إذا كان الليل واحدًا من جهة الزمن ومواعيد القدوم إلا أنه لكلٍ ليلهُ، فاللـه ـ جل في علاه ـ له ليله، وفيه نزوله ـ جل جلاله ـ كما أخبرنا النبي الكريم ــ صلى اللـه عليه وسلم ـ نزول رحمة يغفر للمستغفرين ويتوب على التوابين والأوابين .
وكان للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليله المليء بالصلاة والتهجد حتى تتورّم قدماه، حتى إن أم المؤمنين عائشة كانت تشفق عليه وتقول: ألم يغفر لك اللـه ماتقدم من ذنبك وماتأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟وهنا يشير النبي إلى ملمح فلسفي كبير، فلم يقل “نبيًا أو رسولًا” شكورا وإنما قال “عبدًا”، وهنا يتحقق مقام العبودية والأُلوهية.. الناسوت واللاهوت، فما ثم إلا عبد ورب، وفي الأثر، أن النبي الكريم كان يتأمل صفحة السماء ليلًا ويقلب وجهه فيها ويقول: “اللهم زدني فيك تحيّرا”.
ولنا أن نتأمل مااختص به المولى ـ سبحانه ـ نبيه الكريم دون كل الخلائق بخطاب هو الفريد من نوعه بين الخالق ومخلوقه المصطفى، وإن شئت هو خطاب الحب ودلال المحبوب الذي ينادي حبيبه بألقاب موقوفة عليه لاتقال لغيره، ليتحقق الأنس واللذة الروحية، وذلك في سورة “المُزَّمِّلِ “: ياأيها المزملُ* قم الليلَ إلا قليلا *نِصفهُ أوانقص منه قليلًا*أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلًا “، وتلك حالة لايطيقها بشرعادي.
والمزمّل هو الملتف في الثياب المتأهِّب للصلاة، كما في تفسير الإمام الطبري وغيره من المفسرين، وفي لطائف الصوفية معنى جميل يقول: المتزمل الملتف بالنبوة المتدثر بالرسالة، وهو معنى إشراقي، ليكمل الدلال والجمال من الرب ــ المحبوب ــ والطاعة الجميلة من العبد ــ المحب ــ وماثم إلا عبد ورب، وليس هناك أعظم ولا أجمل ولا أجل ولا أروع من أن يناديك رب العزة بشخصك للقائه ويكون الليل بينك وبينه ـ سبحانه ـ بينما الخلائق في ليلهم نائمون أو لاهون، وذلك سر إيجاد الوجود. يقول رب العزة في حديث قدسي: كنت خفاء وأردت أن أُعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني.
أي إننا عرفنا اللـه باللـه، وقد وعاها الصديق أبوبكر ــ رضي اللـه عنه ــ فقال: “عرفت ربي بربي”.ومن أدب الصوفية أن يقولواعن شيوخهم “العارف باللـه”، أي أن اللـه ـ سبحانه ـ عَرَّفه به وبغير اللـه ماعرفه مخلوق.
ويقول النيسابوري في أسباب نزول الآية التاسعة من سورة الزمر: “أَمَّن هُو قانتٌ أَنآء الليلِ ساجدًا وقائمًا يحذرُ الآخرة ويرجوا رحمة رَبِّهِ”،إنها نزلت في أبي بكروقيل في عثمان بن عفان،وقيل عمار بن ياسر وكانوا ــ رضوان اللـه عليهم ــ من أهل الليل.
وها هو أمير المؤمنين عمربن الخطاب ــ رضي اللـه عنه ـ كان ليله عسًا في شوارع المدينة ليقف على مشاكل الرعية وحفظ الأمن بينهم، وما أروعها من عبادة أن تحفظ أرواح الخلائق لينعموا بحياة آمنه هانئة، حتى لو كان مقابل ذلك تعبك وإرهاقك الشديد، ولكنه عُمرــ رضي الله عنه ــ الذي أتعب الحكام من بعده حتى وقتنا هذا.
