نوسوسيال

أردوغان يعاند المنطق الاقتصادي .. ضربات موجعة لليرة التركية

474

 

 

شَهِدَت الليرة التركية نوعاً من الاستقرار خلال العقد الأول من فترة حكم حزب العدالة والتنمية، وذلك بسبب التركيز على تطوير الواقع الاقتصادي للبلاد، مع اتباع سياسة صفر مشاكل، التي انتهجها الحزب مع محيطه السياسي الإقليمي والاستراتيجي. إضافة إلى حالة من شبه التفاهم التي جرت مع حزب العمال الكردستاني، ووقف إطلاق النار الذي جرى بين الطرفين هناك، مع الوعود التي قطعها أردوغان للكرد بحلّ قضيتهم وتنمية مناطقهم، الأمر الذي انعكس استقراراً على الصعيد الداخلي، وترك آثاراً واضحة على تحسّن الواقع الاقتصادي ومؤشراته.

ولكن، سرعان ما تبدلت تلك السياسة، ودبّت الخلافات بين أقطاب الحزب، لا سيما الرئيس رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته أحمد داوود أوغلو.

فعلى الصعيد المحلي، بدأت سياسة الإنكار للكرد من جديد، وأُودِع الكثير من الممثلين الكرد داخل البرلمان في السجن، ثم جرت لاحقاً محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016.

أما على الصعيد الخارجي فقد بدأت الحكومة التركية، بالتدخل في العديد من الملفات الساخنة والباردة في المنطقة، سعياً من الرئيس التركي لإحياء ما سميت بالعثمانية الجديدة، أو أخونة المنطقة وتسيّدها.

واليوم، وإذ تشهد الليرة التركية تهاوياً غير مسبوقاً، قطعت حاجز الإحدى عشرة ليرة مقابل الدولار الواحد، لا بد من تحليل الواقع الاقتصادي القائم في تركيا، وتقييم السياسات التي يصرّ عليها الرئيس التركي، وتدخّلاته السافرة في نهج المصرف المركزي، والسياسات النقدية الواجب اتباعها لمواجهة هذا الانحدار الشديد لليرة، والتداعيات على الاقتصاد التركي، والاحتمالات المترتبة على ذلك.

فهل ما يصرُّ عليه أردوغان يمكن أن يجلب نتائج إيجابية لاحقاً على الاقتصاد والوضع المعيشي للأتراك؟، أم أن إصراره في التأكيد على وجهة نظره المناقضة للمنطق الاقتصادي، ستجلب الويلات له وللاقتصاد التركي مجتمعين؟

انحدار ثم تهاوٍ سريع لليرة

لم يتراجع سعر صرف الليرة التركية بأكثر من 0.6 ليرة مقابل الدولار خلال العقد الأول من فترة حكم حزب العدالة والتنمية، تمكنت تركيا خلالها من تحقيق معدلات تنمية عالية، مقارنة بمعدلات التضخم في البلاد، وذلك بفضل القطاع المالي الذي انتعش خلال تلك الفترة، وقدرة الاقتصاد التركي على التمويل الذاتي، والانخفاض الشديد في تكلفة الاستثمار والاقتراض، بهدف زيادة كميات السيولة بين أيدي الأفراد. وهي السياسة التي انتهجها أردوغان، لتحقيق شعبية عالية بين أوساط الجماهير التركية. ولكن ما حدث لاحقاً هو أن زيادة الاعتماد على تدفقات الأموال الساخنة إلى الاقتصاد التركي، بهدف الاستفادة من معدلات النمو القوية، وعائدات الاستثمار العالية، دون حساب آثارها السلبية على المدى البعيد، والتي بدأت تتكشف خلال السنوات اللاحقة لتلك الفترة، أدت إلى زيادة العجز الخارجي، وسمحت بدخول أموال غير مشروعة، بتواطؤ مع العديد من المسؤولين الأتراك، الأمر الذي بدأت خيوطه تتكشف في تحقيقات 7 و25 ديسمبر من العام 2013، إثر معلومات حول قضايا فساد، وغسيل أموال، ورشاوي، تورط فيها عدد من رجال الأعمال المقربين من الحكومة التركية، وأبناء وزراء، ومسؤولين أتراك كبار، لهم علاقات مشبوهة مع رجل الأعمال “رضا ضراب”، بدأت الليرة على إثرها سلسلة خسارتها، حيث فقدت مباشرة 9% من قيمتها، لتصل مجموع خسائرها آنذاك – ومنذ مطلع عام 2013 – إلى حدود 17% مقابل الدولار الأمريكي، حيث وصل سعر الصرف لحدود 2.21 ليرة مقابل الدولار الواحد، بعد أن كان لا يتجاوز 1.9 ليرات بداية العام.

