نوسوسيال

بقلم خليل او صمان : مفهوم الفلكلور والغناء الكردي الملحمي

906

نوس سوسيال الدولية

 

لاشك أنّ أول لغة استعملها الإنسان القديم كان لغة الرقص وكانت الصرخات والأصوات التي يطلقها الراقص وهو يؤدي رقصاتهتأخذ رويداً رويدا أشكالاً أكثر انسجاماً ووضوحاً بحيث تتحول إلى نوع من الغناء يبقى في الذاكرة . وأصبحت هذه التعبيرات أو لنقل هذه الموسيقى والأغاني رمزاً يستعمل في المناسبات الخاصة كالصيد والحرب والعبادة …الخ
من هنا نستطيع النظر إلى مصطلح الفلكلور الذي نبع من الأزمنة السحيقة . وينبثق من القوى الخلاقة للشعوب التي أنتجته وهو يتيح للإنسان المعاصر الغوص إلى الأصول الأولى للأنشطة الثقافية التي عرفتها البشرية .
ويعني الفلكلور بشكل عام علم التقاليد والعادات والمعتقدات والأساطير والأغاني والأدب الشعري دون تمييز بين ما هو مكتوب وغير مكتوب . ولو نظرنا إلى أصول الملحمة الغنائية التي هي عنصر هام من عناصر الفلكلور نرى بأن لها جذور متأصّلة في نفوس أبناء الشعوب وفي تقاليدهم .
وفي هذا أسباب ديمومتها فهي حافظة الأقاصيص والمعتقدات والممارسات الدينية والأحداث التاريخية والقومية كما هي أداة للترفيه والتسلية .ونرى تلاصق الموسيقى والأغاني في حياة الشعب خاصة في مناسبات الأعياد حالة شديدة الخصوصية وهناك بدون شك أسباب أخرىلديمومة اللحن الفلكلوري والملحمي من الصعب تحديدها .إنما يبدو بشكل عام أنها تتعلق بالعاطفة والحالة النفسية التي يعبر عنها اللحن إذ هو تعبير عن الآمال العميقة لدى الشعب وعن الدوافع الدفينة في نفسه وهو وسيلة للتفريج عن كرب النفوس . تعكس حالة الأفراد الاجتماعية والاقتصادية التي تسود المجتمع بأسره أو فئات منه ولاسيماالأقلياتالعرقية أوالدينية وتشير إلى حالات الظلم والاستبداد التي يرزخ تحتها هؤلاء في مراحل معينة من تاريخهم . ومن خلال ذلك يمكن اعتبار الملحمة الغنائية هي روح الشعب.
إن دراسة التراث الملحمي الشفهي لزمننا أنما هو المفتاح الحقيقي لفهم الملاحم الكلاسيكية للعالم القديم وللعصور الوسطى التي وصلت إلينا من الشرق . ولو تطرقنا إلى الغناء بشكل عام نرى بأنّ الغناء هو أقدم أنواع الأدب الفلكلوري.
ويعتقد بعض العلماء بأن أغاني الرعاة هي أقدم أنواع الغناء فالرّعي عندهم أقدم من الزراعة هذا رغم أنه هناك علماء يعتبرون الرعي وتدجين الماشية جزء من الزراعة ويعتقد البعض الآخر أن الإنسان بدأ الغناء منذ الشروع لجني الفواكه في المرحلة الأولى من الحياة البدائية . إذاً هناك تنوع في نمط وأشكال الغناء فهناك أغاني الحصاد أي الحصاد الجماعي وهذه الأغاني تتناسق مع حركات وأقسام وأعضاء الجسم أثناء الحصاد . وهناك الأغاني التي تحمل سمة الجماعية في التراتيل وهي الأغاني الدينية . ولا ننسى الأغاني المرتبطة بالعادات التقاليد وأغاني المناسبات الاخرى .
وكل هذه الأغاني تختلف باختلاف الشعوب والأمم فلكل شعب غناؤه فالشعب في الحقيقة هو الصانع العبقري لمعظم أغانيه .
وينتشر الغناء بصوره المختلفة عند معظم شعوب العالم فهو مرآة روح الشعب وتراثه أفكارهوأهدافه وهو يميز نفسه دائماً بالعمق والأحاسيس والعاطفة .
والشعر الغنائي من أنواع النتاج الأدبي وهو لا يعكس الأحاسيس الخاصة بمؤلفه فحسب بل يعكس أحاسيس الجموع الواسعة من الناس أيضاً.
