إلى توالي الحركات النسائية منذ ثورة 1919 وإلى اليوم؛ لنيل حق المرأة في الوجود.