نوسوسيال

بقلم/ بابكر عيسى أحمد: ثلاثة شعراء محور قصائدهم الحرية

841

الفيتوري ومحجوب شريف وهاشم صديق أثروا الساحة بإبداعاتهم

 

كثيرون هم من تغنّوا للحرية والسلام والعدالة في مُختلف بقاع المعمورة وبكل لغات الأرض باعتبار هذا الثالوث المُقدّس مثّل توق البشرية أن تنعم بحياة ملؤها الأمن والاستقرار والسعادة.. الذين تغنوا للحرية حتى تحققت هم فرسان هذا الزمن وكل الأزمنة.. والحمد لله أننا عشنا زمنًا عاصرنا فيه بعض هؤلاء المُبدعين من مُختلف الجنسيات وأشعلوا في داخلنا التوق للانعتاق من أسر العبودية والاستلاب.

قرّرت هذا الأسبوع أن أبتعد عن السياسة ومرارتها وأن أختار في حلقة أولى عددًا من الشعراء الذين عايشتهم والذين امتلأت رئتانا بعبير كلماتهم ورحيق معانيهم النبيلة وهم يُغنون للأرض والإنسان والحرية، هؤلاء المُبدعون حفروا أسماءهم بأحرف من نور في دواخلنا وأصبحوا أهزوجة نتغنى بها في الصباح والمساء ونقاوم من خلالها لحظات اليأس والانكسار والهزيمة والإحباط.

لأن الوطن هو الذي يسكنني سأختار أولًا ثلاثة من شعراء بلادي تركوا بصمات لن تُمحى في وجداننا منذ نعومة الأظافر وحتى خيوط المشيب وهم: محمد الفيتوري ومحجوب شريف وهاشم صديق، منهم من رحل ولكن تظل حوافر خيولهم تصهل في الآفاق وتمتد في الوجدان وتنتقل مثل العدوى من جيل إلى جيل ومنهم من بقي يُقاتل بالكلمة والمعنى والنغم.

«أبدًا ما هنت يا سوداننا يومًا علينا بالذي أصبح شمسًا في يدينا»، تلك كانت صرخة المُبدع الراحل محمد مفتاح الفيتوري مُناديًا بأن الصبح أصبح وأنه لا مكان للسجن ولا السجّان، وأن شمس الحرية قد انبثقت من وسط العتمة والظلام. مُناداة الفيتوري بالحرية تجاوزت نطاقه الجغرافي لتشمل كل القارة السمراء -إفريقيا- حيث قدّم لقراء العربية سلسلة من الدواوين الشعرية تحرّض على الثورة وتدعوا للانعتاق من سطوة المُستعمر البغيض ومن حالة الارتهان البشعة.

ولله در ذلك الشاعر الراحل فقد كان ثر العطاء، كتب العديد من القصائد وأرّخ لمرحلة تاريخية بالغة الدقة والهشاشة وكتب بقلب الإنسان المُحب وبقلم الثائر الجسور، إلى أن اختطفه الموت في المغرب وهو بعيد عن أهله وأحبّته وعشاقه في وطنه السودان وفي كل البقاع العربية التي عاش فيها وأحبّها وغنى لها.

الفيتوري شاعر لا يتكرر في زماننا الراهن حيث الانكسار بلغ مداه وأغرقتنا الفجيعة في مُستنقع آسن من المُؤامرات والرزايا والخيانة، وظل صوته صدّاحًا وكلماته قوية وأداؤه رائع في الإلقاء وفي الأمسيات الشعرية التي طاف بها ربوع العالم العربي مُدافعًا عن الإنسان ومُنتصرًا لقضاياه الوجودية والحضارية من كل أنواع القهر والاستلاب والعدوان.

سيبقى صوت الفيتوري الشعري منارة سامقة نستضيء بها في ظُلمات أيامنا الحالكة «ما تقولي شن سويت.. ما شفت ما سويت.. غير البطمن ناس.. بي همهم حسيت». هذا صوت آخر خرج من دهاليز الظلام والعتمة وغنى للحرية في أسمى معانيها، وكان ،عليه رحمة الله، رائعًا وطيّبًا وودودًا، أحبّه كل من عرفه عن قرب وتغنّت بقصائده الجماهير الهادرة في شوارع الخرطوم وكل المدن السودانية خلال ثورة ديسمبر المجيدة.

زار محجوب شريف كل زنازين السودان الضيّقة رغم فسحة الأرض ولم تضيق العتمة على رؤياه فقد كان يرى المُستقبل على راحتي يديه، وتنبأ في وقت مُبكر بزوال الطغيان وتحققت رؤيته عبر الحشود الهادرة وكُتبت قصائده على الجداريات «حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي .. وطن شامخ وطن عاتي.. وطن خير ديمقراطي».

ترك زادًا وافرًا للأجيال القادمة، كما ترك زوجة مُناضلة وبنتين رائعتين وعشرات القصائد الثورية، كان مُصادمًا رغم رقته ولم يعرف المُهادنة وعاش واقفًا ومات واقفًا.

قصائده أيقونات في جيد الثورة ولم تكسره المُعتقلات ولا السجون التي كان من مُرتاديها على الدوام دفاعًا عن الحرية والديمقراطية والحُكم المدني.

وكم تمنينا، لو الأمنيات تتحقق، أن يكون معنا هو وحميد والحدربي، ليرقبوا روعة المشهد في اعتصام القيادة وليشدّوا لنا بعميق كلماته الموحية وأناشيده الثائرة، وليكتب لنا صفحة في سفر التاريخ في الراهن المُعاصر. «لما الليل الظالم طول .. فجر النور من عينا إتحول.. كنا نعيد الماضي الأول .. ماضي جدودنا الهزموا الباغي.. وهدوا قلاع الظلم الطاغي».

«كانت ملحمة»، وكان في ريعان صباه لم يتجاوز العشرين، لكنه قدّم هذه الأنشودة الخالدة التي كلما نسمعها تنبت في مساماتنا سيوف الحق.. إنه الرائع المُبدع الجميل هاشم صديق، المُصادم الذي لا يَهاب في الحق لومة لائم، ظل ومازال مِعطاءً وقريبًا من نبض الجماهير التي أحبّته وترنّمت بالعديد العديد من قصائده الخالدة «عويناتك ترع لولي وبحار ياقوت مناحات ريد حزاينيه».

يحزنني أننا بعد الثورة المجيدة لم نحتف بهذا الإنسان الرائع، الوافر العطاء في الغناء والمسرح وفي النشيد الثوري فهو طاقة مُتجدّدة وكنز من الإبداع، وما أحوجنا لإسهامات هاشم صديق في المسرح، ونحن نحتاجه لخلق وعي جديد حتى يتعلم أطفالنا أن الإبداع مُمكن على يد المُبدعين.

أتمنى أن تحتضن الوسائط الإعلامية المقروءة والمسموعة والمُشاهدة هذا النبوغ المُبكّر وأن تنهل من نبعه الفيّاض ومن ذخيرته التي لا تنضب. ستكون لنا عودة ثانية مع مُبدعين آخرين .. «أعطوا لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر».