نوسوسيال

كتبت ليلان جمال/لماذا تركـــت الحصان‮ ‬وحيــــــــدا‮ ‬يادرويش‮!‬

719

كان الشاعر الفلسطيني‮ ‬محمود درويش،‮ ‬يسأل أباه في‮ ‬إحدى قصائده الشهيرة وهما‮ ‬يخرجان للسهل،‮ ‬لماذا تركت الحصان وحيدا‮ ‬يأبي؟،‮ ‬يجيب هذا الأخير في‮ ‬ذات النص‮..‬إلى جهة الريح‮ ‬يا ولدي،‮ ‬حيث‮ ‬يقيم جنود بونابرت تلاً‮ ‬لرصد الظلال على سور عكا القديم،‮ ‬يسأله مجددا إلى أين‮ ‬يا أبي‮: ‬لا تخف‮.. ‬لا تخفْ‮ ‬من أزيز الرصاص‮! ‬التصقْ‮ ‬بالتراب لتنجو‮!‬،‮ ‬درويش الذي‮ ‬سأل أباه عن سبب تركه للحصان،‮ ‬هو أيضا تخلف عن حمايته ورحل قبل عشر سنوات،‮ ‬كانت مشيئة القدر أن‮ ‬يغيب وتعود ذكراه اليوم،‮ ‬بنفس سؤال الأمس،‮ ‬لكن بصيغة أخرى في‮ ‬ظل تياهان‮ ‬فلسطين‭-‬‮ ‬الحصان‮ ‬،‮ ‬القضية التي‮ ‬تاجر بها الجميع،‮ ‬وأقاموا على إسمها مأدوباتهم،‮ ‬خلدها درويش،‮ ‬في‮ ‬شعره حين الحضور وحين ذكرى‮ ‬غيابه،‮ ‬ليرث السؤال عن أبيه بتركة ثقيلة،‮ ‬لماذا تركت الحصان وحيدا‮ ‬يادرويش؟
تعود الذكرى العاشرة لرحيل محمود درويش،‮ ‬ولا شيء تغير،‮ ‬في‮ ‬الحصان‮ ‬‭- ‬فلسطين،‮ ‬لا حاجة أن نضيف إلى اسمه صفة الشاعر‮. ‬فلا‮ ‬يعتقد أنه‮ ‬يوجد من نطق أو سمع شعرا ولا‮ ‬يعرف درويش،‮ ‬تمرّ‮ ‬الذكرى بينما‮ ‬يعيش العالم العربي‮ ‬شتاته الوجودي‮ ‬وعذاباته اليومية دون أن‮ ‬يلتف حول أي‮ ‬شاعر أو مجموعة شعراء،‮ ‬بل أن الشعر صار تهمة في‮ ‬فضائه والشعراء‮ ‬غرباء في‮ ‬أرض الشعر‮.‬
‮٧‬‭ ‬حصان البروة‮ ‬ينطلق‭!‬ ولد محمود درويش في‮ ‬عام‮ ‬1941م،‮ ‬أي‮ ‬قبل‮ ‬7‮ ‬سنوات من احتلال الصهاينة لفلسطين،‮ ‬في‮ ‬قرية البروة الفلسطينية الواقعة في‮ ‬الجليل شرق مدينة عكا الساحلية،‮ ‬وبعد حرب‮ ‬1947م احتلت إسرائيل جزءاً‮ ‬من فلسطين،‮ ‬وشردت أهلها إلى البلدان المجاورة فوجد محمود درويش نفسه في‮ ‬قريةٍ‮ ‬داخل جنوب لبنان مع عشرات آلافٍ‮ ‬من أهله اللاجئين الفلسطينين،‮ ‬وكان عمره لم‮ ‬يتجاوز السادسة،‮ ‬وكان الاعتقاد لدى اللاجئين،‮ ‬بأنّ‮ ‬عودتهم إلى ديارهم قريبة إلا أنّ‮ ‬عائلة محمود درويش فهمت بأن ذلك سيكون طويلاً‮ ‬فعادت إلى قريتها،‮ ‬إلا أنّ‮ ‬إنهم وجدوا قريتهم قد دمرت تماماً‮ ‬وتم الاستيلاء على أملاكهم وبيوتهم فسكنوا في‮ ‬بلدةٍ‮ ‬مجاورةٍ‮ ‬اسمها‮ ‬دير الأسد‮ ‬،‮ ‬ثمّ‮ ‬انتقلت عائلة محمود درويش إلى‮ ‬حيفا‮ ‬ومكثت فيها عشر سنواتٍ؛ حيث أنهى محمود درويش المرحلة الثانوية فيها وعمل محرراً‮ ‬في‮ ‬جريدة‮ ‬الاتحاد‮ .