إن الأغاني الشعبية والملحمية تحتل موقع مهماً بين أنواع الأدب الفلكلوري والشعر الغنائي فهي ترافق الإنسان من المهد إلى اللحد . وغالباً ما تدور أحداث هذا النوع من الغناء حول العاطفة والأحاسيس .كما أنها مدونة بلغة بسيطة لكنها تتميز بالرقة والجمال والصور وتغدو بنفسها آية من الجمال.
في الوسط الشعبي هنالك دائماً مخزون شفوي وهو نتاج تاريخ عريق وهو الخلفية الثقافية لهذا الوسط الشعبي وعموما يحدد هويتهم الأثنولوجيةوالأقليمية وهو جزء هام من الفلكلور وينتقل منجيل إلى جيل مضيفاً خصوصية كل جيل على حدّه ليشكل ثروة ثقافية خلاقة ومرجعاً هاماً لكثير من الدراسات التاريخية الثقافية . ومن أهم هذا المخزون الملحمة الغنائية
ونستطيع القول بأن الرواة والمغنين هم الذين لهم الفضل في حمل لواء هذا التراث الغنائي .حيث استطاعوا الحفاظ على جزء كبير من الأدب الشعبي غير أنهم أضافوا الكثير من معاناتهم ومعاناة جيلهم حتى أخذت هذه الأغاني والقصص الطابع الملحمي .
الملحمة الكردية :
من ربوع كردستان حيث الجبال التي تزينّها الأشجار والثلوج ويغطي الضباب في صباحات الشتاء والربيع وديانها وحيث منابع الأنهار وموسيقى جريانها وأكثر المناطق روعة وأهمية وأشد الثغور مناعة شريطٌ لا ينتهي من الذكريات والأحداث التي تناقلتها الأجيال جيلٍ بعد جيل شفاهاً عن هؤلاء الذين تجاهلهم التدوين وتجاهلتهم الكتابة وسطّروا في تلك الربوع الخلّابة آيات من البطولة والتضحية وقصص الحب الخالدة على مرآة ذلك الزمن المسافر . ومن عمق السنين وتراتيل الأقدار التي لعبت بمصير أُناس محكومين بالأعراف حيناً وبالأغلال أحياناً تجري أسطورة الإنسان الكردي عبر الزمان والمكان وبين الحلِّ والترحال والوفاق والشقاق بين الحب والكره بين القهر وإرادة البقاء هذه هي قصص الملاحم الكردية الخالدة أبد الدهر .
تنقسم الملحمة الكردية إلى قسمين : 1- الملاحم البطولية
2- ملاحم العشق والفراق
الملاحم البطولية :
وهي تقوم أساسا” على الشجاعة والبطولة النادرة وهي بحكم صفتها لم تدون في مراجع لذلك لم يصلنا منها إلا ما حفظه الناس وتناقلوه بالسمع جيلا” بعد جيل . ولولا ذلك لكان معظم التراث الموسيقي والملحمي الكردي قد ضاع تماماً” .
يقول (مار) وهو عالم ولغوي ومستشرق كبير : حقيقة أن الفلكلور الكردي لا ينتشر بين جموع الشعب الكردي وحده بل وعند شعوب الشرق الأدنى أيضا كالعرب والفرس والأرمن والأذربيجان وغيرهم .
من هنا نستنتج مدى جمالية وتميز الفلكلور والملحمة الكردية وانتشارها , إن هذه الملاحم الكردية خالية إلى حد ما من الأحداث الخارقة وإنما لا تخلو من بعض المبالغة في شجاعة بطل الملحمة و قوته . والملحمة الكردية هي مادة غنية لتمحيص جوانب الحياة الكردية في الماضي والحاضر ونرى هنا بوضوح مادة لدراسة العادات والتقاليد والطبائع الكردية . وتعتبر هذه الملاحم وسيلة لتوثيق التاريخ والتعبير عن الماضي المشرق كما في ملحمة (قلعة دمدم) .
أن الملاحم الكردية البطولية تأخذنا تدريجياً نحو الخيال ونحو الماضي وتجعلنا نشعر وكأننا نعاصر أبطالها , وشخوصها ولعل أهم هذه الملاحم على الصعيد الشعبي ملحمة ( دوريش وعدول ) وايضاً ملحمة ( طيار وغزال مندي ) .
