نوسوسيال

القاهرة – بقلم الد كتور عادل القليعي : ابن رشد وواقعنا المعاصر

396

 

القاهرة اد عادل القليعي أستاذ الفلسفة الإسلامية آداب حلوان.

 

 

نحن بحاجة إلى فلسفة وفكر ابن رشد؟!، وإذا كان ذلك كذلك، فما حاجتنا إلى فكره؟!سؤال مهم يطرح نفسه كل كل ذي عقل وبصيرة، على كل ذي علم وعمل، على كل ذي علم وإيمان.
نعم نحن بحاجة وفي أمس الحاجة إلى عقلاء حكماء، يجتهدون قدر استطاعاتهم للوصول إلى حلول جذرية قاطعة لمشكلاتنا التي سواء على المستوى المحلي، أو الإقليمي أو حتى الدولي بما أن العالم بات قرية واحدة لا تفصل بين دوله إلا الحدود الجغرافية، وحتى هذه تذوب وتنصهر بانصهار أهله وذوبانهم في بعضهم البعض عن طريق عقول تفكر، عقول تحاول لملمة شمله وحلحلة الفرقة والافتراق، عقول تكون مهمتها الرئيسة الإهتمام بالإنسان الذي هو حجر الزاوية ورأس المعادلة الكونية، فلا يستقيم كون دون استقامة أهله، ومن ثم بات ضروريا بل وملحا أن يكون هناك مفكرون أمثال ابن رشد، وغيره من الفلاسفة، سواء المشارقة أمثال الكندي، والفارابي وابن سينا والتوحيدي ومسكويه والغزالي، ومغاربة أمثال ابن مسرة والبطليوسي وابن باجه وابن طفيل وابن رشد، وابن خلدون.
نعم معين الأمة ووعائها الفكري لا ولن ينضب حتى بعد وفاة ابن رشد، رأينا في العصر الحديث، الطهطاوي، ومحمد عبده، والكواكبي والأفغاني، ومحمد رشيد رضا والكواكبي ، واسماعيل مظهر وقاسم أمين، حتى في واقعنا المعاصر وجدنا طه حسين، وأمين الخولي وزكي نجيب محمود، وأحمد أمين ، وعابد الجابري، ومحمود العالم، وحسن حنفي ونصر أبو زيد، وعاطف العراقي ومحمد أبوسعدة، وغير هؤلاء كثير، وجميعهم اجتهدوا قدر استطاعتهم ولهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فالعقلاء إذا اجتهدوا واصابوا لهم أجر اجتهادهم واصابتهم وإذا أخطأوا لهم أجر اجتهادهم، فجميعهم مساعيهم محمودة بل ومؤلفاتهم أثرت حياتنا الفكرية والثقافية.
لكن وما بعد لكن طريقنا طويل لم نصل إلى بغيتنا، لم نصل إلى المرقى المنشود، لم نحقق المعادلة الكونية لم نصل بالإنسان إلى مكانته التي يستحقها لم نحقق له التكريم اللازم، ومن ثم بات الأمر ملحا أن نستعيد قراءة فكر هؤلاء جيدا ونخرج هذا الفكر من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل، أقصد أن نخرج بدراساتنا لهؤلاء عن التقليدية الكلاسيكية التى لا تتناسب مع عصر الرقمنة والمعلوماتية التي سيطرت على كل شيئ وهيمنت حتى على العقول، أن ننطلق من فكر هؤلاء مفكرين خارج الصندوق، لا نريد تفكيرا مركزيا وإنما تفكيرا مركزا، لا تفكيرا ودراسة من أجل التفكير والدراسة، لا نريد أن نكون كالدوائر متحدة المركز، بمعنى نريد الخروج من المركزية النمطية التقليدية إلى اللامركزية، أزيد الأمر وضوحا، كلنا يسمع عن فلسفة ابن رشد وعن فكره، القاصي والداني، المتخصص وغير المتخصص، قرأ عن ابن رشد، لكن هل استفدنا حقا من هذا الفكر العقلاني الذي يخاطب العقول والقلوب في آن واحد، أم درسناه ودرسناه لتلاميذنا من أجل الدراسة وأن ثم فيلسوف مسلم يسمى ابن رشد!.
أطرحوا على عقولكم هذا السؤال، هل حقا استفدنا في واقعنا المعاصر من فكر رائد الإتجاه العقلاني في العالم العربي والإسلامي، وإن جاز لي القول رائد الإتجاه العقلاني في العالم بأسره الإسلامي وغير الإسلامي، ودليلي على ذلك مؤلفات ابن رشد التي ظلت تدرس في الغرب الأوروبي حتى قرب نهاية ما يسمى بالعصر الحديث، أنظروا إلى كتابه الكليات، أنظروا إلى شروحاته على أرسطو، تدبروا أثره في الفيلسوف المسيحي توما الإكويني، واسبينوزا، وحتى لو عقدنا مقارنة بين عقلانيته وعقلانية ديكارت وكانط، سنجد روابط فكربة عقلية تجمعهم.
