نوسوسيال

نوس سوسيال الدولية : سبعون سنة على رحيل يهود العراق

399

 

                                   /   كتب : حسن ظاظا  /

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

 

 

مثّل الاحتلال العسكري البريطاني للعراق في الحرب العالمية الأولى، وتحوّل هذا الاحتلال الى إدارة مدنية بعد الحرب ثم تشكيل الدولة العراقية، تحولاً هائلاً في قصة العراق ومعنى الهوية فيه.

كممثلين منتصرين للحداثة الأوروبية، أجرى البريطانيون تحديثاً كبيراً في النظام السياسي في البلد، عبر تحويله من طبيعته الرعوية السابقة، التراثية الروح في العهد العثماني، حيث الراعي الذي يملك ويحكم على نحو مطلق، والرعية التي تسمع وتطيع، إلى نظام جديد تعاقدي تحكم فيه نخبة سياسية شعباً متنوعاً على نحو مشروط في إطار التزامات متبادلة بين الاثنين. حتى وإن لم تتأطر هذه الالتزامات تأطيراً مؤسساتياً رصيناً، اعتبرت تجربة الدولة، في ظل إشراف عسكري، ثم انتدابي، بريطاني تقدماً لافتاً مقارنة بالجمود العثماني العام.

في سياق هذه التبدلات المهمة، برز دور اليهود العراقيين، بسبب مهاراتهم المناسبة في تجربة التحديث هذه والحاجة البريطانية لمثل هذه المهارات، فضلاً عن الرغبة اليهودية العامة بأن يقود هذا التحديث الى مساواة حقيقية في إطار مفهوم الشعب ليرفع عنهم التمييز الاجتماعي وحس الاستعلاء الديني، التقليدي إسلامياً، بإزاء اليهود عموماً، الذي غالباً ما كان يتحول الى شيطنة ورفض لهم.

تُجمع المصادر البريطانية من تلك الفترة على أن اليهود كانوا من أفضل الموظفين العراقيين وأكثرهم كفاءة، بسبب معرفتهم باللغات الأجنبية ودراستهم المدنية العالية الجودة عبر منظومة مدارس الأليانس. في ظل إدارة بريطانية هيمن عليها موظفون هنود غرباء عن تقاليد البلاد، كان يشتكي منهم السكان المحليون، وشح الموظفين العراقيين المسلمين المتعلمين تعليماً حديثاً، ظهر تمثيل اليهود في الإدارة الجديدة عالياً يفوق كثيراً نسبتهم السكانية. أثار هذا الأمر أحاسيس غيرة وحنق عند عراقيين آخرين، وساهم بصناعة تفسيرات مؤامراتية، لا يزال بعضها حاضراً اليوم بعد أكثر من قرن على انقضاء هذه التجربة، بخصوص تواطؤ يهودي – بريطاني ضد العراق العربي والمسلم! لحسن الحظ، لم تكن تلك الأحاسيس مهيمنة بين النخب المؤثرة.

لعل الإنجاز الأهم المتشكل في سياق هذا التحديث العام والجوهري في معنى الهوية، كناظم للعلاقة بين العراقيين، هو بداية بروز فكرة الشعب الواحد والمتساوي، واعتبار الاختلافات بين أفراده وجماعاته، أحد مظاهر التنوع الذي لا يقوّض المساواة، وليس علامة امتياز طبيعي لمجموعة على أخرى، كما في السابق. كانت الفكرة جديدة، غربية المنشأ، وفريدة تماماً. فهمتها قلة صغيرة ومتفرقة من المسلمين العراقيين من ذوي التعليم العالي، وكثير من اليهود العراقيين، بسبب تعليمهم المتميز واتصالهم بالثقافة الأوروبية.

لكن الأهم هنا هو أن فيصل، الأمير الذي لم يُتوّج بعد ملكاً على العراق، فهم الفكرة وتبناها وروّج لها بقوة، فضلاً عن سعيه المتواصل الى تطبيقها. كان هذا واضحاً منذ أيامه الأولى في البلد. وصل الى بغداد، في قطار قادم من الحلة في ظهيرة يوم الأربعاء، في نهاية شهر حزيران (يونيو) 1921، قبل تتويجه ملكاً بأقل من شهرين. كان الاستقبال الذي لقيه في بغداد حافلاً وكبيراً. في يومه الثاني في بغداد، يوم الخميس، زار مرقد الإمام الكاظم في شمال المدينة وصلى فيه، ثم زار في اليوم نفسه شخصيتين شيعيتين ستلعبان دورين مختلفين، سياسياً واقتصادياً، في قصة الملكية العراقية: رجل الدين محمد الصدر والتاجر عبد الحسين الجلبي. في اليوم التالي، الأول من تموز (يوليو)، زار مرقد الإمام أبي حنيفة في الأعظمية وصلى الجمعة هناك، قبل أن يتوجه الى زيارة ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني. في كلتا الزيارتين، الكاظمية والأعظمية، تجمهر الناس واحتفوا بالأمير ذي الثمانية والثلاثين عاماً، الذي سيصبح ملكهم عن قريب.

كانت هاتان الزيارتان ضروريتين لاعتبارات سياسية وشعبية ودينية. لكن الزيارة الأهم، معنوياً وفكرياً، جاءت بعد نحو أسبوعين، لبيت الحاخام اليهودي الأكبر. تجمع هناك في صبيحة ذلك اليوم، أعيان اليهود العراقيين وبعض وزراء الحكومة ومعممون سنّة وشيعة وشخصيات عامة أخرى. كان الاحتفال اليهودي بفيصل لافتاً، خطب وهدايا. إحداها كانت نسخة فاخرة للتلمود اليهودي. تأثر فيصل بكل الاحتفال، وبدفع من المس بيل الحاضرة هناك وهي تحثه على أن يرتجل كلمة أمام الحضور، قال فيصل جمله الأهم وطنياً في كل سنوات حكمه، الكلمات التي اختصرت سعيه النبيل الى صناعة شعب: “لا شيء في عرف الوطنية اسمه مسلم ومسيحي وإسرائيلي، بل هناك شيء يقال له العراق، وإني أطلب من أبناء وطني العراقيين ألا يكونوا إلا عراقيين، لأننا نرجع إلى أرومة واحدة، ودوحة واحدة، وليس لنا اليوم إلا واسطة القومية القوية التأثير”.

كان اليهود من أكثر المجاميع العراقية فهماً لكلمات فيصل، ورغبةً في جعلها حقيقة، رغم تحفظ بعض المسلمين، خصوصاً من رجال الدين وطبقة الأشراف والأعيان على هذه الفكرة الغريبة التي تفقدهم امتيازاتهم المعنوية. لم يكن دور اليهود العراقيين تأسيسياً وهاماً في تشكيل الإدارة الحديثة للبلد فحسب، بل أيضاً في تأسيس العراق كدولة حديثة. عراقيان اثنان فقط حضرا المؤتمر الذي تقرر فيه تأسيس العراق كدولة حديثة بملك حجازي وجيش مهني وحدود واضحة تحميها القوة العسكرية البريطانية: جعفر العسكري، الذي كان حينها وزير الدفاع الوطني في أول حكومة عراقية تشكلت في نهاية عام 1920، وزميله في الحكومة نفسها، ساسون حسقيل، اليهودي العراقي، وزير المالية. كان ذلك مؤتمر القاهرة في آذار (مارس) 1921 الذي أداره وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل وحضره ساسة وعسكريون بريطانيون لتقرير وجهة السياسات البريطانية في المنطقة. عُقد هذا المؤتمر قبل ثلاثة أشهر من مجيء فيصل الى العراق، وفيه اتُّخذ قرار جلبه الى العراق وتتويجه ملكاً عليه.