بدأ الانحدار الشديد في قيمة الليرة في آب أغسطس من العام 2018، حيث وصل سعر الصرف في 13 منه إلى أكثر من 6.9 ليرة مقابل الدولار الواحد، على خلفية التوترات المستمرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفرض الأخيرة العديد من العقوبات الاقتصادية على تركيا، مما دعا وكالتي “موديز وستاندر أند بورز” في 18 آب إلى تخفيض التصنيف الائتماني لتركيا، الأمر الذي أرسل إشارة بالخطر إلى المستثمرين الأجانب، الذين بدأوا بالهروب من تركيا، وإخراج كميات كبيرة من العملات الصعبة، التي كانت تعتبر أموالاً ساخنة داخل الاقتصاد التركي، مما شكّل بداية حقيقية لارتفاع سعر الصرف، دفع باتجاه تكوّن ضغوط تضخمية أثرت على مؤشر أسعار المستهلك، ومؤشر أسعار المنتجين معاً.

ومنذ بداية العام الحالي، وعلى خلفية تشدد الرئيس التركي على اتباع سياسة خفض أسعار الفائدة، لتحفيز النمو وخفض معدلات التضخم كما يدعي، وإقالته لأربعة محافظين للبنك المركزي خلال السنتين الماضيتين فقط، وتدخلاته السافرة في السياسة النقدية بعد التعديلات الدستورية التي أجراها عام 2017، والتي تسمح للرئيس بالتدخل، فقد ارتفع سعر الصرف لمستويات قياسية لم يتوقعها أكثر المتشائمين بأداء الليرة التركية، والذي تجاوز اليوم 12.17 ليرة للدولار الواحد.

أسباب عديدة وراء انخفاض قيمة الليرة

فقدت الليرة التركية منذ الأول من آب أغسطس 2018 وحتى الآن أكثر من 58.83 % من قيمتها، الأمر الذي دفع بمعدلات التضخم نحو الارتفاع، والتي تصل اليوم لحدود 20% على أساس سنوي. وتقف العديد من الأسباب وراء هذا الارتفاع المستمر لسعر صرف الليرة التركية، وخاصة خلال عامي 2020 و2021، حيث مرَّ الاقتصاد التركي بظروف صعبة، إثر أحداث وقرارات مختلفة جرت في تركيا نذكر منها:

  • أسباب سياسية: نجمت عن حالة عدم الاستقرار الداخلي التي استُؤنفت من جديد، والتي نجمت عن انقلاب حكومة أردوغان على التعامل مع القضية الكردية داخل تركيا، وإيداع ممثليها في السجون، وعودة التوترات الأمنية والعسكرية مع عناصر حزب العمال الكردستاني، وبالتالي عودة اللااستقرار السياسي من جديد في تركيا، كحالة طاردة لرؤوس الأموال الخارجية، وللمستثمرين الأجانب.

