نوسوسيال

بقلم أحمد أعرج : الشباب من رحم المعاناة إلى عوالم الإبداع .

199

 

 

 

 

 

قبل العام 2011 كانت سوريا تتقدم داخل “النافذة الديمغرافية” وهو مصطلح يستعمل لوصف الدول التي تكون غالبية سكانها من الشباب ضمن نطاق سن سوق العمل، حيث تقدر نسبة الشباب السوري القادر على دخول سوق العمل آنذاك حوالي 70%. تزامنت النافذة الديمغرافية وتداخلت مع نوافذ سياسية مركبة أدت إلى انفاق طاقة الشباب السوري في أقنية المقتلة السورية المشؤومة ، فمن المعروف أن النافذة الديمغرافية تمثل موجة طاقة وهي إما أن تؤدي إلى نهضة اقتصادية اجتماعية أو تنتهي في الحالة المقابلة إلى مأساة تاريخية شبيهة بالنموذج السوري خلال العقد الفائت.

يضاف إلى ذلك أن عدة أجيال من الشباب السوري نشأت وعاشت في خضم الأزمة السورية بكل ما حملته من معاناة رهيبة، كانوا في بداية الحرب أطفالاً ونضجوا على نار مأساتها  ليصبحوا اليوم شباباً، بعدما واجهوا خلال السنوات الفائتة ويلات القصف والرعب والحصار والنزوح واللجوء والفقد ، كل هذه المآسي كانت كفيلة بقذف الشباب في مسارات وعرة وشائكة، انتهت بهم إلى متاهات السياسة المحلية والإقليمية ليصبحوا قنابل موقوتة أو مرتزقة وإرهابيين أو حراساً على أبواب المجهول وفي كل الأحوال كانوا مادة لصراعات لا شأن لهم بها أو أنها صراعات على وطنهم وثرواتهم ومستقبلهم.

ورغم أن نسبة وازنة من الشباب السوري هاجرت هرباً من المقتلة السورية وبحثاً عن وطن بديل يحتضن أحلامهم المشروعة بعالم مختلف يتيح لهم أنفاق طاقاتهم وسنوات تفجرهم في الحياة وتحقيق الذات والإبداع عوضاً عن القتل والموت والارتزاق والضياع وسوى ذلك من مفردات المشهد السوري، إلا أن أغلب هؤلاء الشباب لم تحرق سفن العودة فلا زال نشاطهم سواء في وسائل التواصل الاجتماعي أو في النشاط المدني والسياسي في دول اللجوء، لا زال يتمحور حول سوريا ومأساتها فضلاً عن مساعدة من تبقى من أهاليهم داخل الوطن .

إن معاناة المخيمات وملامسة الموت على متن قارب اللجوء “البلم” والتشرد في أزقة دول اللجوء، كل ذلك لم ينزع من الشباب توقه إلى أن يكون قيمة مضافة قادرة على إحداث التغيير في مجتمع أنهكه الصراع وأدخله في طور التحلل والتفسخ.
لكن هذه الأحلام الجميلة والتوق إلى إعادة بناء عالم متفسخ لا تعصم الشباب من التيه وهنا تجدر الإشارة إلى دور النخب على مستوى المجتمع والأهالي على مستوى أسري أضيق في دعم الشباب وعدم تهميشهم واشراكهم في مواجهة المسؤولية كي يكونوا ناجحين في حياتهم وتحصيلهم العلمي والمهني والثقافي.

كما أن المؤسسات الحكومية والمدنية والمؤسسات الأممية التي تسعى لإعادة ترميم ما أفسدته الصراعات، تتحمل قسطاً وافراً في دعم  الشباب بعيداً عن مستنقعات السياسة من خلال حملات توعية ودعم معنوي وندوات أو محاضرات أو دورات لتمكين الشباب من تطوير قدراتهم وخبراتهم ونقلهم من ضفة الإحباط والعجز إلى ضفة القدرة على الخلق والإبداع في كافة المجالات (التعليمية – الثقافية – المهن والفن وحتى الدفاع عن كرامة وسلامة الإنسان والوطن ) .
وهذا يتضمن تأمين أرضية أخلاقية توعوية تساعد الشباب على إكمال مسيرتهم بتمكين ، من خلال دعم الطموحات والأفكار الخلاقة وإمكانية تحويلها إلى واقع إيجابي ملموس، وهذا كفيل بتحويل القوة الشابة إلى قادة للمستقبل بدلاً من أن يكونوا مادة لواقع متآكل.

كافة تجارب الحروب الأهلية المتاحة ترشدنا إلى أن المجتمعات التي تتعرض لأزمات وكوارث لديها الرغبة والقابلية القصوى لخلق الإبداع، ولأن جيل الشباب الحاضر تتوفر له وسائل عديدة من تحصيل المعلومات بشكل مجاني، وتمتلك وسائل التواصل الاجتماعي الذي يمكن الاستفادة منها بعقلانية ووعي في جمع المعلومات السليمة والمفيدة لتنفيذ المشاريع والأفكار .

العولمة والشباب :

ولأننا نعيش في عصر العولمة ولأن العالم أصبح قرية صغيرة متاحة للجميع من نافذة هواتفنا وأجهزتنا المحمولة.
من هنا أصبح بإمكان الشباب البدء انطلاقاً مما توفره تكنولوجيا المعلومات من إمكانات إيجابية خلاقة مع الإشارة إلى الإمكانات الهدامة التي تتيحها العولمة وضرورة التعامل الحذر والواعي مع هذا الجانب من العولمة.
وهذا يلقي مسؤولية حساسة على المؤسسات المختلفة الحكومية والمدنية لتوعية الشباب من المخاطر والسلبيات والارشاد إلى كيفية الاستفادة من الذكاء الصناعي والخبرات و الأبحاث والكتب المتوفرة على مواقع الإنترنت ومحاولة تطوير الخبرات ومن ثم العمل على تنفيذ أي حلم أو أي طموح لدى الشباب إلى فكرة واقعية قابلة للتطبيق على الأرض، فالعولمة تتيح إمكانيات فائقة لتنفيذ تلك الأفكار، كما تتيح للشباب أن يكونوا رسل سلام إلى العالم من خلال الإبداع  وإيصال رسالة مجتمعاتهم بأننا شعوب تواقة للحرية والإبداع والسلام ، ونرفض أن نكون أدوات لمشاريع الدول التي لاتريد الخير لشعبنا ووطننا .
وهنا نؤكد مجدداً أن معظم الشعوب التي تعرضت لأزمات وحروب وكوارث نهضت من خلال العلم وتوظيف الطاقات البشرية ولاسيما الشبابية للنهوض والوصول إلى مصاف الدول المتقدمة .
فالأمثلة كثيرة عن تلك الدول والشعوب (معظم الدول الأوربية وفيتنام واليابان  وكوريا الجنوبية وحالياً الدول الأفريقية ) والعديد من الدول التي خرجت من كوارث وحروب وكانت في حال أكثر سوءاً من الحالة السورية، بإصرارها على إحداث تغيير نوعي وجذري وبالاعتماد على جيل شباب مسلح بالعلم والمعرفة ، تحولت خلال فترة قصيرة (عدة سنوات) إلى مصاف الدول المتقدمة .

بقلم: أحمد أعرج