بعد ذلك بسنوات قليلة، في 1925، سيحاجج حسقيل بذكاء وعناد وطنيين ضد الرغبة البريطانية بتعويض العراق بدفع حصته من النفط الذي سيبدأ البريطانيون باستخراجه في 1927 بالجنيه الإسترليني. أصر الرجل على أن يكون الدفع بالذهب تحاشياً لاحتمالات انخفاض قيمة الجنيه مستقبلاً، بالرغم من اصطفاف المفاوضين العراقيين الآخرين مع الرغبة البريطانية.

بعد سنوات قليلة، في بداية الثلاثينات، تتضح للساسة العراقيين حكمة موقف حسقيل عندما انخفض سعر الجنيه الإسترليني وبقي سعر الذهب ثابتاً، ليزيد هذا من موارد الخزينة العراقية، الشحيحة أصلاً. لعب الرجل دوراً معروفاً في وضع القواعد الأساسية لتنظيم المال وصرفه في الدولة العراقية الوليدة. بعد مغادرته المنصب في 1925، منحه الملك فيصل وسام الرافدين من النوع المدني تقديراً لخدماته.

قد تكون المساهمة الأهم، والمجهولة عموماً، لساسون حسقيل قبل أن يغادر الوزارة هي جلبه يهودياً عراقياً آخر، قديراً ومخلصاً، تولي إدارة الحسابات العامة في الوزارة هو إبراهيم الكبير. لهذا الرجل مساهمة لافتة في قصة الدولة العراقية لا تقل أهمية عن مساهمة راعيه الوظيفي، حسقيل، إن لم تكن تتفوق عليها.

على مدى عشرين عاماً من عمله في وزارة المالية، ساهم الكبير في صناعة الأفكار والمؤسسات والوقائع الأكثر تأثيراً في قصة الدولة والبلد، بينها تأسيس ديوان الرقابة المالية في 1927 تحت اسم “دائرة تدقيق الحسابات العامة” وتأسيس البنك المركزي العراقي الذي ظهرت فكرته في العشرينات، وتبناها الكبير، لكن مصاعب كثيرة حالت دون ذلك حتى عام 1947. قد تكون بصمة إبراهيم الكبير الأهم، الحاضرة حتى اليوم في حياة العراقيين، هي دوره في تبني العراق عملته الوطنية الحالية، الدينار العراقي، في 1932 ومغادرة الروبية الهندية. (يقال إنه هو وراء استيحاء تسمية العملة الجديدة من التراث العربي الإسلامي، “الدينار” وأجزائها الأصغر: نصف دينار، وربع دينار وصولاً الى مئة فلس وقرش وعانة).

لكن غير ساسون حسقيل وإبراهيم الكبير، هناك الكثير من اليهود العراقيين الذين ساهموا في صناعة العراق الحديث من داخل مؤسسات الدولة ومن خارجها، كداود سمرا، القاضي والقانوني الذي شغل في عام 1923، منصب نائب رئيس محكمة الاستئناف، المنصب القضائي الأعلى الذي يمنح لعراقي في حينها (كان رئيس المحكمة قاضياً إنكليزياً). على مدى أكثر من 25 عاماً من عمله قاضياً في مناصب مختلفة رفيعة المستوى، كان للرجل دور أساسي في تشكيل المنظومة القضائية العراقية وصناعة قوانينها وتفسيرها.

لليهود العراقيين أدوار أخرى لافتة، وبعضها  تأسيسي، في مجالات الاقتصاد والفن، خصوصاً الموسيقى، والصحافة والسياسة والثقافة. لكن بدأ كل هذا الحضور في الحياة العامة بالانحسار التدريجي منذ منتصف الثلاثينات، مع صعود الفاشية والنازية في أوروبا، وبروز القومية العربية بنسختها المتطرفة في العراق، المتعاطفة مع هذا الصعود، فضلاً عن فشل مؤسسات الدولة التي استثمر فيها اليهود كثيراً في توفير الحماية لهم والدفاع عن فكرة الشعب الواحد والمتساوي التي بَشَّر بها فيصل في أيامه الأولى في العراق

 

