التاسع والعشرين من تشرين الاول 1923 هو اليوم الرسمي لإعلان الجمهورية التركية الحديثة من جانب مصطفى كمال (اتاتورك) واعلان انقرة العاصمة الادارية للجمهورية بدلا من اسطنبول العاصمة التاريخية للسلطنة العثمانية منذ أن استولى عليها محمد الفاتح سنة 1453م . منذ ذلك التاريخ وحتى العام 1950 سيطر الحزب الواحد على مقاليد الحكم في تركيا, فبعد وفاة مصطفى كمال 1938 تولى الحكم و رئاسة حزب الشعب الجمهوري عصمت اينونو حتى العام 1950.يمكننا تقسيم تاريخ الحكم
والسلطة في الجمهورية التركية الحديثة الى مرحلتين أساسيتين أولهما المرحلة التي ذكرناها سابقا والممتدة من 1923 وحتى 1950. حكم فيها حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه وترأسه مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس النظام الجمهوري في تركيا، ورئيس الجيش بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة التركية، فجمع أتاتورك بين رئاسة الحزب السياسي الحاكم ورئاسة المؤسسة العسكرية الحاكمة معاً، فأصبحت الجمهورية التركية محكومة من المؤسسة السياسية والعسكرية، باجتماع
الرئاستين في شخص رئيس الجمهورية ومؤسسها الجديد، ولكن هذه الازدواجية في قيادة الحياة السياسية لحكم الحزب الواحد ومؤسسة الجيش لم تنجح في قيادة المجتمع والشعب التركي نحو النهضة المنشودة، بسبب إصرار الجيش على فرض الأيديولوجيا العلمانية المتشددة، تلك العلمانية التي استوردها حزب الشعب الجمهوري من أوروبا لتحديث تركيا من وجهة نظره، وفرضها بالقوة العسكرية وحكم الحزب الواحد الذي يمسك بكل مقاليد الدولة بالكامل, بالإضافة الى قمعه لحركة
التحرر الوطني الكردستاني والتي بدأت تتبلور وتتوضح من خلال مؤتمر سيفر 1920 أي قبل إنشاء الجمهورية حيث تم الاقرار بحق الشعب الكردي في العيش على ارضه التاريخية كردستان وخلال سنة من تاريخه يتم اجراء استفتاء واذا رغب الشعب بالاستقلال فيجب على تركيا الاعتراف بذلك. لكن حكام تركيا الجدد ومن خلال نجاحهم في كسب عطف وتأييد رجال الدين وزعماء القبائل والعشائر الكردية في مؤتمري سيواس- ارضروم استطاعوا ان يخوضوا حرب وطنية وينتصروا على اليونانيين والانكليز
والفرنسيين ويتم اعلان الجمهورية و من ثم توقيع اتفاقية لوزان 1923 والتي لم تعترف بأي حق من حقوق الشعب الكردي, الى جانب عدم نجاح النموذج الاوروبي المستورد للحكم في تركيا لأكثر من عقدين، كل ذلك أدخل البلاد في تحديات خطيرة ومصاعب كبيرة ولم يعد يقبل الشعب التركي بسياسة ونظام الحزب الواحد. هذه الاوضاع الداخلية في تركيا جلبت معها ضعف اقتصادي كبير خاصة بعد الحملات العسكرية الكبرى التي قامت بها في مواجهة ثوار التحرر الوطني الكردستاني خلال فترات
(1925 شيخ سعيد بيران – 1927 آكري احسان نوري باشا و برو هسكى – 1937 ديرسم سيد رضا), الى جانب ذلك وبعد دخول تركيا الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945 الى جانب دول المحور (المانيا – ايطاليا – اليابان ) و خسارتها الحرب, توجه حكام تركيا نحو الغرب بشكل كبير خاصة في ظل احتياج الغرب لتركيا وبناء حلف الناتو (الاطلسي) وموقعها الاستراتيجي في مواجهة الاتحاد السوفيتي أبان الحرب الباردة, وفي الوقت نفسه كان لا بد للغرب من دعم توجه ديمقراطي في تركيا ولا بد أن يكون
هناك تعددية سياسية . المرحلة الثانية بدأت مع ظهور الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس وفوزه في الانتخابات البرلمانية سنة 1950 مما مكنه من تشكيل حكومة برلمانية منتخبة من الشعب في ظل وجود منافس حزبي آخر ألا وهو حزب الشعب الجمهوري . أثبتت فترة حكم عدنان مندريس نجاحا اجتماعيا ومصالحة وطنية مع حضارة الشعب التركي، ونجاحا اقتصاديا ملموسا، وتأييداً شعبيا كبيرا، وهذا أمر خشيه العسكر الذي راقب عمل الحكومة وتدخل في شؤونها إلى درجة
الاصطدام، وكذلك خشيه حزب الشعب الجمهوري، الذي أخذ يمارس الحكم من وراء الكواليس، وبحكم نفوذه السابق في كل مواقع الدولة وأجهزة الحكومة، أسس نوعا من الحكم بالوصاية أو الدولة العميقة منذ ذلك الحين، وإن جلس في مقاعد المعارضة في الظاهر بحكم الدستور، فلم يحكم بعدها منفردا إطلاقاً. والفترات التي حكمها في حكومات ائتلافية كانت ضعيفة وفاشلة، ولم يكن ليصل لحكم البلاد حتى في الحكومات الائتلافية إلا بفعل الانقلابات العسكرية التي كانت تقضي على
الأحزاب الديمقراطية وحكوماتها المنتخبة في أعوام 1960، و1971، و1980. كانت كل هذه الانقلابات العسكرية المتوالية ضد الإرادة الشعبية والحكومات الديمقراطية التي كان الشعب ينتخبها.
