نوسوسيال

بقلم ضياء اسكندر : كنّا أشقّاء، وسنبقى..

317

أول زيارة لي لمدينة الحسكة حصلت في صيف عام 1984. وكانت بمهمّة وظيفيّة للمشاركة مع ورشة دمشق المركزية في تركيب أجهزة لاسلكية لسيارات الصيانة والطوارئ العائدة لشركة كهرباء الحسكة. بغرض تحسين الأداء من خلال سهولة الاتصال والسرعة في توجيه العمال وإبلاغهم عن الأعطال أنّى كانوا.

كانت فرحتي كبيرة للتعرّف على هذه البقعة الجغرافية النائية من وطني العزيز. لذلك فقد سافرتُ بالقطار قبل موعد مجيء زملائي بيوم من شدة تَوْقي إليها. لدى بلوغي الشركة، كانت على بوّابتها سيارة شاحنة محمّلة ببكرات كابلات كهربائية، وعدد من العمال يقومون بتفريغها ودحرجة بكراتها إلى المستودع.

اقتربتُ من أحد العمال وسألته:

–  لو سمحت، أين مكتب المهندس المسؤول عن قسم الطوارئ؟

وقف هنيهةً متفكراً وسرعان ما أضاء وجهه نور التذكّر المباغت، فأشار بيده إلى أحد العمال كان يقوم بدحرجة بكرة كغيره من العمّال وهو يتصبّب عرقاً. وأجاب:

–  ذاك الشابّ الطويل الذي يرتدي بنطال جينز وقميص أزرق نصف كمّ، هو رئيس القسم.

أُصِبْتُ بحالة من الذهول والدهشة؛ فقد تعوّدنا أن يتميّز المهندس بلباسه وأناقته ومكتبه وسيّارته.. لا أن تغيب عن شخصيته ومكانته كل تلك السِمات. اقتربتُ منه وربّتُّ على كتفه بمحبّة وقلت له:

–  أستاذ أنا موفد من اللاذقية إليكم لتركيب أجهزة اللاسلكي لورشاتكم..

نفض يديه بخفّة وعيناه تبرقان فرحاً في زهوِ المنتصر. تفحّصني لثواني ثم عانقني مرحّباً وكأنه يعرفني منذ سنوات.. وقال لي كلمةً واحدة تعبّر عن فيض لهفته بتحقّقِ ما كان يصبو إليه:

–  وأخيراً!

فقد كان محبطاً من كثرة مراسلاته للوزارة التي يطلب فيها ضرورة تزويد ورشاته بأجهزة اللاسلكي أسوةً بأغلب شركات الكهرباء في محافظات القطر.

 من خلال علاقتي اليومية معه لمدة خمسة عشر يوماً تعمّقت معرفتي به. وعرفتُ أنه شيوعي كردي درس في الاتحاد السوفييتي. وكان حريصاً على مرافقتنا أثناء عملنا كلما تسنّى له الوقت. ويترقّب بحماس وصولنا إلى لحظة إطلاق صافرة النهاية معلنةً بأن مهمتنا قد تكلّلت بالنجاح.

أذكر أنني سألته في إحدى جلسات الاستراحة بعد أن توطّدت ثقتنا ببعض:

–  رفيق، هل ترغب بإقامة دولة كردية تضمّ أكراد سورية والعراق وإيران وتركيا؟ وهذا حقّكم طبعاً كما هو الحال لدى باقي شعوب العالم.

فأجاب بهدوء والبسمة لا تفارق وجهه الجميل الملوّح بالسُّمرة، بعد أن أدنى رأسه نحوي كأنّما يخشى أن تسمعه الجدران:

–  بالتأكيد أتمنّى. إلا أن الظروف الإقليمية والدولية لا تسمح بذلك. ونحن في سورية لا تعني لنا القومية الكردية أكثر من كونها حالة تراثية؛ نرغب أن نتمكّن من خلالها التحدّث بلغتنا دون خوف. ونحتفل بأعيادنا ومناسباتنا دون تنكيل من السلطة. نحلم أن يكون لدينا صحف وإذاعات وقنوات تحكي عن همومنا وثقافتنا وطموحاتنا وآمالنا.. نحن لا نريد إقامة كيان كردي مستقل؛ فسورية بلدٌ صغيرٌ لا يتحمّل التقسيم. ثم إن الأكراد والعرب والسريان والآشور وباقي الأقليات القومية.. لا تشغل كانتونات مغلقة؛ ففي الحيّ الواحد، في القرية الواحدة، في المدرسة، في إدارات الدولة ومؤسساتها.. توجد فيها كل المكوّنات التي ذكرت. ونعيش مع بعضنا كالأخوة. أقصى ما نحلم به في هذا المجال هو إنصافنا ورفع الظلم عنّا وإعادة الجنسية لعشرات الآلاف مِمّن حُرِموا منها منذ عام 1962. نريد إدارة محلّية حقيقية دون وصاية. وتنمية متوازنة عادلة في كافة المناطق. (وأضاف مقطّباً) لا يُعقل أن نقدّمَ للعاصمة مثلاً 20% من الدخل الوطني، ونُخَصّصُ بـ 1,5% من الموازنة العامة! صدّقني يا رفيقي، عندما تتمتّع بحقوقك وكرامتك، وتشعر بوجودك الإنساني المحترم، بغضّ النظر عن انتمائك القومي والديني والسياسي وغيره.. لن تعودَ تشغل بالك؛ لا القومية ولا غيرها. ولا تفكّر حينها بالدولة المستقلة..

أذكر عندما انتهت مهمّتنا، وقمنا بإجراء الاختبارات الأولية للاتصال اللاسلكي وتأكّدنا من نجاحها، تملّكه انفعالٌ طروب. وشرع يصفّق وهو يتوهّج من الفرح والسعادة كطفلٍ اشترى لعبة جديدة. وأصرّ على دعوتنا لتناول الغداء احتفالاً بهذا الإنجاز الكبير. الذي طالما سعى إليه لمواكبة العصر في أحدث تقنيّاته. ولن أنسى ما حُييت الجولة السياحية التي أطلعني فيها على أهمّ معالم شرق الفرات.

نسيتُ اسم ذلك المهندس الكردي المتواضع النبيل. وأتمنى من كل قلبي أن يكون ما زال حيّاً،  ويقرأ ما كتبته في هذه الصحيفة ويعاود الاتصال بي.

نعم، لقد كنّا أشقّاء وسنبقى.