يهود العراق رحلوا لكن تراثهم ما زال متجذرا..صورة مقربة من أربيل

 ‬اعتاد‭ ‬عمر‭ ‬فرهادي‭ ‬في‭ ‬صغره‭ ‬تسخين‭ ‬الطعام‭ ‬لجيرانه‭ ‬اليهود‭ ‬أيام‭ ‬السبت‭. ‬واليوم‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬وجود‭ ‬لليهود‭ ‬في‭ ‬كردستان‭ ‬العراق‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬بقية‭ ‬أنحاء‭ ‬العراق،‭ ‬لكن‭ ‬إرثهم‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬موجودا‭. ‬وتفيد‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬أن‭ ‬أبا‭ ‬الأنبياء‭ ‬ابراهيم‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬أور‭ ‬بجنوب‭ ‬العراق‭. ‬وفي‭ ‬الجنوب‭ ‬أيضا،‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الروايات،‭ ‬تقع‭ ‬جنات‭ ‬عدن‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬أهوار‭ ‬العراق،‭ ‬وهناك‭ ‬أيضا‭ ‬كتب‭ ‬التلمود‭ ‬البابلي‭. ‬وبإيمانهم‭ ‬الراسخ‭ ‬بهذه‭ ‬الجذور،‭ ‬عاش‭ ‬اليهود‭ ‬لسنين‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬حيث‭ ‬شكلوا‭ ‬ثاني‭ ‬طائفة‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬أو‭ ‬أربعين‭ ‬بالمئة‭ ‬من‭ ‬سكانها‭ ‬وفقا‭ ‬لإحصاء‭ ‬أجرته‭ ‬الامبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬في‭ ‬1917‭. ‬لكن‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وبسبب‭ ‬تصاعد‭ ‬التوتر‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬وقيام‭ ‬اسرائيل،‭ ‬فر‭ ‬معظمهم‭ ‬وتمت‭ ‬مصادرة‭ ‬ممتلكاتهم‭ ‬وتلاشت‭ ‬إمكانية‭ ‬عودتهم‭ ‬إلى‭ ‬العراق‭. ‬ويستذكر‭ ‬الصحافي‭ ‬المخضرم‭ ‬عمر‭ ‬فرهادي‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬1938،‭ ‬حي‭ ‬طاجل‭ ‬اليهود‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬قلعة‭ ‬أربيل‭ ‬بشمال‭ ‬العراق،‭ ‬تلك‭ ‬السنين‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬البارحة‭. ‬رحيل‭ ‬ومصادرة‭ ‬الأملاك‭‬ويقول‭ ‬فرهادي‭ ‬لوكالة‭ ‬فرانس‭ ‬برس‭ ‬عند‭ ‬زقاق‭ ‬قيصرية‭ ‬أقدم‭ ‬سوق‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬اربيل‭ ‬يضم‭ ‬حاليا‭ ‬دكاكين‭ “‬هنا‭ ‬كان‭ ‬مكان‭ ‬دكان‭ ‬وكشكين‭ ‬آخرين‭ ‬لوالدي‭. ‬بعدها‭ ‬كل‭ ‬الدكاكين‭ ‬كانت‭ ‬ليهود‭ ‬أكراد‭”. ‬وفي‭ ‬المدرسة،‭ ‬كان‭ ‬لفرهادي‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الزملاء‭ ‬اليهود‭. ‬وحتى‭ ‬معلم‭ ‬اللغة‭ ‬الأنكليزية‭ ‬كان‭ ‬أسمه‭ ‬بنهاز‭ ‬عزرا‭ ‬سليم‭. ‬ويستذكرهذا‭ ‬الصحافي‭ ‬مدرسه‭ ‬قائلاً‭ “‬أحد‭ ‬الأيام،‭ ‬جاء‭ ‬يودع‭ ‬معلمنا‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬وهو‭ ‬مسلم‭ ‬أسمه‭ ‬خضر‭ ‬مولود،‭ ‬وكشف‭ ‬بانه‭ ‬مغادر‭ ‬إلى‭ ‬إسرائيل‭. ‬أحتضنا‭ ‬بعضهما‭ ‬وهم‭ ‬يبكيان‭”‬،‭ ‬معتبرا‭ ‬أنه‭ “‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬نهاية‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬أربيل‭”. ‬وفي‭ ‬1948‭ ‬سنة‭ ‬إعلان‭ ‬اسرائيل،‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬اليهود‭ ‬الموجودين‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬يبلغ‭ ‬150‭ ‬ألف‭ ‬شخص‭. ‬وبعد‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬كان‭ ‬96‭ ‬بالمئة‭ ‬منهم‭ ‬قد‭ ‬رحلوا‭. ‬وهاجر‭ ‬من‭ ‬تبقى‭ ‬منهم‭ ‬بعد‭ ‬الغزو‭ ‬الأميركي‭ ‬للعراق‭ ‬في‭ ‬2003،‭ ‬الذي‭ ‬دشن‭ ‬15‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬العنف‭ ‬شبه‭ ‬المتواصل‭ ‬وتفيد‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الوثائق‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬موقع‭ ‬ويكيليكس‭ ‬أن‭ ‬الجالية‭ ‬اليهودية‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬كانت‭ ‬تضم‭ ‬ثمانية‭ ‬يهود‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬2009‭.‬وتشير‭ ‬أحصاءات‭ ‬رسمية‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬219‭ ‬الف‭ ‬يهودي‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬عراقي‭ ‬في‭ ‬إسرائيل‭ ‬يشكلون‭ ‬أكبر‭ ‬مجموعة‭ ‬لليهود‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬آسيوية‭. ‬وقد‭ ‬صادرت‭ ‬الدولة‭ ‬العراقية‭ ‬ممتلكاتهم‭ ‬ومنازلهم،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مدارسهم‭ ‬بينها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مفتوحة‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬البتاوين‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬بغداد،‭ ‬التي‭ ‬تتداعى‭ ‬يوما‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬بسبب‭ ‬الأهمال‭. ‬لكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬أفعال‭ ‬الذين‭ ‬أستغلوا‭ ‬الحروب‭ ‬واستولوا‭ ‬على‭ ‬منازل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المسيحيين‭ ‬العراقيين‭ ‬الذي‭ ‬هاجروا‭ ‬بعد‭ ‬2003،‭ ‬لم‭ ‬تطل‭ ‬ممتلكات‭ ‬اليهود‭. ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬هو‭ ‬تاريخ‭ ‬تروي‭ ‬بعضه‭ ‬غرفة‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬أربيل‭ ‬التربوي‭ ‬لتخليد‭ ‬ذكرى‭ “‬دانيال‭ ‬كساب‭” ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مدرسا‭ ‬يهوديا‭ ‬كرديا‭ ‬معروفا‭ ‬للفن،‭ ‬وكذلك‭ ‬جميع‭ ‬الأحياء‭ ‬اليهودية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬منها‭ ‬سوى‭ ‬اسمها‭ ‬وتقع‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬حلبجة‭ ‬وزاخو‭ ‬و‭ ‬كويسنجق‭ ‬ومدن‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬أقليم‭ ‬كردستان‭ ‬العراق‭. ‬وأقر‭ ‬برلمان‭ ‬الأقليم‭ ‬في‭ ‬2015،‭ ‬قانونا‭ ‬يعتبر‭ ‬اليهودية‭ “‬دينا‭ ‬محميا‭” ‬وينص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لليهود‭ ‬ممثل‭ ‬رسمي،‭ “‬حتى‭ ‬النواب‭ ‬الإسلاميين‭ ‬صوتوا‭ ‬لمصلحته‭” ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬المسؤول‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الأوقاف‭ ‬والشؤون‭ ‬الدينية‭ ‬للإقليم‭ ‬مريوان‭ ‬نقشبندي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬إحدى‭ ‬زوجات‭ ‬جده‭ ‬يهودية‭.‬وتقول‭ ‬سلطات‭ ‬الإقليم‭ ‬إن‭ ‬حوالى‭ ‬400‭ ‬عائلة‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬يهودي‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬كردستان‭ ‬العراق،‭ ‬لكنها‭ ‬أعتنقت‭ ‬الإسلام‭ ‬وسجلت‭ ‬رسمياً‭ ‬كمسلمة‭.‬

ويؤكد‭ ‬شيركو‭ ‬عثمان‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ (‬58‭ ‬عاما‭) ‬الممثل‭ ‬الرسمي‭ ‬حاليا‭ ‬لليهود‭ ‬في‭ ‬الإقليم،‭ ‬لفرانس‭ ‬برس‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬حقيقة‭ ‬مجتمعه‭. ‬ويقول‭ “‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬عدد‭ ‬العائلات‭ ‬اليهودية‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬كردستان‭ ‬لأن‭ ‬أغلبهم‭ ‬يمارسون‭ ‬دينهم‭ ‬بالخفاء‭ ‬طالما‭ ‬أن‭ ‬القول‭ ‬نحن‭ ‬يهود‭ ‬يعتبر‭ ‬موضوع‭ ‬حساس‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬والشرق‭ ‬الأوسط‭” ‬بشكل‭ ‬عام‭.‬

مع‭ ‬ذلك،‭ ‬كان‭ ‬الإحساس‭ ‬الحقيقي‭ ‬بالهوية‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬مفقودا‭. ‬وتقدم‭ ‬بطلب‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬إذن‭ ‬رسمي‭ ‬لبناء‭ ‬مركز‭ ‬للجالية‭ ‬اليهودية‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬موافقة‭ ‬رسمية‭. ‬وأضاف‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ “‬أريد‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬زعيم‭ ‬يهودي‭ ‬ليعلمنا‭ ‬العادات‭ ‬الصحيحة‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬غير‭ ‬ممكن‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الظروف‭ ‬الحالية‭”.‬

والصلة‭ ‬بين‭ ‬العائلات‭ ‬القليلة‭ ‬المتبقية‭ ‬واليهود‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬عراقية‭ ‬في‭ ‬إسرائيل،‭ ‬تتراجع‭. ‬وقال‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬لفرانس‭ ‬برس‭ “‬الآن‭ ‬يهود‭ ‬العراق‭ ‬الذين‭ ‬غادروا‭ ‬الى‭ ‬اسرائيل‭ ‬في‭ ‬خمسينات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬يجدون‭ ‬طرقا‭ ‬للعودة‭ ‬الى‭ ‬المنطقة‭ ‬الكردية‭ ‬بهوياتهم‭ ‬العراقية‭”. “‬وتابع‭ “‬لكن‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬خمس‭ ‬سنوات،‭ ‬سيموتون‭ ‬وسيتم‭ ‬قطع‭ ‬العلاقة‭ ‬بأكملها‭”.‬