فكلما ذكرنا العدل والعدالة وتكوين مؤسسات الدولة، ووضع أطر التعاملات الحياتية بين الناس ــ مسلمين وغيرهم يعيشون بينهم ــ ذكرنا عمر ــ رضي اللـه عنه ــ ومن المحزن أن يُقتل هذا الجبل الأشم في نهاية الليل وبزوغ الفجر وهو في محراب الصلاة، وكانت إضاءة المساجد بدائية بسيطة يبدو فيها الناس مثل أشباح، فوقف خلفه في الصلاة أبو لؤلؤة المجوسي، وطعنه بجنجر صنعه لهذا الغرض اللعين، ومن المقيت أن يحتفل “الشيعة”بهذه المناسبة الفاسدة المعتقد، وإقامة ضريح فاخر فاجر لقاتل أمير المؤمنين الذي قال قولةً خالدة بعد معرفة طاعنة “الحمدللـه أنه لم يسجد للـه سجدة يحاجني بها يوم القيامة”.
بزعمهم الفاسد، أنه وقبله أبا بكر، خليفة رسول اللـه ـ صلى اللـه عليه وسلم ــ قد اغتصبا الخلافة من الإمام الشهيد علي بن أبى طالب، رغم أن للإمام عليٍّ كرَّم اللـه وجهه ــ أولادًا بأسماء عمر وأبي بكرمن غير فاطمة ــ رضي اللـه عنهاـ فقد انتقلت إلى الرفيق الأعلى لتلحق برسول اللـه بعد عدة أشهرمن وفاته، وهي ابنة ثمانٍ وعشرين سنة فقط، ولهم أضرحة معلومة بالعراق وسطّرا بطولات جهادية في الإسلام.
ومن حوادث الليل الدامية، أن قُتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ــ رضي اللـه عنه ــ ليلًاوهو في محراب بيته يقرأ القرآن حين وثب عليه القتلة بعد أن تسوّروا سطح داره، وقد عطّر دمه الطيب المصحف الشريف،ومازالت آثاردمه على “مصحف عثمان” في غرفة الآثار النبوية بالمسجد الحسيني بالقاهرة المحروسة .
وهاهو الليل يكمل المشهد الدامي بمقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في سنة 40هـ 660 م، حين تربّص له ابن ملجم المرادي وكان من الخوارج. يصف أبو حنيفة الدّينوري، صاحب كتاب الأخبار الطوال، المشهد قائلًا: فلما كانت تلك الليلة تقلد ابن ملجم سيفه وكان قد نقعه في السم وقعد مغلسًا ــ ظلمة آخر الليل التي قبيل الفجر ــ ينتظر أن يمربه علي ــ رضى اللـه عنه ــ مقبلًا إلى المسجد فبينما هو كذلك إذ أقبل الإمام عليّ، وهو ينادي “الصلاة أيها الناس” فقام إليه ابن ملجم فضربه بالسيف على رأسه.
ومن الآيات الواردة في فضائل الإمام علي ـ رضي اللـه عنه ــ ماتعارف على تسميته “ليلة المبيت”، وهي الليلة التي بات فيها الشاب عليٌّ بن أبي طالب في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة ليضلل كفار قريش الذين جمعوا أربعين شابًا بسيوفهم أمام دار النبي ــ صلى اللـه عليه وسلم ــ ليقتلوه فيتفرق دمه بين القبائل.
وكان النبي الكريم قد أخبره بالأمر وأنه سبحانه أمر بذلك، أي يبيت عليٌّ في فراشه فتبسم كرّم اللـه وجهه وسجد شكرًا للـه. ويقال إنها أول سجدة شُكِر في الإسلام. وقد ذكرت ليلة المبيت في عدد هائل من المصادر التاريخية والتفسيرية والخبرية منها؛ “أُسْد الغابة في معرفة الصحابة”لابن الأثير وتاريخ الطبري،والمستدرك للنيسابوري وتاريخ اليعقوبي وتاريخ البغدادي.