أما خارجياً فقد تجلت هذه الأسباب بوضوح في التدخلات السافرة للحكومة التركية وتورطها في العديد من الملفات والأزمات الساخنة في المنطقة، وقيامها بحملات عسكرية للتدخل في شؤون دول عديدة في المنطقة، لا سيما سوريا، وليبيا، والأزمة الأرمينية والأذربيجانية، وجاءت بعض هذه التدخلات وسياسات تركيا – أثناءها – غير متوافقة مع سياسات الولايات المتحدة والدول الغربية، الأمر الذي كان يدفع باتجاه توترات سياسية مستمرة، دفعت في أحيان متعددة بواشنطن لاتخاذ خطوات اقتصادية قوية تجاه تركيا، وصلت لحد فرض العقوبات، وتعريفات جمركية عالية على الصادرات التركية إليها أحياناً. ودائماً ما كانت حكومة أردوغان تتعامل بندية مع هذه التطورات، دون حسابٍ للعواقب المترتبة على ذلك، وخاصة في التعاطي مع الملفات العالقة بينها وبين الولايات المتحدة، والتي لا يمكن للأخيرة أن تهادن أحداً فيها، وخاصة شراء أنقرة منظومة صواريخ إس-400 من روسيا.

  • أسباب اقتصادية: يعاني الاقتصاد التركي من أزمة، فيما يسمى بالعجز في الحساب الجاري[1]، وأرقامه المرتفعة تعتبر واحدةً من أسباب حاجة الاقتصاد التركي للتمويل الخارجي. وعلى الرغم من تسديد تركيا لآخر دفعة من ديون صندوق النقد الدولي في العام 2013 والبالغة (23.5 مليار دولار) سعى أردوغان من وراء ذلك للتخلص من سياسات الصندوق، والتي كانت ستجبره على اتباع سياسات انكماشية ورفع أسعار الفائدة، وبالتالي تعرقل عجلة النمو الاقتصادي في البلاد، وهو ما كان يتعارض مع رؤية الرئيس التركي تماماً.

إلا أن حجم الدين الخارجي التركي وصل إلى أكثر من 431 مليار دولار في نهاية مارس آذار من العام 2020، وفق وزارة الخزانة والمالية التركية، وأن إجمالي الدين الحكومي التركي زاد عن 26 مليار دولار في نهاية يونيو حزيران من العام الحالي، بزيادة نسبتها 109% عن مجموعها قبل ثلاث سنوات، أي بعد تبني نظام الحكم الرئاسي بدلاً من البرلماني، والخروقات المستمرة للرئيس بالتدخل في السياستين المالية والنقدية في البلاد.

ويشكل موضوع تزايد حجم الديون التركية – سواءً المحلية أو الخارجية – تحدياً حقيقياً لتركيا اليوم، في ظل الانخفاض المستمر لقيمة الليرة، ولمستويات قياسية، فكلما ارتفع سعر الصرف كلما زادت تكلفة الديون، خاصة أن نسبة تزيد عن 58% من ديون الحكومة نفسها بالعملة الصعبة، وهو ما يشكل عبئاً إضافياً على كاهل الاقتصاد التركي.

تعود الزيادة في حجم الديون الخارجية إلى اعتماد القطاع الخاص التركي على الاقتراض من الخارج في تدعيم نشاطه الاقتصادي، وزيادة نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، وذلك بسبب منافسة الدولة له في الحصول على التمويل من المؤسسات المحلية، وحاجتها المستمرة للاستدانة من الداخل، مما يزيد من ضعف القدرة على تلبية طلب القطاع الخاص محلياً من الأموال.

النقطة الأهم في هذا السياق هي إصرار الرئيس التركي أردوغان على تبني سياسة تخفيض معدلات الفائدة، والتي من شأنها أن تعمل على تخفيض معدلات التضخم لاحقاً، وفقاً لمنطقه هو. وهذه السياسة المتبعة منذ أكثر من ثلاث سنوات كانت كفيلة برفع معدلات التضخم وخلق حالة من عدم الثقة بالأسواق، كانت لها ارتدادات سلبية أودت بالليرة التركية إلى مواطن غير متوقعة، وخفضت من قوتها الشرائية، مما انعكس انخفاضاً في القدرة الشرائية للمستهلكين من جهة، وتراجعاً في قدرات المستثمرين على تمويل أنشطتهم التجارية أو الإنتاجية من جهة ثانية.