‭ ‬‮«‬لم‭ ‬يبق‭ ‬سوى‭ ‬الذكريات‮»‬‭ ‬

قبل‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات،‭ ‬بدأ‭ ‬تنفيذ‭ ‬أعمال‭ ‬لترميم‭ ‬ضريح‭ ‬النبي‭ ‬ناحوم‭ ‬في‭ ‬القوش‭ ‬بفضل‭ ‬تمويل‭ ‬قدره‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬قدمته‭ ‬الحكومة‭ ‬الأميركية‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تبرعات‭ ‬مقدمة‭ ‬من‭ ‬حكومة‭ ‬الأقليم‭ ‬وأخرى‭ ‬من‭ ‬أفراد‭.‬

وبصمات‭ ‬اليهود‭ ‬ليست‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬كردستان‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬موجودة‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬الموصل‭ (‬شمال‭) ‬والبصرة‭ (‬جنوب‭) ‬والرمادي‭ (‬غرب‭) ‬والعاصمة‭ ‬بغداد‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يوم‭ ‬العطلة‭ ‬الأسبوعية‭ ‬هو‭ ‬السبت‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬يوم‭ ‬عطلة‭ ‬المسلمين‭ ‬الجمعة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬اليوم‭.‬

وكانت‭ ‬هناك‭ ‬عائلات‭ ‬فقيرة‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬العراق‭. ‬لكن‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬نخبا‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬العراقيون‭ ‬يستذكرونها،‭ ‬تضم‭ ‬مطربين‭ ‬كبار‭ ‬وفناني‭ ‬للفولكلور‭ ‬الموسيقي‭ ‬البغدادي‭. ‬واشهر‭ ‬هؤلاء‭ ‬كان‭ ‬ساسون‭ ‬حسقيل‭ ‬وزير‭ ‬المالية‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬حكومة‭ ‬عراقية‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الأنتداب‭ ‬البريطاني‭ ‬عام‭ ‬1920‭. ‬وقال‭ ‬رفعت‭ ‬عبد‭ ‬الرزاق‭ ‬المختص‭ ‬بالتراث‭ ‬اليهودي‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬لفرانس‭ ‬برس،‭ ‬إن‭ ‬حسقيل‭ ‬كان‭ “‬أول‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬أسس‭ ‬النظام‭ ‬المالي‭ ‬العراقي‭”.‬

لكن‭ ‬اليوم‭ ‬منزل‭ ‬حسقيل‭ ‬الواقع‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬نهر‭ ‬دجلة،‭ ‬مهجور‭ ‬ودمر‭ ‬جزء‭ ‬منه‭. ‬وقال‭ ‬عبد‭ ‬الرزاق‭ “‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬أهتمام‭ ‬بالموضوع،‭ ‬لا‭ ‬سياسيا‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬الأبحاث‭”.‬وأضاف‭ ‬بحسرة‭ “‬لم‭ ‬يبق‭ ‬شيء،‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬إلا‭ ‬الذكريات‭”.‬

 

سبعون سنة على رحيل يهود العراق

مضي سبعة عقود، لم تحسم بعد الرواية الحقيقية للنزوح الكبير ليهود العراق، حتى بين المهجّرين أنفسهم. الوجود الذي ينوف في بلاد ما بين النهرين على الألف عام، غدا مستحيلاً بعد زوبعة التغييرات التاريخية التي أرساها تنافس القوى السياسية الطاغية وصراع الأيديولوجيات. سقوط السلطنة العثمانية، الحكم الاستعماري البريطاني الذي تلاه، وظهور الحركات القومية اليهودية والعربية، كل هذا ولّد ضغوطاً سياسية، داخلية وخارجية، على اليهود العراقيين. تجاذُبُ هؤلاء بين اتجاهات مختلفة أدى إلى إلحاق الضرر بهم بالتساوي من كل الإيديولوجيات المتحاربة.لحق التهجير بغالبية اليهود العراقيين غداة تأسيس دولة اسرائيل والنكبة الفلسطينية. بين 1950 – 1951، نحو 120 ألف يهودي عراقي غادروا العراق، معظمهم إلى إسرائيل، في عملية سميت «تسقيط الجنسية»، نسبة إلى إصدار الحكومة العراقية قانوناً يُسقط الجنسية العراقية عن كل يهودي غادر أو يغادر العراق بصورة مشروعة او غير مشروعة. السردية المتعارف عليها لهذا الخروج الكبير، المعروف بين اليهود العراقيين بـ «سنة التسقيط»، تُصوّر هذه الهجرة على أنها نهاية السبي البابلي وتحقّق الوعد الالهي بالعودة الى أرض صهيون.

في التقليد اليهودي، تعتبر بابل إحدى محطات الشتات، وفيها يتكثّف السبي كما عبّرت عنه التوراة: «على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون». بإسقاط المفاهيم الدينية على الخطاب الإثنو – قومي، كان للعقيدة الصهيونية العاملة على جمع الشتات اليهودي في إسرائيل دور في إضفاء التعمية على حركة العبور الملحمي للحدود بين المناطق المتنازعة. وفي الواقع، فإن التسمية الرسمية التي انتشرت لعملية إجلاء اليهود العراقيين جواً إلى إسرائيل (عملية عزرا ونحميا وهما من أنبياء بني إسرائيل)، جعلت من هذه العملية عودة توراتية إلى القدس لإعادة بناء هيكل سليمان. مع ذلك، فإن ما يعدّ غالباً «حصاد المنافي» واستعادة الشتات إلى القدس، هو في الواقع تجربة معقدة ومؤلمة، وصدمة متواصلة عبر الأجيال، أنتجت شعوراً متناقضاً بالانتماء لدى اليهود الشرق أوسطيين الذي نزحوا من بلدانهم.

الرحيل وآلامه

نشوء دولة إسرائيل عام 1948، والهجرة الجماعية الضخمة التي تلتها للفلسطينيين إلى البلدان العربية المجاورة، أدّيا إلى وضع اليهود من السكان الأصليين لبلدان الشرق الأوسط في موقع ضعيف جداً. كان على اليهود العرب التعهد بالولاء لهوية باتت الآن مرتبطة بحركتين متصارعتين («اليهود» و«العرب»)، وكلاهما له تعريفه الجديد وفق رواية تاريخية للانتساب الإثنو – قومي. ورغم تنافرها مع اليهودية التقليدية كدين، فإن إعادة التعريف الصهيونية للتهود كحالة قومية – إثنية ولّدت جدلاً ومعضلة أخلاقية وتوترات بين اليهود العراقيين أنفسهم، خصوصاً بعدما بدأ بعض الشباب من هؤلاء يرون في إسرائيل الخيار الموعود. بعد 1948، باتت الأمور أكثر حدة مع تعرض الفلسطينيين للنكبة، واستفاقة اليهود العرب على نظام عالمي جديد لا مكان فيه بعد اليوم لمن ينتمون إلى اليهودية والعروبة في وقت واحد.

في ظل هذا المحيط المتحوّل بسرعة كبيرة، كان على اليهود في العراق، مصر وسوريا وغيرها أن يدافعوا عن يهوديتهم التي باتت، للمرة الأولى في تاريخهم، لا ترتبط بديانتهم فحسب، وإنما بقومية مستعمِرة. هذه الأحداث البالغة الأهمية أدت إلى حالة عامة من العداء والإجراءات العنصرية ضد اليهود من السكان الأصليين في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ضغط الحركة الصهيونية لتهجير الجاليات اليهودية وإنهاء الـ«الغولا» (الشتات) من جهة، وتنامي الشعور القومي العربي الذي يساوي بين اليهودية والصهيونية من جهة أخرى، أديا إلى الافتراق النهائي لليهود العرب عن بلدانهم. وللمفارقة، فإن رؤية الحركة الصهيونية للعروبة واليهودية كـسمتين متعارضتين كانت تلتقي في هذا السياق مع الخطاب القومي العربي، ما وضع اليهود العرب أمام معضلة حادة ومحيرة. صرامة هاتين الصيغتين، بالتحديد، أنتجت أزمة اليهود العرب، إذ إنّ أياً منهما لم تكن قادرة على احتواء الهويات والعلاقات المتقاطعة والمتعددة.

