نوسوسيال

بقلم محمد خالد الأزعر : تركيا والاتحاد الأوروبي.. المسكوت عنه

332

 

 

 

المصدر:

عشية انعقاد قمة حلف الناتو في فيلينوس عاصمة ليتوانيا (11/7/2023) تواصل أكثر من مسؤول غربي رفيع المستوى، ومنهم الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، والرئيس الأمريكي جو بايدن، مع الرئيس التركي رجب أردوغان، بغرض استحثاثه للتخلي عن الفيتو، الذي تحول به بلاده دون التحاق السويد بعضوية الحلف، لكن السيد أردوغان أوضح بلا مواربة بأن الاستجابة لهذا المطلب مرتهنة باتخاذ مواقف إيجابية ملموسة تجاه انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي تحرقت أنقرة لإنجازه، طارقة كل الأبواب المؤدية إليه دون جدوى، لأكثر من خمسين عاماً.

نحن هنا إزاء نمط من المساومة يبدو مفرطاً في الشكلانية والتبسيط، فوفقاً لأي تحليل موضوعي لا تعد الموافقة على إلحاق السويد بالناتو بحمولته، التي يغلب عليها الطابع العسكري، مساوية للقبول بعضوية تركيا بالتكتل الأشهر والأكبر أوروبياً، بكل ما يعنيه لعالم الغرب جغرافياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وعلمياً وتقنياً، فضلاً عن جوهره القيمي من النواحي الأيديولوجية والسياسية.

لا نستبعد أن يكون الرئيس التركي المحنك على وعي بهذه الخصائص الفارقة، وعليه يمكن المجادلة بأنه إنما توخى من طرحه لمطلبه غير المتوازن، الدفع بالحد الأقصى من أهدافه، فإن تحقق له فبها ونعمت، وإن أخفق فلن يضره أن يحصل على ما دون ذلك من مكتسبات.

الذي حدث بالفعل بين يدي القمة كان قريباً جداً من ها السيناريو، فقادة الحلف رفضوا مبدأ الربط والمساومة، الذي أراده أردوغان، وهنا هبط الأخير عن الشجرة بهدوء، وراح ينزل بالسقف ويعرض لملفات أخرى أقل إزعاجاً، ولها قابلية أكبر، وفرص أقوى للاستجابة والمرونة من جانبهم، مقابل منح ضوء أخضر لطموح انضمام السويد للناتو، من قبيل حل المشكلات المتعلقة بمنطقة تراقيا الغربية ذات الأقلية التركية، والنظر في إنهاء العقوبات المفروضة من بعض أعضاء الناتو على الصناعات الدفاعية التركية، والمزيد من التعديلات الدستورية الرامية لوقف حملات القوى المعادية لأنقرة في السويد، والتوسع في منح الأتراك تأشيرات الدخول لدول الاتحاد الأوروبي والإقامة فيها، وتحريك ملف طائرات إف 16 مع واشنطن.

من المؤكد أن هذه المطالب أو المكتسبات ونحوها لا ترقى بالمطلق إلى ما يمكن أن تحصل عليه تركيا من مكانة مادية ومعنوية، غداة قبول عضويتها الكاملة في المنظومة الاتحادية الأوروبية، وهذا يفسر العكوف التركي الممتد بلا ملل على أبوابها، غير أن التأمل ملياً في فروض هذه التجربة الاتحادية وتقاليدها وعلة نشوئها، الظاهرة المعلنة عموماً والمستترة الباطنة بخاصة، يسمح بالاعتقاد بصعوبة، إن لم يكن باستحالة، الترحيب بهذا الوافد كونه طرفاً أصيلاً في صلبها.

عطفاً على هذه المعطيات يستطيع أردوغان، وبطانته من المنحازين للفكرة الاتحادية، الدفع بأن الشطر الأعظم من الدولة التركية يعتبر آسيوياً بامتياز «بنسبة 95%»، لكن هذا الواقع لا يقدح في أوروبيتها، مثلها في ذلك مثل روسيا، التي لا يشكك أحد في طبيعتها الأوروبية، رغم وقوع أكثر من 75% من إقليمها في آسيا، بل ويمكن الزعم بأن هذا التمدد الإقليمي بين قارتي العالم القديم ينطوي على ميزات تفاعلية بأكثر مما يعني القطيعة مع أوروبا، والانفصام لصالح البعد الآسيوي.

أيضاً بوسع الوحدويين الأتراك تقديم مطولات أدبية، حول سيادة مفردات التعامل لديهم بحسب المقتضيات الأوروبية، الغربية إن أراد البعض، لا سيما منذ أفول الحقبة العثمانية قبل مئة عام، لكن هذه الدفوع المتداولة بالفعل في سياق البحث عن مقعد في الركب الاتحادي الأوروبي، لا يبدو أنها كافية لإقناع رواد هذا الركب بأنهم بصدد كيان أوروبي حقيقي يتعين إفساح المجال أمامه إلى جانبهم رأساً برأس.

تقع كلمة السر في هذا الصدود في أن الاتحاد الأوروبي ليس محض تعبير إقليمي جغرافي أواقتصادي أو حتى سياسي، وإنما ينبني ويتأسس على مروحة واسعة من المثل والقواعد الفكرية والقيمية شديدة الصلابة، موصولة بما يوصف بالحضارة الغربية.

وفي هذا الإطار لا يملك «الأوروبيون الأقحاح»، أو من يعدون أنفسهم أقحاحاً، تجاهل الإرث التاريخي، الذي يميزهم عن الشريك التركي اللحوح، والحق أن مسؤولين أوروبيين كباراً، من ذوي الرؤى الفقهية النظرية أو المواقف السياسية العملية، يبوحون في بعض لحظات الصدق مع النفس، بما تخفيه أنفسهم عن هذا التميز والاختلاف ليس مع «الجيران الأتراك» فقط، ولكن مع «الآخرين» بعامة، وفي بعض الأحايين يبلغ بهم الصدق حد وصف كيانهم الاتحادي بأنه «ناد مسيحي»!

الشاهد هنا أن موروث الهوية الحضارية يقع كونه محدداً عميق التأثير بالمعاني السلبية، في قلب الجدل الخاص باستقبال تركيا في الأسرة الاتحادية الأوروبية، وهذه لعمرك حقيقة لا يمكن تخطيها في أي أجل قريب، وربما في أية آجال بعيدة أيضاً.