نوسوسيال

عهدان لا يُنسَيان: شمعون “الإزدهار” وشهاب “المؤسَّسات” برئاسة الجمهورية اللبنانية

429

 

  

 

 

 

على مرِّ التاريخ، عرف لبنان فترات رخاء وبحبوحة يتحسَّر عليها جميع من عاشها، ويتوق إليها من سمع بها. ولا شكّ في أن هذه المرحلة كانت بعد الإستقلال، خصوصًا بين 1952و 1965. وتجلَّت هذه الفترات في عهدين لا يمكن أن ينساهما الشعب اللبناني، هما عهدا الرئيسين كميل شمعون وفؤاد شهاب: الأول عُرفَ بعهد الإزدهار الإقتصادي، والثاني بعهد المؤسسات.

 

 عهد شمعون

كان الرئيس شمعون قوي العزم والحسم، حالف الغرب وصادق الشرق، فتدفقت الأموال إلى لبنان في بيئة آمنة. وضع الحجر الأساس للكثير من المشاريع: كازينو لبنان، المدينة الرياضية… أقرضَ لبنان الهند مئة مليون دولار! عُرف بفتى العروبة الأغر، تميّز بدهاء سياسي وحنكة ورشاقة دبلوماسية مكَّنته من تجاوز الأزمات.

حنكته السياسية قادته إلى التأسيس لجمهورية صلبة متألقة الإزدهار. فانطلقت في عهده صناعات متطورة وتوسّع قطاع الخدمات بما جعله رافدًا مهمًّا للبنان، وشهد الفن بأنواعه وثبة رفعت لبنان إلى مصاف الدول العريقة بحضارتها، المتميّزة برقيها. فنشطت السياحة والمصارف ودُور النشر والملاهي والفنادق والمستشفيات، وبات النقد الوطني ذا ثقة وقيمة عاليتين لا تهزهما الأزمات. وعرف المستوى المعيشي نموًّا وضع اللبنانيين بين الشعوب الأعلى دخلًا في العالم. فصار لبنان مصرف الشرق ومستشفى الشرق ودارَ نشره وملجأه الآمن وقبلة أنظار أبنائه.

منذ بداية الخمسينيات اضطلع لبنان بدور الوساطة التجارية ـ الخدماتية عمومًا، واقترن ذلك بعاملين هما: دخول المصارف الأجنبية من الباب الواسع إلى لبنان، وقيام رأس المال الأجنبي بتنفيذ مشاريع البنية التحتية واستثمارها كجزء من تنفيذ سياسته العامة في لبنان والمنطقة. وخلال عهده سعى الرئيس شمعون إلى تنشيط قطاع الخدمات أيضًا، الذي صار يساهم بنحو ثلثي الدخل الوطني. وهذا يعود بحسب الإقتصاديين إلى بروز قطاعات خدمات جديدة كالسياحة والمصارف والمنتجعات والمستشفيات…

يُضاف إلى ذلك، تلقف الرئيس المحنّك إيجابية تحوُّل قسم كبير من عائدات النفط نحو لبنان بحثًا عن مجالات توظيف آمنة. فكان المتعاملون الرئيسيون مع المصارف العاملة في لبنان الملوك العرب وشركات البترول الأميركية والرأسماليون الهاربون من مصر والعراق وما لا يقلّ عن 600 ثري من الكويت، والمهاجرون السابقون الذين جنوا ثروات في المهجر وأودعوها في لبنان.

وفي أوائل الخمسينيات تميّز الإقتصاد اللبناني بنشاط ملحوظ حيث بدأت شركات صناعية ومصرفية وخدماتية تدخل البورصة لتعد بورصة بيروت أفضل سوق مالية في المنطقة مع إدراجها أكثر من خمسين شركة.

و بما أن لا دولة قوية ولا حكم ناجحًا من دون قوانين ترعى كل مفاصل الحياة، ولأن الرئيس شمعون كان رجل دولة بامتياز، شدّد على استصدار القوانين الراعية للعمل العام وعمل على تحديث القائم منها. وكان بين أبرز القوانين الصادرة في عهده، قانون “من أين لك هذا؟” الذي تم تجديده في التسعينيات تحت مسمَّى قانون “الإثراء غير المشروع”. وقانون السرية المصرفية.

