نوسوسيال

بقلم القاص خليل أوصمان : {{ رشقاتٌ فشظايا }}

351

 

قصة قصيرة يحتوي الظلام هذه البلدة الأوربية ويتسلل إليها كعنكبوت أسود في حين يسفر سكانها في الخفاء عن وجوههم التي تشبه قطعة من أمتعة رثة. بدأت تلوح في عيني (نوحو) بارقة دموع. كل شيء هنا يوحي بالتوغل في التاريخ، لكنه وفي حضرة الليل وككل ليل له مع الضجر حكايات وآهات منذ أن أصبح يتيماً في هذا المنفى الاختياري كملعقة عسل فوق صحن لبنٍ حامض. رحلته الصباحية المعتادة على دراجته لقتل الوقت لم تعد تستهويه كما كانت: تكاسل في النهار وقلق وأرق في الليل. ولكنه يشعر الآن برغبة في الخروج من بيته الذي يعيش في جنباته، والشبيه بذلك الكوخ، الذي رسمه في صباه وافتخر وقتها بمزجه للألوان أمام إحدى الفتيات الرشيقات، ممن توافدن للعمل في خمارات تلك المدينة الفراتية التي عشقها وأمضى جل سنوات شبابه فيها. الصمت الليلي الرهيب هو لغة القبور لا لغة من يتحرك فوق الأديم، وهذه معضلة أخرى يعاني منها نوحو هنا في تغريبته. وفجأة تجره قدماه إلى الشارع ليسير دونما اتجاه، يجتاز ذلك الجسر الحجري العتيق الذي يتلوى النهر تحته ضحلاً ضارباً إلى السواد، وعلى حافتيه غابات من أشجار لا مثمرة، ونباتات تلقي بظلالها المتشابكة على صفحة الماء. فصفاء السماء والقمر-البدر يجعل لكل شيء ظلالاً. في داخله أكثر من شخص يتكلم، يحاول الإستماع إليهم ولكنه يفشل في التركيز فلا يستطيع أن يميز الأصوات. يبدأ الألم بتلف اعصابه رويداً رويداً كالجزار حينما يقطع رقبة الشاة وهي لا تملك إلا أن تنزف. يمضي الوقت بطيئاً، الساعة ما بعد منتصف الليل وإمتداد الشارع الموغل في الوحشة يؤدي إلى المجهول. استدرك في ذهنه شيئاً ما وفي لحظة ضعف بشري وبصوت يمزقه الحزن يهمس: — لو كنت مدمناً على الخمر و النساء لاسترحت قسطاً من الوقت. يسرح بخواطره بعيداً وفي اعماقه مصائب لا حدود لها، منذ أن غابت الدنيا عن عينيه وهجرت اعقاب السجائر مقاهي مدينته وغادرها وهو يركض كالثور المجهد من آثار الزمن . لم يتمكن من نسيان ذلك الجحيم وتلك الغصة التي صعدت من جسده واستقرت في حلقه، وقتها جف ريقه واسودت الدنيا في وجهه. يعود إلى رشده ويرمق الساعة المربوطة على معصمه للحظة، وهو يزحف لاهثاً بخطوات لا تخلو من الإرتباك ويحس بضآلته إزاء هذا العالم الكبير، يغيب في جوف الليل وقد فقد الشعور بالزمان والمكان، يضطرب تنفسه، يشعر بانقباض فظيع يكاد يخنق صدره بينما يعلو في أذنيه نداء غريب يشده إلى الأمام. يأخذ النداء بالتصاعد ويتحول إلى هدير جبار يبعث في الأوصال رعشة غير محددة المعنى ويلوح له الخلق ينبعثون من الظلام ويحيطون به لا يبرحونه حتى مطلع الفجر. تترسب في أعماق الخلق آلام مؤسية. لكنهم أغبياء فهم لا يدركون بأن بركاناً من الشوق والعواطف يتفجر في قلبه العليل ولن يخمده سوى شيء وحيد: أن توهبه الطبيعة في تلك اللحظات جناحين يصعد بهما إلى عنان السماء ويهبط في مسقط رأسه – قريته القابعة في عالم من النسيان. ولكن ويا للعجب! هذا ما يحصل معه فها هو يهبط هناك ولكن أهل قريته يخرجون من بيوتهم المتناثرة، يتكالبون عليه، تتلاطم كلماتهم، وتضرب أقدامهم الأرض كالحديد، أبدانهم متراصة، بدن يزاحم الآخر، يلتصق اللحم باللحم بينما في رأس نوحو بركان متأزم يكاد ينفجر. يهرب منهم ويصعد تلة القرية ويصرخ بصوت عال يصل صداه إلى القرى المجاورة. يتكاثرون ويتهافتون عليه ليمرغ نفسه بالتراب. كيف يشرح لهؤلاء المغضوبين بأن عروسه صماء بكماء. فلقد أكتشف ذلك الآن وفي أول لحظة دخل عليها وأزال الاكليل عن وجهها. حادثها فلم ترد عليه ولم تتفوه بكلمة. لطم وجهه وفر من الغرفة مصدوماً. لقد غدروا به وخانوه حينما زوجوه تلك المعتوهة بينما جعلوه يشرب القهوة من يد فتاة أخرى وأوهموه بأنها هي عروسه وهو ذا يعبر عن فضيحته والعار الذي لحق به. بعد ثلاثة أيام من الكابوس الفظيع يجلب والد العروسة، حافلة عملاقة أطول وأعمق من فجيعته، يعفش كل ما في البيت ويصعد الحافلة مع ابنته وعاهتها وأشيائها التي لم تفرح بها. أما بقية البشر فيخرجون أسلحتهم القذرة ويبدأون بإطلاق النار على بعضهم البعض ليضطر نوحو إلى الفرار مهزوماً محطم القلب ويجد نفسه هنا حيث هذه البلاد الغارقة في الصمت والضجر، حيث هذا الطريق المتشظي به واللامنتهي. عبثاً يحاول قمع هذه الأخيلة المتشائمة. هي مجرد أوهام، أوهام تافهة لا قيمة ولا وزن لها، لكنها تعاوده كلما تخلى عنه النوم. بدأ يتساءل في نفسه: ماذا جنت أزهار بلدي حتى قطفت، ما أحلاها فيما لو بقيت مع شجرتها وأترابها ترقصن وتتمايلن وهن متعانقات تحت شمس الغروب. ولكنها أنانية البشر وطغيانهم: أرادوا أن تعم الفجيعة ويستبد الحزن بكل الناس وكل المخلوقات. يا له من سؤال أعشى يبحث عن جواب مفقود! عاد إلى بيته وبقي مستيقظاً، جر قدميه بصعوبة خلفه صوب المرآة المعلقة على الجدار وأرخى العنان لهلوساته ولسان حاله يقول: — هاهي عشر سنين من الحزن تمر سوداءً عجافاً دون ربيع، سنابل تخلو من القمح في حقل مترامي الأطراف من الأحزان، تطل هذه السنون على وجهي المتآكل من الأرق، سنون هي سمة حزن مظلمة هشة لا أكثر . ويستعيد شيئاً من نفسه ليقول صامتاً: — ولكننا نحن المبعدون هنا سنرجع للوطن رغم أغلال المنافي والجبال، سنرجع كالشمس عندما تسخر من الغيوم والضباب