وقد أقسم ربنا في سورة التكوير وهي تحوي الكثير من علامات الساعة بالليل “والليل إذا عسعس *والصبح اذا تنفس”، وقال مفسرون إن معنى عسعس أي أدبر، ليأتي النهار. وقال البعض بعكس ذلك، أي انتشر ونشر خيمته على الكون وجاء من هذا المعنى العس ليلًا، كما كان يفعل أمير المؤمنين عمر.وقبل ذلك يقول الشاعر العربي الجاهلي علقمة بن قرط التيمي:
حتىَّ إذا الصّبح لها تنفَّسا :: وانجاب عنها ليلُها وعَسعساوقد جعل اللـه الليل لباسًا والنهار معاشًا، واللباس هو السكينة والهدوء والتفكر والتدبر والعشق بكل ألوانه للذات الإلهية وللبشر والوطن انظر إلى قول الرسول الكريم: “عينان لاتمسهما النار عين بكت من خشية اللـه، وعين باتت تحرس في سبيل اللـه”،ـ والمبيت “لايكون إلا ليلًا.ومن صفات الليل أيضًا أنه “كافر” أي ساتر يستر كل شيء بظلامه ؛ الفاجر في فجوره والمجاهد في جهاده، ألا ترى أن عمليات حرب الاستنزاف بين الجيش المصري والعدو الصهيوني في عامي 67 ــ 1968م، كانت تنفذ ليلًا ؟ وكذا السارق في سرقته والعابد في مواجيده وأسراره، مع خالقه يقول عمر بن الفارض سلطان العاشقين يشكو طول الليل وافتقاد الحبيب بل يحسد الليل أن قمره وهو بدر مكتمل بالبهاء والضياء حاضر معه، ويتمنى أن يكون بدره معشوقه حاضرًا:
ياليل مَاَلَكَ آخرُ :: يُرجى ولا للشوق آخر
ياليل طُل ياشوقُ دم:: إنِّي على الحالين صابر
لي فيك أجر مجاهد:: إن صح أن الليل كافر
يَهنِيك بدرُك حاضر:: ياليت بَدْرى كان حاضرا
والليل عند الصوفي الكبير شمس تبريزي ــ أستاذ وشيخ جلال الدين الرومي ــ طعم آخر ودلالة صوفية بالغة الروعة في التربية الصوفية يقول: ” لكل ليل قمر حتى ذلك الليل الذي بأعماقك “.
ومن ألطف أغاني الليل ما لحّنه وتغنّى به فنان العرب “وديع الصافي”، وكلمات الأغنية شديدة العذوبة منسوبة للمفكر المصري الدكتور مصطفى محمود، صاحب كتاب “حوار مع صديقي الملحد”، وكتاب “اللـه والإنسان”، الذي اتهم فيه بالكفر والإلحاد رغم عدم معرفتنا به كشاعر،مما يؤكد لنا أن شاعرها مجهول أو كما يقول البعض إن شاعرها هو قيس بن الملوح مجنون ليلى، وذلك أقرب إلى الصواب تقول كلمات الأغنية:
الليل ياليلى يعاتبني:: ويقول لي سلّم على ليلى
فالحب لا تحلو نسائمه:: إلا إذا غنّى الهوى ليلى
دروب الحى تسألني:: ترى هل سافرت ليلى
وطيب الشوق يحملني :: إلى عينيك ياليلى
وتقول العامة: “الليل ستوري”، ويقولون للفرح والحزن: ليلة فلان يقصدون العزاء للميت، والليلة ليلتك أي عُرسك وفرحك. بل يدخل الليل في الأسماء مثل جابر أبو الليل، ومثال أبو الليل محمود وهكذاولم أصادف من في اسمه “نهار”.
ولأهل الليل فيه شئون، فعظيم مناجاة أولياء اللـه ورجالات الصوفية وإلهاماتهم وشطحاتهم وخروجهم عن مألوف الخلائق وخرق العوائدلايكون إلا ليلًا. والشعراء ليلهم استدعاء لمعاني الشعر وفيوضاته واستقبال شياطينه، كما قالت العرب قديمًا: إن للعبقرية شياطين ملهمة في مكان يسمى وادي عبقر، فهم في استقبال دائم لهذه الإلهامات، وكذا كل صاحب فن وإبداع مثل الرسامين والشعراء وعموم المبدعين وغيرهم.بل إن هناك سلاحًا في الجيوش لاينفذ مهامه إلا ليلًا رغم عملهم في ماء البحار والمحيطات وهم “الضفادع البشرية”.
ومن الطرائف أن هناك طيورًا لاتظهر إلا ليلًا، ذكرها الإمام السيوطي في كتابه “الكنز المدفون والفلك المشحون”، يقول:طيور الليل الذين لايخرجون في النهار أصلًا، أنواع البوم والهامة والصدى، وهو ذَكَر الهامة والضوع، وهو ذَكر البومة والخفاش وغراب الليل.
