نوسوسيال

القاص خليل أوصمان : وتمضي الأيام ..

294

 

 

 

كانَ كلُ شيءٍ يبدو مضنياً وتلك الخواطر التي بدأت تتلاقى خلسة في رأسي، وكأنما تخشى أن يدركها أحد.
إذ أن العبثَ المحيط بي في كل اتجاه، كان من الفظاعةِ بحيثُ لا يقوى على تحملها كائنٌ مثلي.
كنت كالمنطلق إلى مكانٍ بعيدٍ غامض، وأنا أرمي بنظري إلى الأراضي التي تتلاقى فوقها ظلالُ أشجار الفستق والزيتون، والتي اعادتني إلى سهول قريتي وتضاريسها رغم افتقارها للشجر، وبدون استئذان وجدتني افزعُ من حقيقةٍ لم تكن على البال، وهي تأسفي على أن تتبخر أيامي هباءً لا يخلفُ أثاراً صغيرةً تتعلق بذاكرتي المتهالكة.
كنتُ أعشق الحياة في يوماً ما، وربما أهيئُ
نفسي لرسالةٍ لم أبدأ بها بعد، بينما الفراغُ أصبح يخيفني ويجسم لي فظاعة العدمية.
اشاعَ الشرود في داخلي احساساتٍ غريبة، وأنا داخل الحافلة ووجدتني فريسةً لنوبة ضجرٍ حادة، إلى درجة شعرتُ بأنني محاصرٌ من كل الجهات، أردتُ التملص من هذا السيل المنهمر من الأفكار، وقد بدأت رعشةٌ حادةٌ تهز أطرافي، وبدأت اسمع همساتٍ وراء نافذة السيارة المغلقة التي تسير بي، بينما الصورةُ تهتز عبر مخيلتي فلم أعد أقوى على رؤية شيء ..!
كنت متوجهاً إلى قرية “زيارتْ” مسقط رأس جدي، هذه القرية الوديعة التي كنا نسمع عنها قصصاً وحكايا، وهي القابعة في الطرف الشمالي وبدايات “ديشتا سروجه”.
يومها كنت ممن قررتُ المشاركة بتشييع جنازة أحد البؤساء ممن أمضوا جل سنوات عمرهم لإسعاد الآخرين رغم الشقاء والمعاناة.
اسمه لا ينفصل عن كمنجتهِ المتواضعة، فهي ورشاقة أصابعه تُصدران أنين الثكالى حيناً، ويصحوان النشوة والابتهاج أحياناً أخرى، بينما عشقه لتلك الآلة وشغفه بموسيقاه جعله رائداً في جمع القلوب المتنافرة لسكان بلدتهِ وريفها لعقودٍ من الزمن.
والآن غادرنا كما كل البسطاء، إنه
“محمد دومان” أيقونةٌ ينتمي إلى زمن الأصالة والطيبة، حيث الأمسيات العامرة التي كانت تشهدها المضافات في قرانا، والغوص مع تلك الحكايات الملحمية التي تطول وتطول..
وهي تتدفق من قلوب مغنين يرتجلون حكاياتٍ أسطورية، وقصص العشق الازلية التي لا تنتهي.
عندما وصلتُ المقبرة تلاشى ذلك الضيق من داخلي، كنتُ انساب وأدخل بين الجموع.
لم يكن سهلاً التخلص من رسوباتٍ عتيقةٍ وتراكماتٍ في الاعماق تتعلق بالقدر والفناء، وأنا أقفُ منتصباً بين أولئك المشيعين،
كان ثمة مشاعر غامضة تتجسم ملونةً وجوه المعشر من حولي بلونٍ خاص، وكنت حتى ذلك الوقت لم اتفوه بكلمةٍ واحدة، انتابني شعورٌ لم ادركه، وتوهمتُ بأن الذي اجتمعنا بسببه ربما الآن يتململ ويتلوى من الحسرة، ولو نزعنا عنه الكفن فإن ملامحه ستفضح رغبته في الصراخ، وهو يرجم السماء بعتابٍ شديد اللهجة، وربما يذوب في اعماقه شعورٌ مريرٌ بالوحشة، فها هو يرقد في قوقعةٍ داخل ذاته، ويدرك بأن ساعاته بدأت تفنى وتذوب، بينما احذيةٌ ثقيلةٌ تقترب منه، واصواتٌ تُلفظ، وهو يحس بما حوله، وبأن حياته بدأت تفارق حياة أولئك البشر..
وربما بدأ يتساءل: لماذا لا تُمنح الحياة لنا إلا مرةً واحدة ثم نرحل في سرمديةٍ دون عودة؟

لحظتها كانت الشمس التي توسطت الأفق تكوي أوراق الاشجار المحيطةِ بالمقبرة وأغصانها تكاد تصرخ وتروي قصص أولئك الراقدين تحت التراب، وكذلك حجارة المقبرة الصماء وكأن بها تنصهر، حيث أغفت مرهقةً تلفها حرمان وضمور.
أما الظهور الأوحد فكان لذلك الشيخ الذي بدا كالطاؤوس نافشاً ريشه، فحان وقت حماسه ليبدأ طقوس الدفن، وإلقاء المواعظ للجمهور المحتشد حوله، تلك الارشادات التي أصبحت بديهيةً يرددها دون مشقة، ورغم بدانته وقصر قامته، إلا أنه بدا وكأنه ولد ليكون ملقناً للموتى ..
بدأ يحثُ على مغالبة النفس وينفعل مع كل كلمةٍ يلقيها، وهو يمسح بكمهِ الواسع العرق المتصبب على جبينه والذي غزاه الأخاديد.
أما الموتى فربما تناهى هذا الصخب إلى لحدهم يقّضُ مضجعهم، ويجعلهم أكثر اِلتحاماً بالارض، وكأن بهم أعتادوا على الأنزواء شيئاً فشيئاً نحو أعماق الأديم.