‬ ‭ ‬‮ ‬من موسكو إلى القاهرة‮ ‬ المحطة الأولى كانت في‮ ‬موسكو؛ حيث سافر بقصد إكمال دراسته الجامعية وكان ذلك في‮ ‬عام‮ ‬1970م،‮ ‬تعلّم خلال هذه الرحلة ولو بشكلٍ‮ ‬بسيطٍ‮ ‬اللغة الروسية،‮ ‬ولم تكن موسكو بالصورة التي‮ ‬كانت في‮ ‬ذهنه فغادر موسكو متوجهاً‮ ‬إلى مصر‮.  ‬كانت القاهرة هي‮ ‬المحطة الثانية بحياة محمود درويش،‮ ‬فبقي‮ ‬بها سنتين التقى خلال إقامته في‮ ‬القاهرة بكتّابها الذين‮ ‬يقرؤون لهم أمثال محمد عبد الوهاب،‮ ‬ونجيب محفوظ،‮ ‬ويوسف إدريس؛ حيث عمل في‮ ‬نادي‮ ‬الأهرام إلى جوار نجيب محفوظ وغيره من كتاب الأهرام،‮ ‬كما كان‮ ‬يلتقي‮ ‬بكثيرٍ‮ ‬من شعراء مصر في‮ ‬ذلك الوقت مثل‮: ‬صلاح عبد الصبور،‮ ‬وأحمد حجازي،‮ ‬وأمل دنقل،‮ ‬فتأثر بهؤلاء الشعراء وحدث تحولٌ‮ ‬في‮ ‬تجربته الشعرية فلاقى الدعم والمساندة من هؤلاء الشعراء،‮ ‬خاصةً‮ ‬في‮ ‬شعره الوطني‮ ‬الذي‮ ‬يمجّد فيه المقاومة،‮ ‬خاصةً‮ ‬بعد هزيمة العرب بحرب‮ ‬1967م،‮ ‬حيث كان الشعب العربي‮ ‬يشجّع الشعر الذي‮ ‬يتحدث عن فلسطين والمقاومة فيها‮.‬ أمّا المحطة الثالثة،‮ ‬ففيها انتقل محمود درويش من القاهرة إلى بيروت في‮ ‬عام‮ ‬1973م،‮ ‬فعاش ظروف الحرب الأهلية اللبنانية التي‮ ‬ألحقت الدمار بالكيان اللبناني،‮ ‬فكانت القوى اللبنانية تتقاتل،‮ ‬وانجرّ‮ ‬إلى الحرب الفلسطينيون الذي‮ ‬كانوا‮ ‬يقيمون على أرض لبنان وهذا أحزن محمود درويش كثيراً،‮ ‬فهاجر الكثير من اللبنانيين إلى البلدان الأخرى وكان محمود درويش،‮ ‬من الناس الذين تركوا بيروت بعد دخول الجيش الإسرئيلي‮ ‬إليها فغادر بيروت وهو محباً‮ ‬لها،‮ ‬حيث‮ ‬غادر إلى تونس‮.‬ ‭ ‬‮ ‬أوراق الزيتون الخالدة‮ ‬ ويعتبرالشاعر محمود درويش،‮ ‬من أكثر الشعراء الفلسطينيين شهرةً،‮ ‬وقد نشر أول مجموعة من قصائده،‮ ‬وكانت أوراق الزيتون،‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬1964م،‮ ‬عندما كان عمره‮ ‬22‭ ‬عامًا،‮ ‬ومنذ ذلك الحين نشر درويش ما‮ ‬يقرب من ثلاثين مجموعة شعرية ونثرية،‮ ‬حيث ترجمت إلى أكثر من‮ ‬22‮ ‬لغة‮. ‬بعض من عناوينه الشعرية الأخيرة تشمل‮ ‬أثرالفراشة‮ ‬وقد كان درويش‮ ‬يعمل محررًا في‮ ‬مجلة شهرية لمنظمة التحرير الفلسطينية ومدير مركز أبحاث المجموعة‮.‬ و في‮ ‬عام‮ ‬1987،‭ ‬عين في‮ ‬اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية،‮ ‬واستقال في‮ ‬عام‮ ‬1993‮ ‬في‮ ‬معارضة اتفاق أوسلو‮. ‬وعمل أيضا في‮ ‬منصب رئيس تحرير ومؤسس المراجعة الأدبية الكرمل التي‮ ‬نشرت من مركز السكاكيني‮ ‬منذ عام‮ ‬1997م‮.  ‬وكما حصل محمود درويش على العديد من الجوائز،‮ ‬وتشمل جوائزه وأوسمة شرفه جائزة ابن سينا،‮ ‬وجائزة لينين للسلام،‮ ‬وجائزة لوتس لعام‮ ‬1969م من اتحاد الكتاب الأفرو آسيويين،‮ ‬ومنح رتبة نبيل في‮ ‬فرنسا للفنون،‮ ‬وميدالية‮ ‬بيلز ليترز‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬1997م،‮ ‬وجائزة عام‮ ‬2001م للحرية الثقافية من مؤسسة‮ ‬لانان‮ ‬،‮ ‬وجائزة ستالين للسلام من الاتحاد السوفييتي‮.‬ ‭ ‬‮ ‬شاعر المقاومة‮ ‬ ما من شاعر شغل الإعلام والجمهور معا كما فعل محمود درويشي،‮ ‬لقد ظل‮ ‬يهزّ‮ ‬الجميع قبل أن‮ ‬يسلم روحه،‮ ‬اليوم‮ ‬يهتز العالم لخراب اطرافه ولسوء حظ الإنسانية ليس هناك درويش‮ ‬يواجه كل هذا الدمار بكلمات من حب وناري‮ ‬فقد كان كالروح تحرس الانسانية وينشد على باب الياس قصيدة فنرى الحياة‮.‬ لم‮ ‬يكن درويش موعودا لحب عظيم،‮ ‬لكنه عاشق كبير ولم‮ ‬يكن محاربا لكنه انتصر دائما،‮ ‬منذ مولده في‮ ‬مارس‮ ‬1941‮ ‬وإلى‮ ‬غاية رحيله بهيوستن الأمريكية‮ ‬ وهو‮ ‬يتدرّج سلم المجد،‮ ‬وجد نفسه صوتا للجماعة،‮ ‬رغما عنه فقد أصبح في‮ ‬الثانية والعشرين من عمره شاعر مقاومة‮ ‬لأنه أصدر ديوانيه‮ ‬أوراق الزيتونى‮ (‬1964‮) ‬ثم‮ ‬عاشق من فلسطين‮ (‬1966‮)‬،‮ ‬ثمّ‮ ‬ظلت فلسطين عالقة بملامح وجه الشاعر وخطواته وبقصائده حتى وإن كان‮ ‬يتحدث عن تجربة عشق أو حبي‮ ‬لقد أصبح مقرونا بها أينما حل‮.‬ ‭ ‬أمي‮ ‬فلسطين‮ ‬ ينظر إلى قصائده الأولى أنها صرخة صادقة ليست من شاعر فحسب،‮ ‬ولكن من إنسان‮ ‬يقف على أرض مضطربة ويدين وضعه الذي‮ ‬لا ذنب له فيه سوى أن الأقوياء قرروه له‮.‬ هكذا تحولت قصيدة‮ ‬أمي‮ ‬إلى أغنية شوق وموقف اكتنزت أكثر من معنى داخلها من هي‮ ‬الأم وكيف‮ ‬يراها،‮ ‬هل هي‮ ‬العجوز‮ ‬حورية‮ ‬التي‮ ‬رثته بقصيدة عامية إثر رحيله أم هي‮ ‬فلسطين،‮ ‬أمة تذوي‮ ‬أم هي‮ ‬الأرض قاطبة؟ يعتقد درويش،‮ ‬أن قصيدة‮ ‬أمي‮ ‬كانت اعترافا بسيطا لشاعر‮ ‬يكتب عن حبه لأمه لكنها أصبحت أغنية جماعية‮ ‬ويضيف‮ ‬عملي‮ ‬كله شبيه بهذا أنا لا أقرر تمثيل أي‮  ‬شيء إلا ذاتي‮ ‬غير أن تلك الذات مليئة بالذاكرة الجماعية‮ .‬ استقر درويش برام الله منذ‮ ‬1991‮ ‬وقرر البقاء إلى أن تتحرر فلسطين،‮ ‬معتقدا أنه‮ ‬في‮ ‬اليوم اللاحق لحصول الفلسطينيين على دولة مستقلة لدي‮ ‬الحق بالمغادرة‮ .