النقطة الأخرى هي تداعيات وباء كورونا، وتراجع إيرادات القطاع السياحي من العملة الصعبة، والذي كانت تصل نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إلى 12%، فقد تراجعت هذه الإيرادات من 34 مليار عام 2019 إلى أقل من 12 مليار دولار عام 2020. الأمر الذي ترك اثاراً سلبية على الحساب الجاري الخارجي في تركيا، وزاد من حدة العجز فيه.

كما أنه من المعلوم اعتماد الدولة التركية في تأمين مصادر الطاقة لقطاعاتها المحلية على الاستيراد من الخارج، وهذا ما يشكّل ضغطاً مستمراً على حاجة الاقتصاد التركي للعملة الصعبة ويرفع من حجم الطلب عليها، لتأمين كميات الغاز والنفط اللازمة للاقتصاد وللقطاعات المنزلية، الأمر الذي يترك آثاراً سلبية على سعر الصرف، وبالتالي آثاراً مالية على قيمة العملة المحلية، وتراجعاً في قوّتها الشرائية، وبالتالي ارتفاع مستويات التضخم.

أردوغان يعاند المنطق الاقتصادي الأساسي

من أساسيات السياسات الاقتصادية التقليدية، أنه في حال ارتفاع مستويات التضخم، وتراجع قيمة العملة المحلية، لا بد من اتباع سياسات انكماشية، تتمثل أولاً في رفع معدلات الفائدة، للسيطرة على العرض النقدي والتقليل منه. إلا أنّ ما يحدث في تركيا أن الرئيس أردوغان، والذي بات يعرف على الساحة النقدية التركية بأنه “عدو أسعار الفائدة المرتفعة”، يتدخل بشكل مباشر في سياسة وآليات عمل البنك المركزي، ويجبر القائمين عليه على الاستمرار في السياسات التوسعية، وأقال عدداً من حاكمي المصرف، وثلاثة أعضاء من لجنة السياسة النقدية في البنك، على خلفية عدم الامتثال لرغبته، المستمرة في ضرورة تخفيض معدلات الفائدة، لكبح جماح التضخم، وهو ما يتعارض مع المنطق الاقتصادي التقليدي. ففي آذار مارس الماضي، وعلى إثر رفع حاكم المصرف المركزي حينها “ناجي أغبال” معدل الفائدة بمقدار 200 نقطة مئوية من 17% إلى 19%، تم إقالته، لتفقد الليرة 15% من قيمتها بعد قرار الإقالة مباشرة.

سياسة أردوغان الاقتصادية هل هي خطأ أم صواب؟

أثبتت الوقائع حتى الآن خطأ سياسة أردوغان على صعيدين، الأول: تدخله كسياسي في عمل وقرارات المصرف المركزي، الذي يجب أن تقوم به هيئة مستقلة غير خاضعة لأهواء وأجندات رجال السياسة (وهو ما يحدث في تركيا الآن)، والثاني: استمرار تهاوي الليرة التركية، والتراجع الكبير في قيمتها، الذي تجاوز 36.68% منذ مطلع العام الحالي فقط، وأكثر من 77.3% خلال الخمس سنوات الأخيرة، في الوقت الذي استمر فيه المصرف المركزي التركي في الامتثال لرغبة أردوغان في اجتماعه الأخير الخميس الماضي 18 نوفمبر، وخفض سعر الفائدة بمقدار 100 نقطة مئوية أخرى، ليصبح 15% وهو التخفيض الثالث خلال الأشهر القليلة الماضية حيث خفض من 19 إلى 18%، ثم من 18 إلى 16%، وها هو يصر على التخفيض الثالث، ليصبح 15%، الأمر الذي أدى إلى تراجع جديد في قيمة الليرة، وصل إلى 11.23 ليرة مقابل الدولار مباشرة، ثم تخطت 12 ليرة اليوم لتصل إلى 12.17 ليرة للدولار الواحد.

المبررات الاقتصادية لسياسة أردوغان التوسعية

المبررات التي يقدّمها أردوغان وأنصاره من الاقتصاديين الأتراك، تأتي على ثلاثة أصعدة:

  • أولها: أن السياسة التوسعية للمصرف المركزي كفيلة بتحفيز النمو، ودعم القطاع الإنتاجي الحقيقي، من خلال زيادة القدرة في الحصول على التمويل المنخفض التكلفة، والذي يؤدي بدوره إلى تنشيط الاستثمارات، وتأسيس المشاريع الإنتاجية، والتوسع والتطوير في تلك القائمة منها، مما سيرفع من معدلات النمو، ومن حجم الإنتاج، ويزيد من الطلب على العمالة (أي زيادة فرص العمل)، وبالتالي تخفيض معدلات البطالة، وزيادة حجم الصادرات، الكفيلة بأن تدرّ على الاقتصاد الوطني المزيد من العملة الصعبة، وتساهم في تخفيض العجز في الحساب الجاري، في ظل حاجة تركيا المستمرة لاستيراد كميات متزايدة من عناصر الطاقة (النفط والغاز).
  • وعلى صعيد آخر، يرى أنصار هذا الاتجاه، أن رفع معدلات الفائدة سيقوض من القدرة الإنتاجية للبلاد من جهة، ويزيد من أرباح المستثمرين الأجانب داخل الأسواق المالية والبنوك التركية من جهة ثانية، بدون أن تتحقق فوائد حقيقية للاقتصاد نفسه، ويدفع به نحو الاعتماد على القطاعات غير المنتجة، ويجعل منه اقتصاداً مالياً لا إنتاجياً، أسيراً من ناحية التوجه نحو الاستيراد لسد حاجة الأسواق من السلع والمواد؛ ومن ناحية ثانية، بالاعتماد على رأس المال الأجنبي الساخن غير المضمون، الذي يمكن أن يتم التهديد به بالانسحاب من تركيا، في حال نشوب أية خلافات سياسية بين تركيا والدول الغربية.
  • أما على الصعيد الثالث، يشير هؤلاء، إلى أن انخفاض قيمة الليرة التركية، على الرغم من إضراره ببعض القطاعات الاقتصادية كالقطاع العقاري، إلا أنه يدعم الإنتاج والمنتجين في العديد من القطاعات الأخرى، وبالدرجة الأولى قطاع الطاقة والقطاع الإنتاجي الصناعي، لأن أسعار الفائدة المنخفضة كفيلة بتخفيض تكلفة رأس المال داخل تلك المشروعات، وبالتالي سترفع من معدلات النمو الكلي، التي وصلت في الربع الثاني من العام الحالي إلى حدود 21.7%، وهو الأعلى عالمياً، إضافة إلى رفع مستويات الإنتاجية في تلك المشاريع، وزيادة حجم الأرباح، التي تعوّض خسائر انخفاض قيمة العملة المحلية إلى حد كبير. إضافة إلى ذلك، فإن انخفاض قيمة الليرة، يجعل من المنتجات التركية، رخيصة في أعين المستوردين الأجانب في الخارج، الأمر الذي يزيد من حجم الصادرات، ويدعم المنتجين والمصدّرين إلى حد كبير.

لذلك، يصر الرئيس التركي وحاشيته الاقتصادية على سياساتهم النقدية، والتي تحفز بالدرجة الأولى على النمو الاقتصادي كما يدّعون، ويرجعون أسباب تراجع قيمة الليرة، إلى أن الدول الغربية وأمريكا لا يريدون لتركيا أن تصبح دولة ذات اقتصاد قوي، تنتج السلع الثقيلة والمنتجات الكهربائية المتطورة، وترتفع فيها كمية الصادرات، وتخفض من فاتورة الاعتماد على الطاقة المستوردة، وغير ذلك؛ وأن يبقى قرارها السياسي رهين مكاتب الإدارات الغربية وهيئاتها المالية، ويستدلون في ذلك؛ بوقوف تلك الدول في وجه عمليات التنقيب المشروعة لتركيا عن النفط والغاز قبالة السواحل اليونانية شرقي البحر المتوسط، الأمر الذي دفع بالحكومة التركية لتعميق علاقاتها الاقتصادية الاستراتيجية مع روسيا، وإقامة مشروعات طاقة مشتركة معها.