وفي ملحمة دوريشعفدي وعدولة ملي نرى بوضوح عناصر الجمال في الملحمة الشعبية الكردية , وهذه الملحمة التي جرت أحداثها في حوالي عام /1770م / في ربوع ( كري أوزلجان ) تتحدث عن قصة الحب العذري , وعن وضوح البطولة المطلقة والشجاعة النادرة والإخلاص الذي يؤدي إلى موت بطلها ( دوريش ) في سبيل عهد قطعه لحبيبته ( عدّول ) عندما استنجد به ( زور تمر باشا ملي ) , وجعل من ابنته ( عدّول ) هدية لمن يصدّ عنه أعدائه القادمون على ألف وسبعمائة فارس لغزوه , واشترط لمن يقوم بالمهمة أن يشربَ فنجان القهوة التي تدور في مضافته دون أن يجرؤ أحد على المغامرة ليأتي حبيب ( عدّول ) ( دوريش ) ليرشفها ويخرج مع أحد عشر فارساً من الشرقيان والملّان , وكان ( دوريش ) يحلم بالفوز بجدائل ( عدّول) عندما يدافع عنها , وعن أهلها , ولكنه وفي آخر المطاف , وقبل أن يفارق روحه جسده حيث يقع في أرض المعركة , وقد قتل رفاقه جميعاً لا يأبى الرحيل إلاّ وقد وصلت إليه معشوقته ( عدّول) لتضع رأسه على ذراعيها وتخاطبه بأغنيتها الشهيرة في الوسط الشعبي الكردي ( دلال ) .
من الضروري هنا أن نتذكر ولو بشكل عابر عميد الأغنية الملحمية والأغنية الشعبية الكردية في مناطق امتداد عشائر ( البرازية ) في كوباني وسروج وأورفة وما يجاورها ؛ بل وربوع كردستان برمتها ( باقي خدو ) , هذا الفنان المتواضع بكل شيء لا في عطائه وتميزه فقط , بل بأدائه للملاحم الكردية والإسهام بتخليده لهذه الملاحم والأغاني والحفاظ عليها ونقلها إلى الأجيال القادمة .
تعلّم مبادئ هذه المدرسة الغنائية من والده الفنان خدو هنداوي وتأثر بطريقة وأداء مغني السهرات الشتوية في كوباني وقراها الفنان (مشو بكه بوري ). إلا أنّ باقي خدو أضاف الكثير إلى هذا التراث وطبعه بأسلوبه الخاص وأتقن ذلك الكم الهائل من الأغاني العاطفية الطويلة و أغاني الفلكلور وأغاني الملاحم الشعبية وقصص وسير العشاق على امتداد تاريخنا الكردي.
أنّ من يهتم بفن باقي خدويلاحظ تماماً إمكانيته الواضحة في الآداء وفي طريقة سرده للقصص الملحمية وفي إتقانه العفوي والفطري باختياره للمقامات والانتقال في ما بينها . فلكل أغنيةمن أغانيهلحنها ومقامها وأسلوبها الخاص, والمميز أن تراجيديا أغاني باقي خدووكلماته المتناسقة تأخذك بعيداًإلى عالم من الصور والمشاهد والاحداث يصفها بشكل آسر ومشوق فلا تشعر إلاوأنت تسافر عبر الزمن إلى ذكريات الأجداد وأيامهم وأحوالهم وقصصهم , ولوعدنا الى ملحمة دوربش وعدول التي اعطاها باقي خدو الاهتمام الاكبر حيث يسرد لنا هذه الملحمة الغنائية بشكل كامل بكل تفاصيلها واحداثها الدرامية الشيّقة دون أن يغفل النمط الموسيقي المناسب لكل مقطع وحسب احداث القصة ففي حاله الحب يجعلك تشعر بمدى عمقه وعنفوانه وفي حالات الحرب تشعر معه وكأنك تشاهد شريطاً سينمائياً وذلك من دقّه وصفه وأسلوبه الذي يطغى عليه انفعالاته الواضحة في نبرة صوته وهو يصف لنا مشاهد الموت أو الانتصار .
يمتاز باقي خدو من بين جميع من غنّوا الاغنية الملحمية والأغنية التراثية والشعبية بأنه ملم بهذا الكم الهائل من الاغاني . نذكر أغنيته ( ممآلان وزين زيدان ) التي يبدع في كلماتها ولحنها الحزين ووصف الحواري والجن والخيال الذي يذكرك بالأساطير الشرقية وعبق التاريخ .
وجديرٌ ذكره هنا أن نلاحظ اختلاف هذه الملحمة عن قصة (مم وزين ) التي أبدعها شعراً الشاعر الكردي ( أحمد خاني ) , وأيضاً أغنيته الشعبية بامتياز ( بيمال ) وهي من الاغاني التي تتردد بشكل كبير في الأوساط الشعبية في منطقة ( كوباني ) وما حولها .
