نوسوسيال

أَنَّ الظَّالِمِينَ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ

327

 

متغيرات متسارعة تضرب المنطقة منذ ولوجنا السنة الجديدة والتي إن استمرت بهذا الشكل سنشهد تطورات عديدة تشهدها بشكل عام أو في كل دولة على حدا. فبعد أكثر من 3 شهور على الانتخابات التي جرت في العراق والنتائج التي كانت غير متوقعة للأطراف التي اعتادت الفوز بالانتخابات السابقة والتي لم تستطع الحصول على نسبة مرتفعة من الأصوات، كل ذلك كان عامل حاسم في عملية الشد والجذب في

التصريحات ما بين الطرفين الفائزين في الانتخابات. فمن جهة حصل السيد الصدر على النسبة الأكبر في هذه الانتخابات والتي وصلت 73 كرسي في البرلمان، وبينما الأطراف الأخرى كانت نسبة مقاعدها قليلة مقارنة بالانتخابات السابقة وحتى الحالية. هذا التغيير المفاجئ في الانتخابات بكل تأكيد له أسبابه الكثيرة منها عدم ثقة الشعب بهم بعد أن أعاد انتخابهم عدة مرات ولكنهم لم يقدموا شيئاً للشعب وخاصة من الناحية الخدمية وكذلك الأمنية.

 

الأمر الآخر الذي له تأثير في هذه النتائج الانتخابية هي الصراع الإيراني الغربي وخاصة أن الطرفين في حالة صراع من أجل عقد جولة أخرى من الاتفاقية النووية والتي لم تصل إلى أية نتيجة حتى الآن، والتدخلات الإقليمية، كل ذلك كان له التأثير المباشر وغير المباشر على الانتخابات وكذلك اعلان نتائج الانتخابات التي تأجلت مدة من الزمن.

الأمر الذي حصل في الجلسة الأخيرة في البرلمان كان متوقعاً وخاصة أن عملية الشدّ والجذب لا زالت مستمرة ما بين الطرفين المتنافسين على السلطة وهم الطرفين الشيعيين واللذين يعرفان بالاطار التنسيقي والتيار الصدري، وهذا التنافس على السلطة لكل طرف مبرراته في التمسك بها. بشكل عام أعتقد أن جلسات البرلمان سوف تستمر وعملية تشكيل الحكومة سوف تستغرق وقت طويل نوعاً ما حتى يتفق الطرفان على صيغة ما على الأقل لتجنيب العراق فترة صراع ستكون دموية على الطرفين، وإن أصرّ كل طرف على الامتيازات التي يريد الحصول عليها بغض الطرف عن النتائج الرسمية للانتخابات. ولكن إن لم يتفق الطرفين أو لنقل لم تنجح المفاوضات في جنيف ما بين ايران من جهة واوروبا وأمريكا من جهة أخرى سيكون له تأثير مباشر في العراق وربما ستحول العراق ثانية إلى ميدان حرب بالوكالة لتصل شراراتها إلى لبنان وسوريا واليمن.

وهناك ثمة مشكلة أخرى ربما تتصدر المشهد وهي الصراع الكردي الكردي على الاستحقاق الرئاسي. حيث من المتعارف عليه أن حصة رئاسة العراق كانت من نصيب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي كان يتزعمه الرئيس الراحل جلال الطالباني، ولكن منذ الرئاسة السابقة أظهر الحزب الديمقراطي الكردستاني والذي يتزعمه السيد مسعود البارزاني نيّته في الاستحواذ على هذا المنصب، ولكن إصرار الاتحاد على هذه المنصب في الفترة السابقة تم تمريره نوعاً ما، لكن الآن وبعد الانتخابات الأخيرة أعاد الديمقراطي الكردستاني مرة ثانية نيته في الاستحواذ على هذا المنصب، وحتى الان هناك حالة عدم استقرار وكذلك تراشق كلامي واعلامي ما بين الطرفين (الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني)، في وقت يصرّ كل طرف على هذا المنصب.

أما في سوريا، فبعد حالة زواج المتعة ما بين روسيا وتركيا وشهادة الضامنين المزيفة ومعهم إيران وسلسلة اجتماعات استانة وسوتشي وما تمخض عنها من ويلات على عموم الشعب السوري كلٌ حسب التوافق ما بين هذه الأطراف. ولم يسلم من وحشية تنفيذ اتفاقاتهم لا النظام ولا المعارضة المرتمية في أحضان الدولة التركية ولا كذلك مناطق شمالي وشرقي سوريا التي تعتبر تحت سيطرة مجلس سوريا الديمقراطي. حيث كان الضامنين يتوافقون فقط على مصالحهم الخاصة على حساب الشعب السوري في مناطقهم الثلاث. الآن وبعد المستجدات التي أحاطت بأوزبكستان وأوكرانيا، نرى ان التوافق الروسي – التركي يعيش حالة الموت السريري نتيجة تدخل تركيا في النزاعين في أوزبكستان وأوكرانيا وذلك بإرسالها المرتزقة من سوريا إلى هناك حسب ما هو مطلوب منها وفق الأجندات الدولية.