تعرض أبو الوليد بن رشد للإضطهاد من قبل علماء الدين الذين ألبوا عليه الخليفة أبي يعقوب، واتهم بالكفر والزندقة وأنه أحدث بدعا في الدين، وأحرقت كتبه وتعرض للعزل من وظيفته والنفي إلى مدينة أليسانة، كل ذلك لماذا؟!، لأنه صدح لم يقدمه له عقله، لأنهم آمن أن الإصلاح والتقدم والمواكبة لا تكون إلا عن طريق العقل فأتى بآراء جريئة لم تتفهمها العقول التى تشبعت تبعية كلاسيكية التي لم تعطي نفسها فرصة للتفكير العقلاني الموضوعي، في القضايا التي كانت مطروحة آنذاك، كالتوفيق بين الفلسفة والدين وبدلا من مناقشته نكل به وأحرقت كتبه، ليس له ذنب إلا أن قال النظر في علوم الأوائل مباح بالشرع، وما الضير في ذلك، أليس الفكر سلسلة متصلة الحلقات، ما للضرر من قوله أن الحق لا يضاد الحق بل يشهد له ويؤيده، لا هذا كفر وزندقة، دراسة الفلسفة كفر وإلحاد، وما أشبه اليوم بالأمس ونحن أبناء القرن الحادي والعشرين، إذا ما تناولنا قضية فلسفية وأعملنا فيها عقولنا، تصب علينا اللعنات من حدب وصوب من متهم لنا بالكفر، أو من يتهمنا بالجنون والشذوذ الفكري، لماذا هذه الافتراءات وهذه الفريات، ألم يأمرنا الله تعالى بإعمال عقولنا، فاعتبروا يا أولي الألباب، من هم أولوا الألباب، هم أصحاب العقول التى تفكر، هل المقصود بالتفكير هنا التفكير في الفضائل الشرعية فقط، إذا كنتم ترون ذلك فإن تفكيركم محدود، وأحادي الجانب، ولم ولن نتقدم قيد أنملة، ليس التفكير مقصور على جانب بعينه فالتفكير يشمل كل شيئ، فرب أمر تفكر فيه، فرب مشكاة تفكر فيها فتجد لها حلولا ناجعة تنقلنا من حال إلي حال، التفكير الحقيقي هو الذي لا يحتقر شيئا مهما بلغ من ضآلة الشأن مبلغ الطين والشعر، قد يظنه البعض هينا وهو في حقيقة أمره عظيم.
أليست فلسفة وفكر ابن رشد معين لا ينضب، انظروا معي إلي حالنا الآن واستحضروا تقسيم ابن رشد لمراتب ودرجات الناس في المعرفة، الخطابيون، الجدليون، البرهانيون.
هل يحق للخطابيون أقصد جمهور الناس الخوض في قضايا شرعية خطيرة، الفتوي فيها قد تقود إلى التيه والضلال، هذا ما قصده ابن رشد لم يرد للعوام الخوض في مسائل فقهية خطيرة، أليس هذا حادث الآن، الجميع أصبح يفتي بغير علم، للجميع متصدر للدعوة، أصبحت فوضوى الفتوى والدعوة على أشدها، على الرغم أنها لها ضوابط ولها مؤسساتها الشرعية المنضبطة، لا الكل يقف ويتصدر المشهد في الشوارع، على المقاهي الكل نصب نفسه فقيها.
ثم الجدليون وهم كثر الآن، وهذا الجدال الهدام، تضليل للعقول مثله مثل الجدل السفسطائي الهدام الضآل المضل، والذي نهى عنه النبي صل الله عليه وسلم، اتركوا مجالس الجدال ولو كنتم على حق، وقالها الله (وكان الإنسان أكثر شيئ جدلا)، لا الكل يقف مجادلا قضايا سياسية، قضايا دينية، قضايا ثقافية، إقتصادية،عسكرية، حتى كروية، الكل بات مجادلا ومحللا، وتلك هي الملهاة العبثية التى لا تنتج إلا كدرا ونكدا وضيقا وبدلا من إعمال العقول النيرة وإعطائها فرصة للتفكير السليم، نصيبها باليأس والإحباط.
والمرتبة والصنف الثالث البرهانيون، أهل البرهان الذي يحتكمون إلى عقولهم معتمدين على علومهم وعلى مقدماتهم التى من خلالها يستنتجون النتائج الصائبة التي تفيد واقعنا بقضاياه، كل في مجاله الساسة في مجالهم، الإقتصاديون، العسكريون، الثقافيون، علماء التربية وخبراء التعليم، كل ينظر ويبدع قدر استطاعته عقلا حتى نجد مخرج من هذه الأزمات التي تلاحقنا الواحدة تلو الأخرى.
ثم عندما يحدثنا ابن رشد عن التأويل وقوانين التأويل، هل أخطأ عندما أسس قوانيه على العقل، ألسنا في حاجة ملحة إلى تأويل عقلاني يتناسب مع واقعنا أو ما يسمى فقه الواقع، فقه الضرورة، هكذا يكون التفكير، نمد أيدينا إلى مؤلفات هذا الفيلسوف أوحد زمانه، لنستخرج منها كنوزا مكنونة تثري واقعنا.
نعم ما أحوجنا إلى تفكير عقلاني ننظم من خلاله مدينتنا التى نحلم بها، ليس مدينتنا وحسب بل وعالمنا الذي نحياه جميعا، ما أحوجنا إلى العقلاء النبلاء أصحاب العقول النيرة المستنيرة.
سيداتي وسادتى هل علمت لم ابن رشد الآن؟!
فكر هؤلاء سيظل منهالا ومرتعا خصبا تتوارثه كل الأجيال القادمة، المهم كيف نوظفه لخدمة واقعنا، فلكل عصر متطلباته، ولكل عصر مستجداته، فكما أن فكر ابن رشد بعقلانيته صالحا لوقتنا المعاصر، سيستمر معين لا ينضب لما هو آت بعدنا، وسيذكر التاريخ مقولتي هذه
الفكر سلسلة متصلة الحلقات لا تنفصل حلقاته وإلا سيحدث هوة فكرية لا يمكن رأب صدعها.