طبعًا، إنجازات الرئيس شمعون كثيرة، لأن مسيرته لم تبدأ مع وصوله إلى سدة الرئاسة ولم تنتهِ بالخروج منها. ومن منجزات عهده تنظيم وزارة الخارجية وتحديد اختصاصاتها، وتنظيم ملاكات وزارات الصحة والشؤون الإجتماعية والأشغال والداخلية، وإنشاء المجلس النقابي للصحافة وفصل نقابة الصحافة عن نقابة المحررين، ووضع الحجر الأساس لساحة الشهداء، وتكريس الأول من أيار عيدًا رسميًّا للعمال في لبنان، وإنشاء المدينة الرياضية التي تحمل اسمه، ووضع الحجر الأساس لإدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية “الريجي”، وتوسيع مطار بيروت الدولي، وإنشاء المحطات الزراعية في تل العمارة، ومصلحة التعمير، والتلفون الأوتوماتيكي، وتدشين أوتوستراد بيروت ـ المعاملتين، وإقرار قانون السير، وإنشاء الحوض الثالث في مرفأ بيروت، وإنشاء مرفأ طرابلس، ومشروع الليطاني، ووضع الحجر الأساس للإذاعة اللبنانية في الصنائع. وقد عمل على استرداد امتياز الكهرباء وإنشاء معمل إنتاج الكهرباء في زوق مكايل، تأسيسًا لتوسيع نطاق التغطية بحيث تشمل كل لبنان… وغيرها من المنجزات.

 

عهد شهاب

أما عهد الرئيس فؤاد شهاب فاتّسم بتطوير الإدارة وتحديث الدولة من خلال المؤسسات التي أنشأها أسوة بالدول المتقدمة. حافظ على حياد لبنان، ويشهد على ذلك اجتماع الخيمة الشهير مع الرئيس عبد الناصر. وانعكست سياسته في الإقتصاد حيث صُنِّف لبنان سنة 1963 رابع دولة عالميًّا في تحقيق الإزدهار. وبلغ في عهد الرئيس شارل حلو ذروة مجده الإقتصادي، وكان الرئيس يفتخر بالحرية والديمقراطية في عهده.

وتميّز عهد الرئيس شهاب بالتزامه بناء دولة الإستقلال من خلال اعتماده مشروعًا واضحًا للتنمية الإقتصادية والإجتماعية الشاملة، وإنشاء المؤسسات القادرة على تأمين تنفيذ السياسات الهادفة إلى تلبية حاجات المواطنين والمجتمع.

تسلَّم شهاب سدَّة الرئاسة وهو على يقين من ضرورات مراعاة الأوضاع السياسية الإقليمية والداخلية بالحكمة اللازمة لراحة المجتمع اللبناني وتأمين مسار مؤسساته، فانتهج سياسة متوازية لتجنيب لبنان الإنعكاسات السلبية لسياسات المحاور، كما اعتمد سياسة إنمائية متوازنة لإدخال الجميع في ولائهم للدولة.

في سبيل ذلك بادر إلى تكليف بعثة برئاسة الأب لوبره لوضع دراسة علمية وشاملة للواقع الإقتصادي والإجتماعي اللبناني وحاجات هذا المجتمع، فشكلت الدراسة الموضوعة من قبل هذه البعثة إحدى أبرز الدراسات العلمية للواقع اللبناني، وهي التي بقيت لفترة طويلة من الزمن المرجع الأول والمدخل الرئيسي لمعالجة قضايا التنمية والنمو في هذا البلد.

لم تغب عن بال الرئيس فؤاد شهاب فكرة إنشاء دولة المؤسسات التي هي الضامن الأول لديمومة العمل واستقرار النشاط الوطني، لذلك قرر إنشاء مؤسسات الرقابة الإدارية، كالتفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية، كي يتم توظيف المواطن في خدمة الإدارة والوطن من خلال مباراة وآلية شفافة تبعد التدخل السياسي، كما قرر إنشاء مؤسسات الرعاية الإجتماعية مع إصدار قانون الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، ومصلحة الإنعاش الإجتماعي، وإنشاء مصرف لبنان لكي يصبح لبنان مستقلًّا بسياسته النقدية، بالإضافة إلى العديد من المؤسسات الأخرى.

كل هذه الإنجازات ساعدت في تنفيذ مشروعه الذي كان جوهره في الأساس وطنيًّا بامتياز، فهو تولَّى الحكم في ظروف استثنائية صعبة داخليًّا وعربيًّا ودوليًّا، وكانت الغاية الأساسية من مشروعه هي بناء قاعدة صلبة للوحدة الوطنية التي تصدعت بفعل أحداث 1958 وانقسم اللبنانيون آنذاك، فلجأ كل طرف إلى مرجعيته الخارجية وخرج عن منطق الدولة اللبنانية.

كان الرئيس شهاب مدرسة وقائدًا يشرح يناقش ويعلل لمساعديه ولمستشاريه القرارات التي يتخذها ليكون تنفيذها كاملًا، فلبنان الحديث مدين لهذا الرجل الكبير، الذي كان يستبق حاجة المواطنين ويخطط لمستقبل زاهر للبنان.

شكلت الشمعونية مرحلة الازدهار في الخمسينيات على وقع الانقلابات في العالم العربي. أما الشهابية فكانت حركة إصلاحية على وقع طوفان الناصرية والمد القومي وأحلام الستينيات.

 

كلام صورة:

–     الرئيس كميل شمعون.

–     الرئيس فؤاد شهاب.