وجهات نظر اقتصادية معارضة لسياسة أردوغان

على الضفة الأخرى، ووفقاً للمنطق الاقتصادي ولخبرائه، يمكننا القول: إن أسعار الفائدة المنخفضة، وارتفاع معدل النمو الاقتصادي، ليسا كافيين لتقوية الاقتصاد، ورفع مستويات المؤشرات الكلية الأخرى فيه، لأن قوة الاقتصاد تعتمد على العديد من مؤشرات الاقتصاد الكلي الأخرى، كمستويات التضخم، ومعدلات البطالة، ونسبة الدين إلى الناتج المحلي، وحجم الدين الخارجي، وكمية الاستثمارات الأجنبية فيه، وحجم العجز في الحساب الجاري الخارجي، ومستوى منخفض من العجز في الميزانية العامة للدولة، وهذه كلها الآن مؤشرات سلبية داخل الاقتصاد التركي. إذاً، إن السياسة الاقتصادية التوسعية التي يتبعها أردوغان، تترك آثاراً سلبية واضحة على مجمل المؤشرات المذكورة، وخاصة نسب التضخم الآخذة بالارتفاع .

كما يمكن دحض مزاعم السياسة الأردوغانية في هذا السياق، والتي تقول بأن الاقتصاد التركي يعتمد بالدرجة الأولى على القطاع الإنتاجي، وبنسبة تصل إلى 75%، وبالتالي فإن اتباع سياسة توسعية قليلة سعر الفائدة، كفيلة بتوفير التمويل منخفض التكاليف، وبتحقيق المزيد من معدلات النمو العالية، وبالتالي المزيد من الأرباح، وزيادة فرص العمل. فالرد على هذا الكلام يكون بأن القطاع الإنتاجي الصناعي التركي، يعتمد بالدرجة الأولى على المواد الأولية والخام المستوردة من الخارج، وإن استمرارها في رفع معدلات الإنتاج يعني تزايد حاجتها للعملة الأجنبية ذات السعر المرتفع مقابل الليرة، مما يرفع من تكاليف الاستيراد، وبالتالي من تكاليف الإنتاج، ويؤدي بمؤشر أسعار المنتجين، ومؤشر أسعار السلع الاستهلاكية نحو الارتفاع، وهو ما يحدث الآن داخل الاقتصاد التركي، حيث وصل معدل التضخم لمستويات عالية.

يضاف إلى ذلك، أن انخفاض سعر الصرف سيقوض من قدرة الاقتصاد التركي على تأمين احتياجاته من العملات الصعبة، لتدبير احتياجات القطاعات المختلفة الإنتاجية منها وغير الإنتاجية، سواءً التابعة للقطاع العام، أو للقطاع الخاص، الذي يعتمد بنسبة كبيرة على تمويل أنشطته على الاقتراض من الخارج، وبالتالي سيحتاج إلى ليرات أكثر بكثير من ذي قبل، للحصول على مقابلها من الدولارات، خاصة أن الأشهر الثلاث المقبلة ستزيد من حاجة الاقتصاد للعملة الصعبة، لتلبية الاحتياجات المتزايدة للغاز الطبيعي في فصل الشتاء، بداعي التدفئة؛ كل ذلك كفيل برفع تكاليف الإنتاج، وبالتالي ارتفاع مستويات الأسعار بشكل مضطرد.

