نوسوسيال

بقلم القاص خليل أوصمان : (( الشبح )) ليلتها سكنتْ

471

 

 الضوضاءُ قريتهم، فأغفت مرهقةً يلفها سوادٌ حالك. ففي الليل حينَ تخبو الاصواتُ وتتلاشى بيوتُ القريةِ في ظلامها، كلُ شيءٍ يصبح مريعاً، إنها لحظاتٌ فاصلةٌ لا يشعر بوطأتها إلا من عاشها. كما هي عادتهم في كل مساء، كان فتية القرية يتسامرون ويمضون ليالي الشتاء في ابتكار وسيلة للمرح واللهو، ليلتها اختاروا طريقةً جديدة هي أكثر إثارةً أسموها “تحدي الجن”، ويرسي مبدأ اللعبة على أن يقوم “المتحدي” بحمل وتدٍ ومطرقةٍ بمفرده، ويتوجه إلى المقبرة التي تقع خَلّفَ الربوة المطلة على القرية، وهناك يغرس الوتد بجانب ذلك السور (Qab)المحيط بأحد القبور القديمة ثم يعود أدراجه، بعد ذلك يذهب الجمع إلى المكان للتَأكدْ، ليتم منح المتحدي لقب “الفتى الشجاع”. قَبِلَ عنتر وهو أبن السابعة عشرة من عمره المغامرة. وأخذ يتوجه إلى هدفه تحت سماء غائر النجوم، وعلى أرضٍ رطبةٍ من أمطارٍ هطلت قبل مغيب ذلك اليوم، لاح عنتر كطيف ضئيل الجسد متشحٍ بالسواد، وهو يمضي إلى هدفه كما اللص المرعوب من كل ما حوله، ثم تراخى من مشيته قليلاً وهو يسترد أنفاسه قبل أن يَبلغ المقبرة. وفجأة سرت في نفسه رعشةٌ باردةٌ وهو يتذكر آخر مرة سار إلى هناك، كان ذلك في جنازة “يازا عمو”، وقتها انجلى له الموت عن حقيقته الرهيبة، ومخالبه المرعبة، واسلوبه الماكر في اقتناص أرواح الناس: مرة ينذرهم ويمهلهم، ومرة يأتيهم على حين غرة ودون سابق انذار . تناهى إلى المقبرة، وأخذ يتأمل المقام لحظات قصيرة.. إن قلبه ليخفقُ بشدة وهو يغرس الوتد في الأرض، ويسحقه بكل ما اوتي من قوة بينما يداه ترتعشان، ثم هب واقفاً ليعود أدراجه ولكن هيهات .. فهو لا يستطيع أن يمضي ويخطو من مكانه، فهناك من يشده الى الأرض وبقوة، اِنصدعَ في اذنيه امواج الخوف، واحس بالعرق يتحول الى ماءٍ بارد رغمَ صقيع الليل، أخذ يدير بصره بعيداً وهو يصرخ بأعلى صوته، ولكن الصوت يختنق ويأبى الخروج، يسمع فجأةً حركةً صدرت من ورائه، فانكبَ على وجهه، وجمد في مكانه، ولم يفلح في تهدئة أنفاسه المتسارعة المتهدجة، ولبث حيث هي ثوانٍ حسبها دهراً طويلاً، وفي ذات اللحظة أصبح محاصراً وعليه أن يواجه الشبح وحده. — صرخَ: “أهذا هو الموت إذن” ..؟ ومد الشبح يده وبأطراف اصابعه أغمض له عينيه، لينسل بخفة يبتلعه الظلمة الحالكة في طياتها .. وبعدها لم يرفع لعنتر رأسٌ قط. انتظر الجمع لأكثر من ساعة دون أي خبر عن عنتر، هبوا جميعاً بالتوجه إلى المقبرة، والتحق بهم آخرونَ من القرية، وهناك كانت الصدمةُ من هول الفاجعة، راح الصبية يتراجعون في صمتٍ رهيب وكأنهم قد شعروا بفضيحة غلطتهم، يتنصت الجميع لأصداء خطواتٍ تنتقل بخفة، إنها خطوات “الشيخ عفدي” الذي توقف قليلاً ثم عاد من جديد ينظر الى الجمع المحتشد امامه.. أحدهم يسأل الشيخ عفدي هامساً دون أن يسمعه أحد.. يهز الشيخ رأسه بالايجاب وهو يغوص في معطفه الطويل المهترئ، ثم هب الشيخ واقفاً بعد تفحصه لجسد عنتر، بينما يظهر الفزع في أعين الجميع والارتباك في حركاتهم، ويصرخ أحدهم بصوتٍ يخنقه البكاء : — اللعنةُ على اللعب والأشباح. ظل الشيخ ساهماً في مكانه وقد تجهم ملامحه وهو يراقب بناظريه في وجوه الباكين والناحبين، فلا يرى من تجعله المصيبة يفقد صوابه، ويصرخ من اعماقه لتستيقظ تلك النفوس الراكدة، وبحركةٍ بلهاء يرفع بصره باتجاه أحدهم وهو يقول بصوت خافت: — لقد قتل نفسه بيده. بينما الآخرون كانوا ينظرون إلى ميتهم نظرة خاصة، ربما هي نظرة البطولةِ، وربما نظرة إشفاق. “نعسو” البائس والمفجوع برحيل أم عنتر قبل عام. ها هو يفقد فلذة كبده، كان يخفي دموعه التي تغالب اجفانه، وحسراته على كل شيء وهو يسير مع هذا القطيع الجرار الذي يسيل وراء نعش ابنه، كان نعسو على يقين بأنه إذا ما انفض الموكب عائدون كلٌ إلى زاويته يبحث عن مصيبة أخرى كي يبكيها، أو مهزلةً أخرى كي يضحك منها، فكلهم يكذبون! لقد نبتت في قلب نعسو ايمانٌ بشيءٍ ما لم يدركه، واثمرت لساعتها ثماراً سامة بعضها وسواس، وبعضها هواجس، وما تبقى عواطفٌ قلقة وهو يحاول جمع افكاره المبعثرة، ويهيم متطلعاً إلى آفاقٍ يائسةٍ، فكيف ترك ابنه الأحمق تصرعه دهشته وهو يتحدى الليل والاشباح . تذكر نعسو بأنه وفي تلك الليلة، كان هناك صوت يتناهى إليه، فيصله خافتاً عميقاً يعكر الصمت، ثم انساب قوياً كأنما يعلن عن حدوث فاجعة، بينما نامت أفكاره الهزيلة كلها في دهاليز رأسه ..! وحده مشهد عنتر وهو يرقد في ابديته يجره من قدميه، ويطوف به في تلك الخرائب المحيطة بقريته، وهو عائد من جديد إلى حيث يرقد ابنه، وقد توارى الجميع كلٌ إلى منزله. صرخ بصوتٍ مخنوق مخاطباً ابنه الذي وارى جثمانه الثرى، بينما هو ينظر إلى السماء: — كيف تغرز الوتد في طرف ثوبك يا عنتر، وتظنه شبحاً يشدك إليه ويخنقك … يا لك من غافلٍ مسكين.. لقد حطمت قلبي يا بني. ثم عاد مرة أخرى إلى وعيه وهو يهمس مع روحه: — إنها خرافة، كيف أطلب من الأموات أن يكونوا أحياء، لو أن الحياة تدب مرةً أخرى في هذا الحطام المسمى قبوراً .. ولكن ! لبث نعسو هناك ساعةٍ وربما أكثر، ليعود ويجد نفسه في حجرته الصغيرة الخاوية من كل شيء حتى من الدفء، ومع أطفاله الصغار، وهو يسند ظهره المتعب إلى الجدار الخشن ويرنو بحزن إلى أفول الليل، بينما الجوع يتمادى في احشائه، حتى ليكاد يمزقها، يصرخ، يتملل وهو لا يدري هول ما يجري . لحظاتٌ تمضي، تتملكه قشعريرةٌ أشد حدة، ثم يفتح عينيه بشدة يحاول أن يرى نفسه؛ ولكن ذراعين رقيقتين فتحتا له، وهما يضمانه بكل حنان ويقطعان الصقيع والفجر، يتراءى له وجه عنتر مبتسماً وهو يضمه، ثم يتلاشى كل شيء من جديد . …………………………………………………………

خليل أوصمان كاتب كردي من شمال شرق سوريا مدينة كوباني

Khalil