نوسوسيال

بقلم:الكاتب الصحفي/ حسن ظاظا / السلطة بين السياسة والدين

623

حسن ظاظا

الإسلام دين ودنيا، هذا ما آمن به المسلمون منذ بداية الإسلام حتى الآن، وهذا ما أقره الدارسون عرباً وغير عرب، من خلال مقارباتهم للدين الإسلامي والحضارة الإسلامية، ولكن إذا كان الإسلام ديناً ودنيا، فهل يعني ذلك أن الإسلام دين ودولة؟.. وهل هذا يعني أن الإسلام لا يكتمل إلا بنظام سياسي يطبق الشريعة الإسلامية ويحكم باسم الدولة الدينية؟…

إن العلاقة بين الإسلام والسياسة هي علاقة إشكالية لاتزال تشكل محور اهتمام الكثير من المفكرين وفقهاء الدين الإسلامي، إن كان على مستوى العلاقة بين الإسلام كدين وبين السياسة، أو كان على مستوى العلاقة بين الدين والدولة، أو بين السلطة الدينية والسلطة السياسية.

 وكان الهم الأساسي ولايزال هو كيفية بناء دولة ديمقراطية حديثة مع الحفاظ على المقاصد الأساسية للدين أو كيفية المواءمة بين الإسلام كدين وحضارة ومفاهيم تتبناها الدول الحديثة مثل الديمقراطية والمساواة في الحقوق والواجبات، وفصل الدين عن الدولة، والعلمنة والعدالة وغيرها من المفاهيم.

 وفيما يلي نستعرض البحث في إشكالية العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية بشكل مختصر، دون التطرق إلى إشكالية العلاقة بين الدين والدولة.

إن العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية تتعدى شكل الاندماج أو الفصل ، إذ أن أشكال العلاقة بين السلطتين خمسة، فإذا كان الاندماج أحد هذه الأشكال والفصل الشكل الثاني، فإن بقية الأشكال تتراوح بين التحالف والإبعاد والإنكار، وإذا كان التحالف سائداً في الأكثرية الساحقة من البلدان العربية

والإسلامية دون تحديد واضح لأسس هذه التحالف أو عناصره، فإن الفصل أو الاستقلال بين السلطتين غير موجود فعلياً، وما هو موجود يظهر شكل الإبعاد “من فوق”  كما هو الحال في السعودية وقطر, وتونس وتركيا وإيران بتبنيهم الفكرالتكفيري الشمولي الاستبدادي والتدخل في شؤون السياسة وفي

شؤون الأحوال الشخصية المدنية والدنيوية، إلا أن هذا التبني بقي محصوراً في دائرة اهتمامات الدولة ودساتيرها ومؤسساتها وشبه معزول عن نبض الحياة اليومية والممارسة العملية  للمجتمع بهمومه وهواجسه وقضاياه.

والقول في السلطة السياسية والسلطة الدينية يقتضي منا البحث في غايات ووسائل كل من السلطتين، فإذا كانت السلطة السياسية تعمل في الوجود من أجل سعادة الإنسان، فإن السلطة الدينية تعمل بالإيمان بما هو خارج الوجود، وسيلتها الطاعة للأوامر الإلهية من أجل كسب الآخرة بتوسل العمل الصالح في الدنيا، ومن هنا تجمع الدنيا بين السلطتين ويحصل التفاعل الذي يقوم على مقولة الدنيوية التي تراها كل سلطة حسب مقتضى وجودها ومصلحتها.

من المهم التأكيد أن الشكل الاندماجي يجعل السلطتين الدينية والسياسية كأنهما سلطة واحدة، ذلك أن الدول تظهر بثوبها السياسي وسلاحها وتشريعاتها اللابسة لبوس السياسة بروح ومضمونين دينيين، ولا فرق فيها بين كونها دولة دينية أو دولة سياسية تسود فيها الشريعة نصاً وروحاً، ولا شأن للدولة كجهاز إلا حراسة الشريعة الدينية ومراقبة حسن تطبيقها باعتبارها المصدر الإلهي الواحد وما يرتبط به من ضروب التشريع الأخرى.

أما الشكل التحالفي فهو بالإضافة إلى كونه السائد عملياً وتطبيقياً في الكثير من البلاد التي تدين بالإسلام يلاحظ الفرق بين السلطة الدينية والسلطة السياسية مع وجود التحالف بينهما في كل ما يخدم توجه السلطة السياسية من ناحية، وما يخدم غايات السلطة الدينية من ناحية ثانية، والعلاقة بين السلطتين في شكلها التحالفي هي دائماً في حالة رجراجة كرقاص الساعة لا تستقيم على حال بحكم العلاقة ذاتها، المتغيرة في الأساس باعتبارها سلطة زمنية سياسية تضعف أو تقوى من ناحية، وسلطة دينية تضعف أو تقوى بشكل معاكس للسلطة السياسية من ناحية ثانية.