وعلى الشاطئ الآخر، ترى قطّاع الطرق وتجار المخدرات واللصوص والصعاليك قديمًا، وذئاب ومطاريد الجبال من البشر، وأصحاب تلك الآفات وغيرها من الرذائل جُلَّ تخطيطهم وتنفيذ أعمالهم ليلًا. وقد عرفت الجزيرة العربية قبل الإسلام ظاهرة الصعاليك، وهم أولئك المشاغبون المُغيرون، أبناء الليل الذين يسهرون لياليهم في النهب والسلب والإغارة، وكان يطلق عليهم اسم “ذؤبان العرب” لأنهم كالذئاب لايظهرون إلا ليلًا.يقول الشاعرالصعلوك عمرو بن براقة الهمداني:
وكيف ينام الليل من جلُّ ماله :: حسامٌ كلون الملح أبيضُ صارمُ
ألم تعلمي أن الصعاليك نومهم :: قليلُ إِذا نام الخليُّ المسالمُ
وقد غربت أقمار اللهو والمجون عندما جاء الإسلام بنوره، ولكن أول من أعاد بعثها من مرقدها وعُرِفوا بلهوالليل الماجن، خلفاء بنى أمية، حتى إن جماعة منهم كانوا يتجرّدون من ملابسهم أمام الندماء دون حياء، وقد ذكرهم الجاحظ في كتابه “التاج” والمعتزلي في “شرح نهج البلاغة”، وهشام الكلبي في كتابه “مثالب العرب”، وقال إسحاق بن مروان الموصلي عن فساد لهو هم: أما معاوية ومروان بن عبد الملك والوليد وسليمان وهشام ومروان بن محمـد، فكانت بينهم وبين الندماء ستارة، وكان لايظهر أحد من الندماء على مايفعله الخليفة إذا طرب للمغنى حتى ينقلب ويمشّي ويحرك كتفيه ويرقص، ويتجرد حيث لايراه إلا خواص جواريه، إلا أنه كان إذا ارتفع من خلف الستارة صوت أو نعير أو رقص أو حركة بزفير تجاوز المقدار، قال صاحب ــ أي حارس ــ الستارة : حسبك ياجارية كفى، يوهم الندماء أن الفاعل لذلك بعض الجواري.
فأما الباقون من خلفاء بني أمية، فلم يكونوا يتحاشون أن يرقصوا أو يتجرّدوا ويحضروا عراة بحضرة الندماء والمغنّين، وعلى ذلك لم يكن أحد منهم في مثل حال يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد في المجون والرفث بحضرة الندماء والتجرد ما يباليان ماصنعا.والحقيقة التاريخية تقول:إنه بانتهاء عصر الخلفاء الراشدين الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وبدأ عصر الدولة الأموية ودعت حياة الخلفاء الزهد وانغمسوا في الملذات والشهوات، واستبدلوا القصور الفخمة بالبيوت البسيطة، وتركوا قيام الليل للـه تعالى، وأحيوا الليل بضرب الدفوف والرقص والترف والغواني والإماء وأنواع الخمور وأزحم البلاط بالشعراء والمداحين، وكانت خزائن بيت مال المسلمين هي المعين الذي لاينضب في الإغداق على جلسات اللهووالمجون. وفي المقابل يكدح الرعية لتوفير الزكاة والجباية والمكوس ليتصرف فيها الخليفة كما يشاء، بينما يمارس العامة بهجتهم في الفرجة على القرادين والحواة والاستماع للقصاصين الذين يحفظون السير الشعبية.
وللعباسيين من فنون اللهو الماجن ليلًا مايشيب لهوله الغراب، وفي الأندلس تحوّل الليل إلى ماخور لانظير له، وغيرها للأسف الشديد من بلاد الإسلام، ولكن من بدأها وله “ذنب” السبق خلفاء بني أمية، رغم قربهم الزمني من عصر النبوة.
وفي عصرنا الحديث من الشوارع التي اشتهرت باللهو ليلًا في مصر المحروسة شارع الهرم، وفيه ملهى اسمه “كازينو الليل” ومن الطرائف غير اللطيفة؛ أن أحد شيوخ العلماء المتصوفة المصريين كان في بلد عربي يُعد رمزًا إسلاميًا، وتطاول عليه أحد شبابهم وعيّره بشارع الهرم، فأفحمه الشيخ قائلًا: نعم ياولدي لدينا هذا الشارع ولكن أنتم روّاده وعُمّاره ولولا أموالكم الكثيرة ماكان.
********