مع وصول حزب العدالة والتنمية بزعامة اردوغان الى السلطة عام 2002, بدا وكأنه هناك مجال لحل ديمقراطي للعديد من الامور الداخلية وعلى وجه الخصوص القضية الكردية. ولكن على العكس من التوقعات فقد ظهر بأن هذا الحزب يهدف الى ترسيخ سيطرة الاسلام السياسي على مقاليد الحكم
خاصة وانه كان بالأساس قد نشأ من رحم حزب الرفاه بزعامة نجم الدين اربكان وهو الذي يسعى ويعمل من اجل زعامة العالم الاسلامي في منافسة واضحة للسعودية ومصر القطبين الرئيسيين في العالم الاسلامي.لا يصح أن تبقى الحياة السياسية الحزبية في تركيا محصورة بوجود حزب العدالة والتنمية وحده في السلطة والحكومة إلى الأبد، وللأسف فإن ممارسة حزب الشعب الجمهوري في عهد كمال كلجدار اغلو كأبرز حزب معارض في البرلمان، لم تكن ناجحة سياسيا في المرحلة التي حكم بها حزب
العدالة والتنمية، فقد تركزت معارضة كلجدار أغلو على الخلفية الشخصية لعداء رئيس الحزب السابق ورئيس الجمهورية الحالي أردوغان، وهذا أثر على سوء أدائه السياسي، وفشله في كسب ثقة الشعب في الانتخابات السابقة جميعها. إن جمود هذه الصورة الحزبية في السلطة والمعارضة هو نوع من الجمود في الحياة السياسة في تركيا، وبالأخص بعد أن تحول نظام الحكم في تركيا إلى نظام رئاسي وحزبي، ولعل في التحالفات الأخيرة التي أجراها حزب الشعب الجمهوري مع حزب الشعوب
الديمقراطي بعض الفوائد في تنشيط الحياة الحزبية السياسية في تركيا، فهذه التحالفات رغم شكليتها في الكثير من المواقف، لكن يبقى فيها بصيص أمل لتحريك حياة حزبية سياسية أقوى، بشرط ان تكون بهدف بناء حياة سياسية جديدة. إن الإجراءات القمعيــة التــي يمارسها النظــام الحاكــم في تركيــا ضــد معارضيــه تتجاوز كافة المعايير الديمقراطية و الانسانية التي ينادي بها المجتمع الدولي وعلى وجه الخصوص الدول التي تتدعي حماية الديمقراطية وضرورة تقيد النظام
ا
لحاكم في تركيا بها, ورغم أن معظم المنظمات الحقوقية الانسانية الدولية واغلب دول اعالم تستهجن وترفض هذه الاجراءات القمعية ,إلا أن بعــض الأنظمة ما زالت تلعــب دور الشريك في القمــع الــذي يمارسه النظــام الحاكــم في تركيــا ضد مواطنيــه، من خلال الاستجابة لمطالباته في ترحيــل المقيمين عـلـى أراضيها، من أفــراد الجالية التركية المعارضة، وكذلك استمرارية ابقاء حزب العمال الكردستاني على لائحة الارهاب من أجل تركيا, رغم أنه ظهر في الفترة الاخيرة وبعد تحقيقات
مطولة استمرت عشرات السنين, تبين أن حزب العمال الكردستاني بريء من تهمة اغتيال رئيس الوزراء السويدي الراحل اولف بالمه سنة 1986 والتي بموجبها تم وضع الحزب على لائحة الارهاب لدى معظم الدول الاوروبية والولايات المتحدة الاميركية.يلجأ النظام الحاكم في تركيا الى القيام بعمليات غير قانونية بالتواطؤ مع بعض دوائر الفساد في البلاد التي يتواجد فيها جالية تركية و كردية ، نظموا عمليات اختطاف لهؤلاء المعارضين وترحيلهم على متن طائرات استخبارات تركية خاصة، ليتباهى بعد
ذلك النظام التركي وأجهزة اســتخباراته بمقدرته على اختراق ســيادة الدول، واختطــاف المعارضين المستظلين بحماية هذه الــدول أو بحماية الامم المتحدة فيهــا أمــام جماهيره وأنصــاره، في ــلوك لا يتناســب وأعــراف حقــوق الانسان، وقوانين المجتمع الدولي .فهــل تحولــت تركيــا مــن نظــام ديمقراطي واعــد في المنطقة، الى نظــام سلطوي مافيوي فاسد يخترق القوانين ويتواطأ مع دوائر الفساد في جميع أنحاء العالم لتحقيق أغراضه وقمع معارضيه؟