وما يعنيه هذا القول أنه إذا قويت السلطة السياسية تطلب الدعم والفتوى من السلطة الدينية لترسيخ القرارات وتثبيتها وإضفاء الشرعية عليها، وإذا قويت السلطة الدينية تضعف السلطة السياسية، وتحصل التبعية من هذه إلى تلك، ويميل الحكم السياسي إلى الفردانية والشمولية قبل أن يتحول إلى نظام الدولة الدينية والحكم الإلهي، وقبل أن يحكمها التعصب الذي يطغى على أي شيء آخر.

أما شكلا الإبعاد والإنكار، فهما حاصلان في النظام الإيديولوجي الذي عليه أن يطبق مشروعاً حضارياً وسياسياً يؤمن به هذا النظام، وشكل العلاقة هذا إما أن يكون الإنكار التام باعتبار أن السلطة الدينية معطلة للمشروع الحضاري وخطرة عليه، كما كانت الحال في الاتحاد السوفييتي، أو الإبعاد باعتبار أن السلطة الدينية معرقلة لمشروع العلمنة الشاملة.

يبقى شكل الاستقلال أو الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية، وهو الشكل الذي يختلف بشكل واضح عن شكلي الإبعاد والإنكار، ويقترب من شكل التحالف، إنه تحالف مع حفظ الحدود، لكل سلطة ميدانها مع لحظ إمكانية التعاون بينهما لما فيه المصلحة العامة للمجتمع، دينية كانت هذه المصلحة أو سياسية.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل الفصل بين السلطتين على الصعيد الإجرائي هو ما اصطلح على تسميته عندنا بالعلمانية؟.. بمعنى آخر هل الفصل بين الدين والسياسة يعني العلمانية؟.. وإذا كان كذلك فأية علمانية نقصد؟.. هل العلمانية كما عرفتها المجتمعات الغربية، أم هي علمانية مغايرة؟.. وإذا كانت مغايرة فما حدودها، وما أصولها إذا كان لها أصول في المجتمعات العربية الإسلامية؟..

لا شك أن العلمانية مفهوم غربي، كان لعصر الأنوار والثورة الفرنسية الفضل في صوغه واعتماده للفصل بين شؤون الدين وشؤون السياسة، وجاء تطبيقه كنتيجة لصراع طويل بين الكنيسة والدولة، بين السلطة الكنسية الدينية والسلطة السياسية المدنية في الغرب وفي أوربا خصوصاً.

وعن استحضار هذا المفهوم لدى البحث في إشكالية العلاقة بين الدين والدولة عند المسلمين والعرب، يبادر المفكرون الإسلاميون إلى استبعاد مفهوم العلمانية باعتباره أولا: مفهوماً غربياً ولا معنى له في الإسلام، ثانياً لماذا؟…لأن لا كهنوت في الإسلام ولا سلطة كنسية فيه وبالتالي الإسلام منهج حياة دين ودنيا، أي في الأخير دين وسياسة لا يمكن الفصل بينهما.

إلا أن هذه الأفكار لا تحوز على إجماع المفكرين المسلمين، ولاتزال هذه المسألة مدار نقاش بينهم، وهو نقاش لا يعود إلى بدايات القرن العشرين مع ما طرحه علي عبد الرزاق في “الإسلام وأصول الحكم” فحسب، بل يعود إلى بدايات النقاش الكلامي بين المعتزلة والأشاعرة حول أولوية العقل أو النقل في الإسلام، وحول الأولوية في تدبير شؤون المسلمين في الحياة الدنيا حسب اهتمامات الناس، باعتبارها مصالح متغيرة ومتبدلة بتغير وتبدل الأمكنة والأزمنة.

على أية حال إن أهم نقطة يتداولها العلمانيون في نقاشهم مع الإسلاميون هي تحديد السمات الضرورية للعلمانية، وهي السمات التي لا يستقيم معنى العلمانية دونها، والتحديد هذا مهم جداً للعلمانيين لأنهم يعتبرون أن الإسلاميين اكتفوا بإحدى السمات السياسية للعلمانية، وهي رفض سيطرة الكنيسة ورجال الدين، باعتبارها تستنفذ معنى العلمانية بكامله، بينما يعتبر العلمانيون أن السمة الضرورية للعلمانية هي رفض اعتبار التعاليم الدينية أن تشكل وحدها المرجع الأخير للقضايا الزمنية والروحية معاً.، ويعتبرون أن المعنى الأول المعتمد من الإسلاميين يتضمن في المعنى الثاني الذي يعتمدونه هم، وناتج عنه وليس العكس.