وعلى الرغم من أن قسماً كبيراً من اليهود العراقيين لم يكن منخرطاً في أي نشاط سياسي – سواء قومي أو صهيوني أو شيوعي – إلا أنهم لاإرادياً أُقحموا، بشكل خطير، في الإيديولوجيات القومية المتنازعة. التصريحات المتعددة الرافضة للصهيونية التي أدلى بها الزعماء الدينيون لليهود، كالحاخام باشي ساسون خضوري (حاخام اليهود ورئيس الطائفة في العراق)، كانت موضع نقاش وعرضة لتفسيرات متعددة، بمعنى هل كانت تلك التصريحات فعلاً تعبّر عن الموقف الحقيقي لهؤلاء الزعماء أم أنها كانت لحماية أبناء طائفتهم. على سبيل المثال، في عام 1936، ومع تفاقم الصراع بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود في فلسطين المنتدبة، أصدر الحاخام تصريحاً باسم «الطائفة الاسرائيلية»، كان الهدف منه إزالة أي شكوك قد تحوم حول الاشتباه بعلاقة ما بين اليهود العراقيين والحركة الصهيونية. وكتب الحاخام: «إن أياً من أفراد الطائفة الاسرائيلية في العراق لا يملك أي علاقة أو اتصال أو نشاط مشترك مع الحركة الصهيونية على أي صعيد من الصعد». وشدّد على أن «يهود العراق عراقيون وجزء من الشعب العراقي».

مع ذلك، وبعد عقد من الزمن، بعد عام 1948، فإن التوتر العقائدي حول مستقبل الطائفة، وما رافقه من توتر بين الزعامة التقليدية للطائفة والحركة الصهيونية السرية، وصل إلى تشنج غير مسبوق. كوسيط بين النظام الحاكم والطائفة، اعتمد الحاخام مقاربة توافقية اعتبر بعض أبناء الطائفة أنها لن تؤدي إلى نتائج، فيما رأى فيها آخرون، خصوصاً الصهاينة منهم، مهادنة واسترضاء لنظام مضطهِد. مع تزايد الاعتقالات لشبان يهود بتهمة الانتماء الصهيوني، نُظّمت تظاهرة ضد الحاخام أدت إلى استقالته من منصبه في ديسمبر/كانون الأول عام 1949.

وحتى لو أن أعداداً متزايدة من اليهود في بلدان كالعراق عبّرت عن رغبتها بالذهاب إلى إسرائيل، فإن السؤال هو لماذا، بشكل مفاجئ، وبعد ألف عام من غياب مثل هذه الرغبة، يريد هؤلاء ترك حيواتهم والمغادرة بين عشية وضحاها. فحتى ما بعد إنشاء دولة إسرائيل، كانت الطائفة اليهودية العراقية تبني مدارس ومشاريع جديدة، ما يؤشر إلى غياب أي نية ممنهجة لمغادرة العراق. النزوح من هذا البلد، بكلمات أخرى، كان نتيجة الاستثمار المباشر في «ألياه» (جمع الشتات اليهودي)، بالمعنى القومي للكلمة، وأيضاً نتيجة ظروف معقدة أدى فيها الذعر والخوف والشعور باللاانتماء دوراً أساسياً. هذا «الحصاد» يبدو وكأن لا مناص منه إذا ما أخذنا في الاعتبار الظروف المعقدة التي أدت إلى المغادرة، وتحديداً: 1) الجهود التي بذلتها الحركة الصهيونية السرية في العراق لتشويه سمعة الزعامة التقليدية لليهود العراقيين ورؤساء الطائفة، كالحاخام ساسون خضوري الذي لم يكن مشاركاً في النسخة الجديدة من اليهودية؛ 2) محاولاتها لدق إسفين بين اليهود والمسلمين في هذا البلد؛ 3) مأسسة الممارسات العربية العنصرية تجاه اليهود؛ 4) الحملة الإعلامية الشعواء ضد اليهود خصوصاً من قبل «حزب الاستقلال»؛ 5) تحفّظ معظم النخب العربية المثقفة عن الجهر بالتمييز بين «اليهود» و«الصهاينة»؛ 6) إخفاق القيادات العربية بالحفاظ على مكان لليهود في الدول العربية؛ 7) اعتقال الشيوعيين، وبينهم يهود، ممن كانوا مناهضين للفكرة الصهيونية؛ 8) الاتفاقات السرية بين بعض القيادات العراقية والإسرائيلية على إجلاء اليهود إلى إسرائيل؛ 9) الالتباس، لدى قسم معتبر من اليهود العرب، حول الفارق بين هويتهم الدينية وانتمائهم وعاطفتهم، وبين مشروع الدولة القومية للصهيونية الذي قُدم على أساس رؤية علمانية أورومركزية، تتماهى في الوقت نفسه مع الخطاب المسيحاني.

وحتى اليوم، لا يزال النقاش حول الظروف التي أدت إلى هجرة اليهود العراقيين يستدعي نزاعاً سياسياً حاداً في مقابل مسألة النزوح الفلسطيني عام 1948. الخطاب القومي العربي الطاغي قدّم الهجرة الجماعية لليهود كمؤشر على الخيانة اليهودية للأمة العربية. والخطاب الإسرائيلي الطاغي، في المقابل، يقوم على رواية تضع الهجرة نفسها في سياق طرد اليهود. وحديثاً، بدأ ربط قضية «النازحين اليهود من البلدان العربية والإسلامية» بالتهجير الجماعي للفلسطينيين عام 1948، كجزء من الجهد المبذول لتفنيد الرواية الفلسطينية حول طرد الفلسطينيين والاستيلاء على ممتلكاتهم. ربط «النكبة» بـ«تسقيط الجنسية» لجهة المساواة المفترضة بين الحالتين، وُضعت في التداول كجزء من سردية «التبادل السكاني». الربط، في هذا السياق، ينحو إلى التخفيف من المسؤولية الإسرائيلية عن التهجير الجماعي للفلسطينيين. وبعض أوجه هذا الخطاب يضمر افتراضاً بأن المسلمين كانوا على الدوام مضطهِدين لليهود، في سياق التاريخ «الإبادي» لليهود. وفي واحدة من أكثر صوره انحيازاً، يدمج هذا الخطاب المسألة العربية – اليهودية بالمحرقة، ومثال على ذلك الحملة التي أطلقت لإدخال «الفرهود» (أعمال عنف ونهب في بغداد استهدفت سكان المدينة من اليهود في 1 يونيو/حزيران 1941) ضمن برامج متحف المحرقة التذكاري في الولايات المتحدة. ويمكن المرء أن يدين العنف الذي رافق «الفرهود» العراقي، وحتى ربطها بالبروباغاندا النازية في العراق، ولكن من دون استغلالها لمساواة العرب بالنازيين، وتكريس السردية المزورة حول العداء الإسلامي الأبدي للسامية. فبعيداً عن حقيقة أنه خلال أعمال «الفرهود» حمى بعض المسلمين جيرانهم من اليهود، نحت السردية الأورومركزية لمسألة اليهود العراقيين إلى التعامل مع أحداث العنف هذه كجزء من الإبادة، مسقطة التجربة التاريخية لليهود في أوروبا المسيحية على الفضاء الإسلامي.