وما يدل على فشل هذه السياسة أيضاً، أن تركيا لم تعد جاذبة للاستثمارات كما كانت من ذي قبل، ومعدلات البطالة في تزايد، على الرغم من أن السياسة التوسعية لو كانت ناجحة، فهي كفيلة برفع حجم الطلب على العمالة، وبالتالي زيادة فرص العمل، وتخفيض مستويات البطالة. ولكن ما يحدث في تركيا اليوم، هو عكس ذلك تماماً، إضافة إلى أن مستويات التضخم العالية باتت تهدد الأسواق بركود اقتصادي، سيكون سببه ارتفاع مستويات الأسعار، وتراجع القدرة الشرائية للمستهلكين، حتى ولو ازدادت كميات المواد المصدرة، ولكن ذلك لن يعود بالنفع إلا على نسبة محدودة من المنتجين، وربما المقربين من دائرة الحكم والرئاسة التركية، في حين ستزداد الصعوبات المعيشية لدى الغالبية العظمى من الأتراك، وترفع من نسبة الفقر في البلاد، نتيجة المؤشرات السلبية، الآخذة بالارتفاع بشكل مضطرد، بسبب الانحدار غير المسبوق لليرة التركية، وارتفاع سعر الصرف هناك.

ختاماً

يَصِرُّ الرئيس التركي على سياسته المناقضة للمنطق الاقتصادي، وبذلك فهو يسبح عكس قوتين للتيار، الأولى: استجابة مؤشرات الاقتصاد الكلي السلبية للمنطق الاقتصادي التقليدي في تخفيض أسعار الفائدة، والتي تترك الكثير من الآثار السلبية على قدرة الاقتصاد التركي من جهة، وعلى الوضع المعيشي للشعب التركي من جهة ثانية، والثاني: المحاولات الغربية، وخاصة الولايات المتحدة في الحد من قدرة الاقتصاد التركي، ومجابهته بسبب السياسات التي تتبعها تركيا في المنطقة، وتقرّبها غير المحمود من روسيا، وخاصة على الصعيد العسكري.

إلا أن ما يقوم به أردوغان اليوم، كمن يراهن على حياته في قضية محتومة لغير صالحه، لأن الاستمرار في هذه السياسة، قد يدفع بالاقتصاد إلى المزيد من المخاطر غير محمودة العواقب، قد تشعل اضطرابات على الصعيد الشعبي، أو تشكل أرضية ملائمة لمناوئي الرئيس التركي للاستفادة من أوضاع الشعب الصعبة، واستخدامها كوسيلة للإطاحة بحكومة أردوغان، على أقل تقدير في الانتخابات القادمة في تركيا.

بقي أن نقول، بأن الليرة التركية وفق المنطق السياسي الذي يفرضه الرئيس، ستتكبد المزيد من الخسائر خلال الأشهر القادمة، ومن المتوقع أن يتخطى سعر الصرف 15 ليرة مقابل الدولار الواحد حتى نهاية العام الحالي، الأمر الذي قد تكون له ارتدادات قوية داخل الأسواق التركية وحتى داخل القطاع الإنتاجي، الذي يتغنى به أردوغان، والذي يقول بأنه كفيل بتخفيض معدلات التضخم، ولكن لا مؤشرات على ذلك، بل على العكس تماماً، كل شيءٍ يسير عكس ما يتمناه أردوغان حتى اللحظة، لأن العوامل المتشابكة التي أنتجت مثل هذا الوضع ليست وليدة ظاهرة اقتصادية محددة، أو موقف سياسي محدد، يمكن تصحيحه أو التراجع عنه، بل هي نتيجة تشابك عوامل سياسية واقتصادية، تراكمت خلال السنوات العشر الماضية، ونوايا أردوغان التوسعية من جهة، ومقارنة نفسه بالدول العظمى من جهة ثانية، متناسياً أن القوة العظمى تحتاج إلى اقتصاد قوي، وإلى عملة قوية، لا تتأثر بسياسات، وعملات الدول الأخرى.

[1] يقصد بالحساب الجاري لأي دولة بأنه ذلك المؤشر الذي يقيس الفرق بين الصادرات والواردات من السلع والخدمات، التي توفر العملة الصعبة للدولة، إضافة إلى الفرق بين الحوالات والتدفقات المالية من وإلى الاقتصاد باستثناء الأموال التي تستثمر في الأصول وفي الأسواق المالية.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

المصدر  : نوس سوسيال عن مركز الفرات للدراسات