العلمانية بمعناها الشامل هي موقف نظري واضح ومجدد من طبيعة الدين، ومن طبيعة القيم والإنسان وعلاقته بالله، والعلماني أو الدنيوي صاحب موقف مبدئي ضد أي جماعة تؤمن أن التعاليم الدينية تشكل المرجع الأخير لكل ما له علاقة بالشؤون الدينية والزمنية، بصرف النظر عن أي دين أو جماعة، وبصرف النظر عن وجود رجال دين أو عدم وجودهم.

في النظر إلى إمكانية قبول الإسلام للعلمانية أو لأمور الدنيا باستقلال عن الدين، يناقش العلمانيون الأصوليون في مسألة التناقض بين قولهم إن الاسلام دين العقل من ناحية، واستحالة أن تكون الدولة في ظل الإسلام علمانية، وفحوى هذه المناقشة هي المقارنة بين الفكرتين الآتيتين:

الإسلام يقدم المصلحة على النص أي يقدم العقل على النقل، وهي فكرة “علمانية” في الأساس، والإسلام بطبيعته لا يسمح لأية اعتبارات مصلحية أو عقلية أن تبطل الاعتبارات الدينية النابعة منه ومنها:الإسلام دين ودولة، ولا يستقيم الأمر هنا بإلغاء إحدى الفكرتين المتناقضتين

وبما أن الإسلام دين العقل، وبما أنه يقدم المصلحة على النص، فيمكن بسبب ذلك أن تقوم الدولة العلمانية الدنيوية في الإسلام إذا اقتضت المصلحة ذلك.

وهنا لابد من التوضيح ذلك أن قوانين الدولة المتطابقة مع الشريعة لا تكفي لتكون هذه الدولة دولة دينية غير علمانية أو غير دنيوية، فالأساس الذي يقوم عليه التشريع هو الذي يقرر إذا كانت الدولة دينية أو علمانية، وهذا الأساس هو إما الاعتبارات الدينية أو الاعتبارات العقلية “الدنيوية”، وعليه فكل دولة تعتبر زمنية علمانية إذا كانت أحكامها مستمدة من شتى شؤون الحياة من العقل لا من الدين، حتى وإن كانت أحكامها بأكثريتها متطابقة مع الشرع الديني.

انطلاقاً من هذا التحديد يمكن العمل على بناء العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، انطلاقاً من موقع التحالف كمرحلة أولى وصولاً إلى موقع الاستقلال لكل من السلطتين تجاه الأخرى، فالتحالف بيّن ويبين بالتجربة والممارسة مدى كثافة ضبابية الحدود بين السلطتين، ولا يستفيد من تجربته، ولا بد

من خبرته لينتقل كتحالف من ضبابية العلاقة واختلاط المهام والغايات إلى البدء في رسم حدود الممارسة لكل من الحقلين، لتصل هذه العلاقة إلى إظهار ما هو ديني وما هو دنيوي، ليمارس كل منهما سلطته دون طغيان أو هيمنة من الآخر عليه، فيكون الدين والسلطة المنبثقة منه في خدمة

المجتمع بما يقوم به من نشاط روحي وأخلاقي، ومن تمتين العلاقة بين المؤمن والخالق، وتكون السياسة في خدمة المجتمع بما تقوم به على صعيد قيادة حياة الناس في مجاري حياتهم اليومية باعتبارها شؤوناً دنيوية، وإن استوحت في قيادتها ما تراه مناسباً من مبادئ الشرع الديني.

هذا الانتقال الهادئ والمتأني من التحالف بين السلطتين الدينية والسياسية إلى استقلال الواحدة منهما عن الأخرى في شؤون الحياة اليومية يعطي للسياسة الانفتاح الكامل لكل ما يتعلق بشؤون الدنيا دون تجاهل أو تجاوز الأمور الأخلاقية والروحية، ويعطي للدين الاهتمام بالمسائل الأخلاقية والروحية دون تجاهل أو تجاوز الأمور السياسية باعتبارها شؤوناً دنيوية يمكن ممارستها، وليس باعتبارها تكليفاً شرعياً أو دعوة للحكم الإلهي.

والعلمانية هي الركيزة الأساسية لتحقيق الديمقراطية والعيش المشترك لكل الشعوب بأمن وسلام.