 

المكوث وآلامه

على الرغم من أن غالبية اليهود العراقيين نزحوا غداة قرار تقسيم فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل، إلا أن أقلية من أفراد الطائفة امتنعت عن المغادرة عبر «التسقيط». أسباب هؤلاء للبقاء متنوعة، من بينها أنهم اعتبروا أنفسهم عراقيين أولاً وأساساً، و/أو لأنهم اعتقدوا بأن هذه عاصفة ستمر، و/أو لأنهم، ببساطة، لم يشاؤوا أن ينسلخوا عن حيواتهم. معاناة الانفصال العائلي كانت قد اختبرته عائلة الحاخام ساسون خضوري، إذ إنّ أكثر أبنائه هاجروا إلى إسرائيل فيما بقي بعضهم الآخر في العراق. تابع الحاخام عمله على رأس الطائفة، مواصلاً اعتماد مقاربة مرنة ليهودية قادرة على التكيف مع الأعراف الاجتماعية المتغيرة. وبانغماسه الشديد في حياة أبناء الطائفة، في أفراحهم وأتراحهم، تحول الحاخام إلى رمز حيوي للانتماء اليهودي لهؤلاء. بعد الخروج الكبير لغالبية اليهود العراقيين، انحسرت الأجواء الكارثية التي سادت سابقاً. ورغم استمرار التوتر المرتبط بالصراع العربي – الإسرائيلي، إلا أن هذه الفترة تميّزت باستقرار نسبي بالمقارنة مع العقد الذي تلى انقلاب عام 1963 في العراق، والعنف الذي أعقب حرب عام 1967 العربية – الإسرائيلية.

مع انقلاب عام 1968، كان لسيطرة الديكتاتورية البعثية على العراق تأثير مدمّر على العراقيين بمختلف طوائفهم. التدابير المرعبة التي اتخذت لسحق الأخصام الفعليين أو المفترضين للنظام، أدّت، كما نعرف، إلى سجن وتعذيب وخطف وقتل كثيرين من العراقيين الأبرياء عموماً، لكن القمع استفحل أكثر في حالة اليهود العراقيين الذين باتوا تحت ظلال من الشك الدائم بالخيانة. إخضاع العراقيين للرصد والمراقبة، بات في حالة اليهود منهم اتهامات جاهزة بالتعامل مع «العدو الصهيوني»، وإعدامات علنية، والأهم خطراً وجودياً على الطائفة. القمع الذي مارسه البعثيون بين 1969 و1971 أدى الى مغادرة من بقي من اليهود العراقيين. مع مطلع السبعينيات، استمرت أرقام أبناء الطائفة التي شارفت على الاضمحلال بالتناقص: تبعثر الوجود اليهودي الألفي في بلاد ما بين النهرين، وتوزع بين إسرائيل بشكل كبير، وبين المملكة المتحدة وأميركا الشمالية. مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003، كان عدد اليهود العراقيين المتبقين لا يتعدى العشرات مع سقوط نظام صدام حسين. فرغم أن أفرادها من السكان الأصليين لهذه البلاد، ورغم رسوخ بناها الاجتماعية، كانت الطائفة اليهودية تحت ضغط مرعب أدى إلى تداعيها.

 

يهود العراق والتعايش العربي اليهودي

undefined

يهود العراق والتعايش العربي اليهودي

undefined

محمد جلاء إدريس

تاريخ الأقلية اليهودية العراقية

يعتبر اليهود في العراق من أقدم الطوائف اليهودية في العالم بأسره، إذ يرجع تاريخ وجودهم إلى عهد الإمبراطورية الآشورية الأخيرة 911-612 ق.م، وذلك في أعقاب عدة حملات قام بها الآشوريون على فلسطين وحرروها من اليهود ونقلوا من فيها إلى أماكن جبلية نائية شمال العراق.

ولما قضى الكلدانيون البابليون على الآشوريين وأسسوا دولتهم في بابل 612-359 ق.م كان من أهم أعمالهم القضاء على مملكة يهوذا في فلسطين، فسبي يهودها إلى بابل على يدي نبوخذ نصر الثاني الذي حكم فيما بين 605-562 ق.م.

منذ العهد البابلي والوجود اليهودي في العراق مستمر ومتواصل حتى احتلت الجالية اليهودية العراقية مكانة مرموقة بين سائر الجاليات اليهودية الأخرى، إذ أصبحت في عصر التلمود مركزاً لليهودية وموجهاً دينياً وروحانياً ليهود الشتات في العالم كله ولعصور متوالية، وذلك عن طريق مراكزها العلمية الشهيرة في نهر دعه وصورا وبومباديتا.

ومن هنا فقد حاولت الطائفة أن تنمي فيما بينها الشعور بأن بلاد الرافدين هي البلاد التي اختارها الله وطناً لهم، حيث قويت هذه الفكرة وانتشرت بين علماء اليهود وبخاصة في القرن الثالث الميلادي، كما نَمَّتْ الطائفة طبقات من رجال العلم والتوراة قاموا بشرح كثير من نقاط وقضايا “المشنا” (الشريعة الشفوية) حتى تجمعت هذه الشروح والتفاسير من جيل إلى جيل مكونة ما يسمى بالتلمود البابلي.

 

 

 


لم يشهد يهود العراق “الغيتو” الذي شهده إخوانهم في الغرب، بل لقد قرر البعض أن الفكر اليهودي والفلسفة اليهودية وحتى القانون اليهودي ذاته قد تم تصنيفها وتشكيلها تحت تأثير الحضارة العربية الإسلامية

في ظل الحكم الإسلامي
تقلبت أحوال الطائفة وفقاً لأحوال الإمبراطورية الفارسية حتى جاء الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، حيث رأى اليهود فيه طوقاً للنجاة من الاضطرابات والاضطهادات الفارسية لهم، فاستقبلوا الفاتحين المسلمين بالرضا والسرور، وعاشوا فترة من الازدهار والأمان في ظل الخلفاء الراشدين ثم الدولة الأموية، وبلغت قمة الازدهار في العصر العباسي بعامة.

وفي أعقاب سقوط بغداد في أيدي المغول، عانى اليهود العراقيون -كغيرهم من سكان البلاد المسلمين- من اضطهادات المغول، واضطر كثير منهم لترك المدينة والهروب إلى كردستان وسوريا، وبخاصة أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر الميلاديين.

 

ويمكن القول عموماً إنه باستثناء فترة الغزو المغولي، نعم اليهود في العراق بحياتهم وأمنوا على ممتلكاتهم وتمتعوا بنفوذ كبير وبحرية دينية واقتصادية، وكانت لهم إداراتهم المدنية المستقلة ومحاكمهم الدينية الخاصة، وذلك خلال الحكم الإسلامي. وتذكر المصادر أنه كان لليهود في العراق كلها خلال القرن الثاني عشر الميلادي 10 مدارس دينية و238 كنيساً.

 

وقد شهد اليهود فترة حرجة إبان الصراع بين الفرس والأتراك للسيطرة على العراق، إذ واجه اليهود اضطهادات من قبل الفرس حتى انتهت سيطرتهم على العراق عام 1638 حين جاء الأتراك، وبدأت أوضاع اليهود العراقيين تسير في طريقها إلى الأفضل. وقد اعتبر اليهود يوم دخول السلطان التركي إلى بغداد “يوم معجزة”، واستطاعوا خلال فترة الحكم العثماني (1638 – 1917) أن يمارسوا أمور حياتهم بحرية تامة، واتسعت الطائفة وتعاظمت وعاش أفرادها جنباً إلى جنب مع مسلمي العراق الذين كانوا يرون أنفسهم مسؤولين عن حماية جيرانهم وأصدقائهم من اليهود.