‬ قبل تجربة رام الله،‮ ‬كان درويش قد عايش تجربة‮ ‬غزة أين‮ ‬يقول‮ ‬صدمتني‮ ‬غزة لم‮ ‬يكن فيها ولا طريق معبد‮ ‬فكيف تراه‮ ‬يجدها اليوم بعد أطنان من القنابل العمياء،‮ ‬وبعد أن صبّ‮ ‬الجيش الإسرائيلي‮ ‬الموت على الأطفال والنساء والعجائز‮.‬ ‭ ‬‮ ‬يوم شعرت بالموت عدت الى الحياة‮ ‬‭!‬ من أقدر من درويش ليحكي‮ ‬لنا تجربة الموت؟‮ ‬ ففي‮ ‬سنة‮ ‬1984،‮ ‬أجريت له عملية على قلبه لإنقاذ حياته‮ ‬يقول عنها‮: ‬توقف قلبي‮ ‬دقيقتين أعطوني‮ ‬صدمة كهربائية،‮  ‬ولكنني‮ ‬قبل ذلك رأيت نفسي‮ ‬أسبح فوق‮ ‬غيوم بيضاء تذكرت طفولتي‮ ‬كلها استسلمت للموت وشعرت بالألم فقط عندما عدت إلى الحياة‮ .‬ هذه التجربة عمقت رؤيته للشعر والحياة وتضاعفت شعريته وموقفه من الحياة إثر تجربة ثانية مشابهة سنة‮ ‬1998،‮ ‬وبعدها بسنتين صدر لمحمود‭ ‬‮ ‬جدارية التي‮ ‬تشكل‮  ‬بعدا مختلفا في‮ ‬عالمه الشعري‮ ‬المتصاعد‮.‬ لعل الشاعر الذي‮ ‬تنقل بين عواصم ومدن العالم لاجئا زائرا أو مقيما،‮ ‬تشبع بتجارب وجودية مختلفة،‮ ‬لا‮ ‬يمكنها أن تفر من طقسه الكتابي‮ ‬اليومي‮ ‬كل صباح وهو‮ ‬يتجهز لرصد حالته شعريا،‮ ‬غير أن‮ ‬القمح مر في‮ ‬حقول الآخرين‮ ‬‭ ‬‮ ‬والماء مالح‮ .‬‭.‬ يقول محمود درويش‮: ‬أعرف أنهم أقوياء ويستطيعون الغزو وقتل أي‮ ‬شخص،‮ ‬غير أنهم لا‮ ‬يستطيعون تحطيم كلماتي‮ ‬أو احتلالها‮ ‬،‮ ‬والمفارقة أن كلمات درويش فتحت‮  ‬المدارس الإسرائيلية التي‮ ‬تدرسها فيما بقيت المدارس العربية مغلقة أمامها في‮ ‬الغالب‮.‬ دوريش كان شاعر حياة،‮ ‬يستلهمها من الموت ولا‮ ‬يبالي،‮ ‬وكان‮ ‬ينظر إلى العالم ويصفه في‮ ‬كل مرّة فيجيز ويصيب وما أشبه اليوم بالبارحة‮ ‬لا القوة انتصرت‮ ‬‭ ‬‮ ‬ولا العدل الشريد‮ .‬ أما الآن،‮ ‬فالعالم‮ ‬يسمعه وهو‮ ‬يقول‮: ‬وحدنا نصغي‮ ‬لما في‮ ‬الروح من عبث ومن جدوى‮… ‬ويجيبه من شعره‮ ‬كل الذين ماتوا‮…‬نجوا من الحياة بأعجوبة‮ .‬ انطفأت شمعة طالما أضاءت درب الإنسانية بالكلمة،‮ ‬لتبقى عينيها مصوبة اتجاه الحرية،‮ ‬في‮ ‬الولايات المتحدة الأمريكية‮ ‬يوم السبت في‮ ‬9‮ ‬أوت من عام‮ ‬2008م،‮ ‬بعد إجراء عملية قلبٍ‮ ‬مفتوحٍ‮ ‬في‮ ‬المركز الطبي‮ ‬في‮ ‬هيوستن،‮ ‬وتم إعلان الحداد لمدة ثلاثة أيامٍ‮ ‬على وفاته في‮ ‬فلسطين،‮ ‬وتمّ‮ ‬إحضار جثمانه إلى مدينة رام الله،‮ ‬حيث دفن في‮ ‬ساحة قصر‮ ‬رام الله‮ ‬الثقافي‮. ‬