وإيران الوضع الذي تعيشه لا يختلف كثيراً عمّا يحصل في العراق أو سوريا. فالوضع الداخلي مشتت كثيراً وحالة اقتصادية خانقة يعيشها الشعب هناك ووضع احتقاني كبير وخاصة في الأحواز ومناطق أخرى. بالإضافة لحالة الحصار الذي يضيق على إيران يوماً بعد يوم.

أما لبنان الذي يهوي في فراغ الدولة الهشة فلا أمل يلوح في الأفق للخروج من المستنقع الذي أدخل لبنان فيه حسب التوازنات الطائفية والتوافقات الإقليمية والدولية. بكلمة أن لبنان يعيش مشاكل وتناقضات الدول الإقليمية والدولية أكثر مما يعيش حالته الداخلية. وهو نفس الوضع في اليمن وليبيا وأرمينيا التي لا زالت تبحث عن صديق تتكئ عليه لتخرجه من الصديق الروسي المنافق الذي أدخلها في حالة لا يحسد عليها.

كل هذه النزاعات والتي ربما تتحول لصراعات سلطوية إن كانت على تشكيل الحكومة أو منصب الرئاسة سوف تتأثر بشكل مباشر بالتجاذبات الإقليمية والدولية والصراعات التي ما بينها بنفس الوقت.
تتلاقي مشاريع قوى الهيمنة في منطقة الشرق الأوسط والتي تعمل كلا منها وفق أجنداتها العلنية (خدمة شعوب تلك الدول) ومخفية تنفيذاً لـ (أطماع)، تخدم مصالحها في الدرجة الأولى. فالتفجير الذي

تعرض له ميناء بيروت في 4 أغسطس 2020 بكل تأكيد له علاقة بشكل من الأشكال بالغارة الذي تعرض له ميناء اللاذقية السوري في شهر ديسمبر من العام المنصرم، وله علاقة بالذي حصل أو الذي سيحصل في ميناء أم قصر أكبر موانئ العراق. وهو صراع شكله امريكي – إيراني وبنفس الوقت صراع أمريكي روسي وصيني لوأد مشروع “الحزام والطريق”.

صراع قوى الهيمنة فيما بينها سيكون له تداعياته بشكل مباشر على المنطقة برمتها وذلك لغياب مشروع فكري نهضوي نعاني منه ويكون بديلاً عمّا هو مطروح من قِبل الآخرين. هذا التصحر الفكري النهضوي والتجديدي ينتشر في كل مفاصل المصطلحات الفكرية والمعرفية ربما كانت له ظروفه الموضوعية والذاتية والتي كان لها التأثير الكبير عمّا نعيشه في راهننا.

بكل تأكيد للخروج من عنق الزجاجة ومستنقع التخبط الفكري الاستهلاكي ينبغي بالدرجة الأولى أن يكون ثمة بوادر لمشروع نهضة وإصلاح وتنوير لكل ما ورثناه من علوم اجتماعية واقتصادية وثقافية ودينية وسياسية ودينية، يقوم عليها مجموعة من المتنورين والمثقفين والمتكئين على قوة دافعة من الحكومات الوطنية التي لها هدف معين كي يكون لها موطئ قدم في مستقبل الأيام. إذ، لا يمكن الاعتماد على الكهنة أياً كان موقعهم إن كانوا من كهنة (السياسة – الاقتصاد – الدين – الثقافة –

علوم الاجتماع)… الخ، وانتظارهم كي يقدموا مشاريع إصلاحية، لأنهم بكل تأكيد لن يتخلوا عن مصالحهم المادية والسلطوية التي يشفطونها كرمىً لعيون المجتمعات والشعوب. كهنة السلطة والمال والجاه إن كانوا دولاً أو شخوص أو أطراف سيحاولون بكل جهودهم عرقلة أية عملية تنموية واصلاحية تتم في أي مكان. هكذا علّمنا التاريخ الذي إن تصفحنا أوراقه لرأينا الكثير من الدروس فيها تعظنا بهذه الأمور

الكبيرة. لأن كل من يبحث عن السلطة والمال يكون هدفه الأول والأخير هو الإبقاء على المجتمع في حالة من الجهل المعرفي والفكري كي يسهل السيطرة عليهم وتسييّرهم كيفما يشاؤون وأينما يريدون.
ولطالما استغل الكهنة الدين من أجل فرض سيطرتهم ليس فقط على المجتمعات والشعوب، بل حتى على الحكام بذاتهم. وأي عملية اصلاح سيكون لها عواقب وخيمة على من يفكر بذلك. هذا ما هو مكتوب على جدران المعابد والبرديات في مصر، حيث حاول أخناتون الإعلان عن الدين التوحيدي لكن