 

وكان اليهود في ظل الخلافة الإسلامية العثمانية محل اهتمام سلاطينها وحظوا بكثير من التشريعات التي تكفل لهم حقوقهم، ويتضح هذا في محاولات السلطان مصطفى الثالث الإصلاحية (1757-1789) ومرسوم السلطان عبد الحميد الصادر يوم 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1839 ومرسومه الصادر عام 1856.

 

وتكاد المصادر المختلفة تجمع على أن يهود العراق قد تمتعوا بجميع حقوقهم وحرياتهم وأن علاقاتهم مع المسلمين كانت طيبة للغاية، وأنهم لم يشهدوا ذلك “الغيتو” الذي شهده إخوانهم في الغرب. بل لقد قرر البعض أن الفكر اليهودي والفلسفة اليهودية وحتى القانون اليهودي ذاته قد تم تصنيفها وتشكيلها تحت تأثير الحضارة العربية الإسلامية. كما تطورت اللغة العبرية في قواعدها وألفاظها طبقاً للغة العربية، بل استخدم اليهود اللغة العربية في شتى الأغراض الدينية والدنيوية على عكس موقف اليهود من اللاتينية في أوروبا.


التنظيم الطائفي والديني

في ظل العهد العثماني تمتعت الأقليات الدينية باستقلالها الذاتي في الإشراف على أمورها الدينية وإدارة مؤسساتها الخيرية والتعليمية مع اتصال هذه الأقليات في النهاية بجهاز الدولة العام. وقد كان على رأس الطائفة اليهودية جهاز ديني مدني، وكانت الأمور الدينية بيد رئيس الحاخامية “حاخام باشا” الذي يعين من قبل الباب العالي. أما الإدارات الطائفية فكانت بيد إحدى الشخصيات التي تنتمي إلى عائلات يهودية رفيعة المقام ويسمى “ناسي” أي الرئيس. ويأتي بعد هاتين الشخصيتين مجلس مكون من عشرة أشخاص ومحكمة حاخامية برئاسة الحاخام باشا، كما كانت للطائفة اليهودية في بغداد مؤسساتها التي تتلقى الدعم المادي من صندوق الطائفة.


مشاركة اليهود في الحياة العامة

 


كان للقوانين التركية التي صدرت بين عامي 1839 و1914 الفضل في تحسين أوضاع يهود العراق أسوة بغيرهم من يهود البلاد الإسلامية الأخرى الخاضعة للدولة العثمانية

النشاط الاقتصادي

برزت مكانة اليهود -خلال الفترة الأخيرة من الحكم العثماني- في مجال التجارة والأعمال، وكان رئيس صيارفة الوالي المعروف باسم “صراف باشا” يهودياً، واشتهر من بين هؤلاء الصيارفة ساسون بن صالح بن داود الذي تقلد هذه الوظيفة أعواماً طويلة.

وقد انتشر يهود العراق في المدن والقرى العراقية ولا سيما بغداد والموصل والبصرة وكركوك، وكانوا يقومون بالأعمال الاقتصادية المختلفة، وكانت لهم علاقات تجارية وثيقة بالهند وإيران. وازدهر هذا الدور إثر افتتاح قناة السويس في مصر عام 1868، وتعاظم دورهم في أعقاب الاحتلال البريطاني للعراق بعد الحرب العالمية الأولى عام 1919.

وتولى العديد من يهود العراق رئاسة المصالح الاقتصادية والمكاتب الحكومية، وكان لهم بنوك عديدة منها بنك زلخة وبنك كريديه وبنك إدوارد عبودي وغيرها، كما احتكروا عدة صناعات كالأبسطة والأثاث والأحذية والأخشاب والأدوية والأقمشة والتبغ والجلود وغيرها، واحتكروا استيراد بعض السلع مثل منتجات شركة “موبيل أويل” الأميركية، كما عملوا في معظم المهن الحرة كالطب والصيدلة والصحافة والطباعة.

وبلغت مساهمة يهود العراق في الحركة الاقتصادية أوجها قبيل الحرب العالمية الثانية، إذ كان أكثر من نصف الأعضاء الثمانية عشر بغرفة تجارة بغداد من اليهود وكان من بينهم الرئيس والسكرتير.

 

النشاط الاجتماعي والسياسي
كان للطائفة اليهودية في العراق مؤسساتها الخيرية الخاصة التي تقدم لأفرادها الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية، مما جعل المستوى الاجتماعي العام للطائفة فوق المعدل العام للسكان. وبرزت في ذلك المجال جمعية شومري متسفا (المحافظون على الشريعة) حيث كان لها دورها في مجال النشاط الاجتماعي. كما تعددت الجمعيات الخيرية اليهودية في بغداد، وكانت لها نشاطاتها المتعددة وخدماتها المتميزة لأبناء الطائفة.

ولم يكن مصرحا لليهود بالخدمة العسكرية، وكانت الحكومة التركية تقدر مبلغاً سنوياً تدفعه الطائفة ويعرف ببدل العسكرية مع إعفاء لرجال الدين وأولادهم من دفع هذا المبلغ. وظل هذا الوضع قائماً حتى بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، حيث أصدرت الحكومة بياناً تضمنت الفقرة الأولى منه ضمان حقوق الأقليات ومنحها المساواة في الحقوق المدنية والسياسية وغيرها.

 

ويمكن القول إن الطائفة شهدت تغيراً كبيراً في جوانب حياتها الاجتماعية المختلفة في أعقاب الاحتلال البريطاني للعراق، حيث ظهرت علامات الانفتاح على الغرب وتناقص التمسك بالشرائع اليهودية. وكان للطائفة بالعراق مجلس ينتخب أعضاؤه من بين أفراد الطائفة كل أربع سنوات، ثم أصبح كل سنتين فيما بعد.

أما فيما يتعلق بمشاركة الطائفة في الحياة السياسية العامة، فقد كان لليهود مندوب تنتخبه الطائفة ليمثلها في مجلس “المبعوثين” الذي افتتحه الأتراك عام 1876. ولما أعلن الدستور العثماني عام 1908 قابله اليهود بالترحاب، كما رحبوا بالحكومة العراقية الجديدة تحت الانتداب البريطاني، وتم تعيين اليهودي ساسون حزقيال أول وزير للمالية العراقية عام 1921 بالإضافة إلى يهود آخرين تولوا مناصب حكومية مهمة في العراق.

وكشأن سائر الأقليات كان لليهود ممثلون في مجلس النواب والأعيان بالعراق. وقد نصت الفقرة الثانية من المادة الثالثة من قانون المجلس التأسيسي عام 1922 على أن يكون من بين الأعضاء يهوديان من بغداد وواحد من كل من البصرة والموصل وكركوك، كما نصت المادة التاسعة من قانون انتخاب النواب (رقم 11 لعام 1946) على أن يمثل اليهود العراقيين ثلاثة نواب من بغداد، ونائب عن الموصل، إلى جانب من يمثلهم في مجلس الأعيان.

وباستثناء بعض الحوادث التي وقعت نتيجة عوامل خارجية، لم يواجه يهود العراق أي مصاعب من قبل المسلمين وبخاصة في الفترة الواقعة من منتصف الستينيات من القرن التاسع عشر وحتى الهجرة الجماعية من العراق في منتصف القرن العشرين.

وقد كان للقوانين التركية التي صدرت منذ عام 1839 وحتى عام 1914 الفضل في تحسين أوضاع يهود العراق أسوة بغيرهم من يهود البلاد الإسلامية الأخرى الخاضعة للدولة العثمانية، حتى أنهم توقفوا عن دفع الجزية التي كانت مقررة عليهم.