وهناك أغنيته ( لو خالو ) , وهي قصة واقعية جرت أحداثها بين قرية (الزيارة ) و( كره كور) فتحولت إلى أغنية شعبية .
ومن ملاحم العشق التي غنّاها باقي خدو ( خجوسيامند ) حيث نرى ( خجوسيامند ) يعشقان بعضهما ويعقدان عهد الحب والوفاء ولا يرضى أهل ( خج ) بتزويج ابنتهم من ( سيامند ) الفقير رغم كونه ابن عمّها فتصمّم على الهرب مع ( سيامند ) فيتبعها فرسان العشيرة فيقاتل ( سيامند ) ببسالة حتى يصاب قلبه برمح وينحدر من قمة الجبل الصخري وترمي ( خج ) بنفسها من ورائه وتموت إلى جانب حبيبه .
وهناك أغنية ( بنفشه نارين و جبلي ميري هكاري ) التي ما أن تستمع إلى أسلوبها الأخّاذ وطريقة أداءها حتى يذهب بك الخيال وكأنك في مشهدٍ أخّاذ حيث البيوت المتناثرة وأشعة الشمس المشرقة في صباحٍ ربيعيٍّ جميلٍ ومشهد الضباب بين التلال ونباح الكلاب وأصوات الرعاة وقطعان الماشية … الخ
ويبدع ( باقي خدو ) في أغانيه الأخرى (صالح وكشه ) وهي برأي أجمل لحن وأسلوب من بين جميع أغانيه إلى أغنية( لو دلو ) و( عوني ) و( دلال قيزكن ) , والكثير من الاغاني التي ابدعها الفنان الخالد باقي خدو .
لا شك أن قائمة أغانينا التراثية والملحمية والفلكلورية تطول وتطول فمكتبة الموسيقا الكردية هي مكتبة غنية بكل أنواع الموسيقا والغناء وإن لم تجد حتى الآن الاهتمام والتوثيق إلاّ أنها ستبقى للأجيال القادمة ثروة ثقافية عظيمة , أتمنّى مستقبلاً أن يتم أرشفتها وتوثيقها والعناية بها من قبل المختصين بالفن والإبداع الكردي , وأن يتم تكريم من أفنى عمره في خدمة هذا الفن الغنائي وأن لا يبقى الفنان الكردي كالجندي المجهول بعيداً عن ذاكرة الأجيال القادمة بل أن يأخذ حقّه في التقدير والتمجيد .
وهكذا وبعد سردنا لمفهوم الملحمة والفلكلور والتطرق ولو بشكل موجز إلى أهم الملاحم الكردية من المفيد أن نتذكر أنّ الغناء هو ديوان الكرد كما هو الشعر ديوان العرب , إننا نرى بأن الأغنية هي عاطفة مجردة بخلاف الملحمة التي هي مشاهد وصور وأحداث قد تكون حقيقية في مجملها أو في بعض فصولها. إن الإبداع الملحمي لا يعكس الأحداث وحسب بل ومصائر حياة الإنسان وآماله وطموحاته , والسرد في الملحمة هو قبل كل شيء تثبيت لحكاية حقيقية أو لحادث واقعي مرتبط بالحياة .
ويبدل المغنون في كل جيل من الملحمة شيئاً سواء أكان ذلك في الأحداث أم في الشخصيات , وهكذا فكلما مرّت الملحمة الشعبية بعصر أو بقبيلة حملت معها بعض الأحداث والأشخاص وأبقت أموراً أوجدت عند نشوء الملحمة . ولذلك فأننا لا نرى في مثل هذه الملاحم صورةٍ لفرد واحد بل يندمج أشخاصٌ كثيرون مع أحداث عديدة في تفاعل وانسجام , ومن الأمثلة على النموذج الكلاسكي القديم للملحمة هو ( الإلياذة والأوديسا ) لــ( هوميروس ) إن هاتين الملحمتين هما من حيث الزمن أقدم أثرين ونموذجين لهذا النوع الأدبي .
لقد نشأ هذا الفن منذ زمن قديماً جداً منذ عهدٍ كان الوعي الإنساني ما يزال في بواكيره الأولى
………………………………………………………..
القيت المحاضرة بحضور عدد من مثقفي الكرد في الرقة , وتخللها عزف منفرد على البزق للعازف احمد دالي قدم خلالها مقطوعات موسيقية من الفلكلور الكردي مشيرا الى المقامات التي تعزف عليها اغلب الاغاني الفلكلورية الكردية.

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
خليل اوصمان قاص من كوباني كردي من مدينة كوباني