نهايته كانت غير سارة له ولا لزوجته، وقام الكهنة بما يقع على عاتقهم في ارجاع الشعب لدينهم الكهنوتي، وكذلك حصل مع مارتن لوثر حينما فضح الكنيسة وقام بثورة فكرية وذهنية ليخلص الاتباع من تسلط الكنيسة على الشعب، وهو نفسه ما قام به كل الأنبياء والرسل حينما أرادوا هداية الناس إلى الدين الحق والبعيد عن الوثنيات وعبادة الحجر، جميعهم لاقوا الكثير من الظلم والعذاب من بني جلدتهم

وخاصة كهنة وسماسرة المال والسلطة. فالدين أياً كان ضروري جداً للحكومات الاستبدادية وكذلك للكهنة والظالمين أياً كانت أسماءهم وجنسياتهم، وبكل تأكيد يحتاجون الدين ليس خدمة للفضيلة، بل لتمكين تلك الحكومات الاستبدادية والمؤتمرة بالكهنة للسيطرة على الناس والمجتمعات معاً. قال عنهم الرسول بولس في رسالته الاولى الى أهل كورنثوس اصحاح 6 “أَنَّ الظَّالِمِينَ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ”. فمهما عملوا واستبدوا إلا أن سوء أعمالهم سوف تعود عليهم وأن ظلمهم سيعود عليهم ولن يدخلوا ملكوت الله.نفس هؤلاء الكهنة بكل مسمياتهم السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية نراهم بكل وضوح كيف يعملون لعرقة تطور المجتمع من خلال القيام بالتجديد الفكري والديني. نرى ذلك في

العراق بشكل فج حيث العمائم مسيطرة على كل مناحي الفكر والعلم وكذلك لبنان وسوريا وتركيا وايران والسودان معظم الدول الدينية أينما كانت. رغم بعض المحاولات والمساعي التي تقوم بها مصر والسعودية في الآونة الأخيرة، إلا أن طريقهم ما زال طويلاً جداً. وأعتقد أنهم لا زالوا في الخطوة الأولى من مسيرة الألف ميل. ويمكن اعتماد “لا لكهنة المال والسلطة”، كشعار للمرحلة القادمة على الأقل

للخروج من مستنقع الجهل والقتل والدمار الذي يلاحقنا في كل مكان. كهنة المال والسلطة نراهم الآن متفرعنين ومتنمردين ويمشون في الأرض وكأنها لا تسعهم ويظنون أن هذا المُلك سوف يدوم لهم، لكنهم لا يعلمون أن الله يؤخر عذابهم علَّهم يهتدون. فقال الله سبحانه: {ولَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ{ (إبراهيم – 42). ربما يستمر ظلمهم فترة من الزمن ولكنها قصيرة جداً قياساً بعمر الانسان والتطور المجتمعي الذي له مجرى ومنحىً مختلف كلياً عمَّا نفكر نحن فيه.

مؤتمر الأديان الذي انعقد في يناير من هذا العام في روج أفا لربما كان شمعة مضيئة ومكملة لسعي الأطراف الأخرى لعملية التجديد المعرفي والفكري والديني في المنطقة. إذ وتحت شعار “معاً ننشر السلام”/ حيث اجتمع المؤتمرين حاملين هموم المجتمع والانسان وما يصيب المنطقة من ويلات كبيرة ومصائب من قبل فصائل وأطراف تدعي الدين ولكنها ليس لها أية علاقة به لا من قريب ولا من بعيد. مجموعة من المثقفين شعروا بالمسؤولية الدينية والثقافية والانسانية الملقاة عملوا وفق رؤيتهم

 

على تشخيص أسباب الصراع وطرق الحل التي يمكن انقاذ ما تبقى من هذه المقصلة النشاز من أُفاق ومنافقي الدين والثقافة والعلم. توصلوا لنتيجة حتمية أن رسالة الأديان هي؛ المحبة – السلام والعدل، ونادوا بتوحيد الصفوف لمواجهة هذه التيارات الغريبة عن مجتمعاتنا والممولة والمؤتمرة من قبل أطراف إقليمية ودولية خدمة لأجنداتها. واعتبروا أن القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية جزءاً لا يتجزأ من أخلاقيات ثقافات المنطقة برمتها وأن التعددية والاختلاف هو إثراء لا صراع.

 

مثل هذه خطوات وخطوات أخرى في أماكن مختلفة بكل تأكيد سيكون لها التأثير الإيجابي للنهوض بالحالة الفكرية والمجتمعية في كل مكان، الأمر الهام هو تواصل وتعاضد هذه الفعاليات مع بعضها البعض مهما كان حجمها ومكانها. والابتعاد عن الاستعلاء في العمليات والنشاطات التنويرية والاصلاحية أينما حدثت. وعلينا عدم تكرار الأخطاء ارتكبناها في السياسة والقومية ومستوى الاستعلاء الذي كنَّا نعيشه، عن أي فعالية تتم من أجل بناء المجتمع والانسان الحر.