 

 

 


شهد القرن العشرين نهضة يهودية فيما يتعلق باستخدام اللغة العربية، إذ اتجه الشباب اليهودي في العراق إلى البحث والتأليف بالعربية ممثلين بذلك انتصاراً للتيارات العلمانية التي سادت الطائفة في ذلك الوقت

التعليم والثقافة
منذ أن أغلقت “اليشيفا” (مدرسة دينية عليا) في العراق أبوابها في القرن 13م، اقتصر التعليم اليهودي على “الحيدر” (يشبه الكُتَّاب عند المسلمين)، ولم تكن هناك صورة منظمة للالتحاق بهذه المؤسسات العلمية، وكان القادرون وحدهم هم الذين يحظون بنصيبهم من التعليم، الأمر الذي أقلق أفراد الطائفة في العراق. واقترح الحاخام موسى بن شموئيل هاليفي إنشاء “مدراش” (مدرسة دينية) لتعليم أبناء الفقراء، وقد تحقق ذلك على يدي ابنه هارون عام 1832. وقد انتشر “الحيدر” في شتى أنحاء العراق. وكان التعليم قاصراً على العلوم الدينية، كما أن مناهج الدراسة كلها كانت باللغة العربية.

 

وتشهد الطائفة تحولاً كبيراً بافتتاح أول مدرسة تابعة “للأليانس” عام 1864 على يدي جمعية “كل إسرائيل أصدقاء”. وقد ركزت هذه المدرسة على الثقافة العامة واللغات وبخاصة الإنجليزية والفرنسية، وكانت لغة التدريس فيها هي الفرنسية، كما درس الطلاب الإنجليزية والعربية والعبرية والتركية بالإضافة إلى العلوم الأخرى كالحساب والجغرافيا والتاريخ وغيرها. وانتشرت هذه المدارس في شتى أنحاء العراق مع بداية القرن العشرين، وكان من بين خريجيها من سافر لاستكمال دراسته في تركيا والهند وإنجلترا وفرنسا وعاد إلى العراق ليكون نموذجاً يحتذى به من قبل أبناء طائفته.

 

وكان من المسموح به ليهود العراق الالتحاق بالمدارس الحكومية، ودأبت الحكومة على إرسال مدرس للدين اليهودي في كل مدرسة بها تلاميذ يهود، كما أقامت الحكومة عام 1933 مدرسة حكومية للبنات خاصة باليهود أسوة بالمسيحيين واسمها “مدرسة منشى صالح” ثم أنشئت أخرى للبنين عرفت باسم “رأس القرية”.

 

ويمكن ملاحظة الاهتمام الخاص بتدريس اللغة العبرية وبخاصة في أعقاب الاحتلال البريطاني للعراق، كما كانت الدعوة توجه إلى مدرس العبرية من فلسطين إلى العراق.

 

وقد ظهرت آثار كبيرة لتغيير مناهج التعليم في المدارس اليهودية وتدريس اللغات الأجنبية والحية ودروس المحاسبة ومسك الدفاتر وتعليم المهن والحرف والمساعدات المالية التي تتلقاها هذه المدارس اليهودية من الأثرياء والأوقاف ووزارة المعارف.. وهو ما أسهم في خلق وضع متميز للمدارس اليهودية في العراق عامة وفي بغداد خاصة، وانعكس ذلك كله على المجال الأدبي، فظهر من بين أبناء الطائفة شعراء وأدباء كتبوا بالعربية، كما أعطت الصهيونية -التي بدأت تمارس نشاطها بالعراق- دفعة قوية للغة العبرية، وإن كان ذلك في معظم الأحيان قد اتخذ صورة غير رسمية.

 

ولعل أول مطبعة عبرية تأسست في العراق كانت عام 1863 على يدي موسى باروخ مزراحي حيث قامت بطباعة أول جريدة عبرية وسميت “هادوفير” أي المتحدث، كما نشرت بعض الكتب. ومع أوائل القرن العشرين أنشئت مطابع أخرى قامت بطباعة العديد من الكتب العبرية، وكانت أشهر دور النشر اليهودية دار “رحمايم” في بغداد، وكان إنتاج هذه الدور يلقى رواجاً بين الطوائف اليهودية في الهند والصين.

 

وتشير الدلائل التاريخية إلى معرفة يهود العراق للغة العربية قبل الفتح العربي، حيث عاش بعض اليهود والنصارى في دولة الحيرة العربية التي كانت قريبة من العراق، كما تم إجلاء يهود نجران إلى الكوفة العراقية حوالي سنة 20 هجرية حسب رواية الواقدي، ويضاف إلى ذلك كله احتكاك اليهود التجار بالشعوب الأخرى وما يتطلب ذلك من إلمام بلغات الشعوب والأمم. أما بعد الفتح الإسلامي العربي للعراق، فقد عمل كثير من يهود العراق تحت إمرة الولاة العرب في مجالات إدارية عديدة، بل ومنهم من عمل في مجال علوم اللغة العربية كالأدب والنحو.

كما كانت ليهود العراق لهجة عربية خاصة بهم، وكتبوا كذلك بعض مؤلفاتهم بلغة عربية بحروف عبرية وبخاصة في مجال العلوم الدينية، كما برز منهم أدباء وشعراء كتبوا بلغة عربية فصحى، وترجموا إليها من لغات كانوا يعرفونها كالآرامية واليونانية.

 

وشهد القرن العشرون نهضة يهودية فيما يتعلق باستخدام اللغة العربية، إذ اتجه الشباب اليهودي في العراق إلى البحث العلمي والتأليف الأدبي بالعربية ممثلين بذلك انتصاراً للتيارات العلمانية التي سادت الطائفة في ذلك الوقت. وكان أول كتاب صدر بالعربية الفصحى في هذا القرن عام 1909 وعنوانه “الثورة العثمانية” لليهودي العراقي سليم إسحاق، كما صدرت صحيفة عربية تركية هي صحيفة “الزهور” التي حررها اليهودي نسيم يوسف سوميخ وغيره.

 

العلاقات الإسلامية اليهودية

من خلال عرض أحوال الطائفة اليهودية بالعراق يمكن القول إن العلاقة بين مسلمي العراق ويهودها على المستوى الرسمي والشعبي كانت جيدة للغاية، إذ لم يكن هناك ما يعكر صفوها، حيث كانت الطائفة تنعم بالحياة الآمنة المستقرة مع سائر سكان البلاد.

ولم تكن الشدائد والصعاب التي مرت بالعراق في بعض فترات تاريخه لتميز بين مسلم ويهودي ومسيحي. وقد انعكست هذه العلاقات الطيبة في أدبيات يهود العراق على نحو ما نجد عند القصاص أنور شاؤول وسمير نقاش وإسحاق بار موشيه وغيرهم.

 

ولم يفكر يهود العراق في ترك البلاد خلال العصور المختلفة، وجميع من هاجر خلال القرنين الماضيين -مثلا- كانت دوافعهم إما تجارية حيث اتجهت بعض العائلات نحو الهند والشرق الأقصى، أو دينية إذ هاجر بعض العائلات أيضاً إلى فلسطين منذ منتصف القرن 19.

وبسبب تسرب الفكرة الصهيونية القومية إلى يهود العراق وإقامة إسرائيل شهد العراق هجرة جماعية لمواطنيه اليهود، ولم يبق منهم إلا القليل لا تتوفر أي معلومات موثقة عنهم خاصة بعد الأحداث الأخيرة التي ألمت بالعراق.