هل الأحزاب السياسية أدوات مرحلية ظهرت وستموت تحت تأثير وتداعيات ومستلزمات أنظمة الهيمنة العالمية الرأسمالية منذ ثلاثة قرون ومنظريهم و خاصة أفكارهم الاستشراقية التي كانت لها التأثير الواضح في نشوء مختلف التيارات والتوجهات من اليمينية إلى اليسارية والليبرالية في منطقتنا وحول العالم؟
هل تحتاج المجتمعات والشعوب والدول دائماً إلى الأحزاب السياسية في مراحل نضالها و حياتها، ومتى يقل دور الأحزاب ولماذا، وما هو المشهد الحزبي القائم في المنطقة؟
هل هناك تشابه بين الأحزاب والأديان؟
كيف يمكن تطوير الأداة الحزبية لخدمة المجتمعات والشعوب، وماهي الأدوار الممكنة والمفيدة والضرورية التي تستطيع أن تقوم بها الأحزاب في مرحلتنا الحالية، وما هي الشخصية الحزبية الريادية أو الكادر الأكاديمي المطلوب بنائه ليكون نواة المجتمع الديمقراطي؟
ماذا يعني حل القضية الكردية للمنطقة وللشرق الأوسط؟
كانت الشخصيات الحكيمة والكهنة والأطراف السياسية والمذاهب الدينية في مجتمعات العصور القديمة تلعب دور الأحزاب المعاصرة. كما كانت السلالات المتحاربة في الساحة والأفرع العسكرية وعلماء الطبقة البيروقراطية المتنازعة تستميل عدداً كبيراً من الحلفاء لمصافّها، في سعي منها لإحراز التفوق وبسط النفوذ.
وتزامناً مع ولادة القضايا الاجتماعية، تظهر أيضاً الأحزاب المتميزة بمختلف مقترحات وسبل وأدوات الحلّ. ولطالما تواجدت الأحزاب على مرّ العصور، علنيةً كانت أم سرية. فاللجوء إلى قوة الحزب هو السبيل المنطقيّ الأفضل، في حال عدم كفاية القوة الشخصية للتدخل في أية قضية اجتماعية، أو للتصدي لأية إدارة داخلية أو خارجية. فلكلّ مواجهة حزبها. حتى الأديان والمذاهب التي تشتمل عليها والطرائق الدينية أيضاً تلعب دور الحزب في انطلاقتها. فكلّ واحد منها في نهاية المآل حزب قائم بذاته، أياً كانت الهوية التي يسمّي بها نفسه أيديولوجياً وسياسياً وأخلاقياً. وفي عهد الهيمنة العالمية و الحداثة الرأسمالية، اتّخذت هذه التقاليد التاريخية أشكالاً جديدة، متحولةً بذلك تدريجياً إلى الأحزاب المعروفة بمعناها الراهن من قواعد و أفرع ومكاتب ومجالس مركزية وهيئات قيادية ورئيس.
تؤدي الأحزاب أدواراً مهمةً من قبيل: إبراز الشرائح الاجتماعية التي تعتمد عليها أو تهدف إليها، وتمثيلها، واستبيان أحقيتها، وإعادة صقل معالمها حسب المعايير العصرية. كلّ هذه الحجج تبرهن استحالة التخلي بسهولة عن دور الحقيقة الحزبية داخل المجتمعات. والزعم بعدم جدوى الأحزاب ليس بالأمر اليسير لأجل مجتمع يطمح إلى صون نفسه والرقيّ بذاته. لكنّ هذه الأوضاع لا تعني أنه لا يمكن الاستغناء بتاتاً عن الأحزاب. فكلما تطور مجتمع ما، وتقاسم شؤونه مع كافة أعضائه ومنسوبيه؛ كلما خسر التحزب أو المحازبة معناه وجدواه. كما ولا يشعر مجتمع ما بالحاجة إلى المحازبة، عندما يكون في مستوى كلانات بدائية أو يعيش على شكل أنساب قبليّة. فجميع الكلانات أو القبائل هي في الواقع بمنزلة أحزاب. ونشوء الأحزاب دليل على وجود طبقات ومصالح مضادة لها ضمن المجتمع. بالتالي، تفقد التحزبات المختلفة معناها، كلما زالت الفوارق الطبقية وتقاطعت المصالح. وأحياناً تؤسّس عدة أحزاب لأداء نفس الوظيفة الاجتماعية. لكنّ أمثال تلك الأحزاب لن تنأى بنفسها عن الفناء في وجه حزب أثبت جدارته من حيث الثبات والقيام بدوره المأمول. كلّ السرود الآنفة تسرد أسباب استحالة تخلينا عن الأحزاب الاجتماعية. بل وحتى إنّ امتلاك كينونة الدولة أيضاً لن يكفي تماماً لتغطية الحاجة إلى التحزب.
المشهد السياسي:
لكن لو نظرنا لواقع الأحزاب ودول المنطقة وحالة التحزب الأجوف والفراغ الفكري والسياسي والثقافي الموجود سندرك بعض من حالة الضعف والهزيمة التي لحق بالكثير من الأحزاب التي كانت لها صولا وجولات ولها ملايين المنضمين والمؤيدين، المشكلة أن الغالبية من الأحزاب والتيارات السياسية وكذلك حركات التحرر الوطنية وبمختلف مشاربهم وتناقضاتهم كانوا منتوجات للأفكار الاستشراقية الحداثوية أو تأثروا وتم بنائهم تحت هذه الأفكار والظروف السائدة ، بحيث أن بوصلة توجهاتهم كانوا لخدمة الهيمنة العالمية وأدواتهم الإقليمية رغم أنهم ظنوا أنهم مستقلون ويخدمون أوطانهم وشعوبهم، لكن بعض حوالي 60 أو 70 سنة تبين أن الأفكار التي كانت تحملها هذه الأحزاب والهياكل والأطر السياسية كانت بتوجيه من الخارج كالأفكار القومية والسلطوية- الدولتية والإسلام السياسي والجنسوية المقيتة.
طبعا يمكننا أن نرى هذه الحقائق من خلال مايعيشه أغلبه الأحزاب القومية واليسارية واليمينية والإسلامية التي فشلت في إدارة مجتمعاتها والدول التي ظنت أنها تقودها ولكن مع حالة الأزمة والفوضى في المنطقة تبين هشاشة وسوء إدارة وتابعية هذه الأحزاب للخارج وخاصة تلك الأحزاب التي قادت الدول القومية الأحادية والتي هزمت أمام أول عاصفة وأزمة حقيقية لبعدها واغترابها عن تمثيل والقرب من الحقيقية المجتمعية، وإن لم يكن كذلك فكيف يمكن أن نجد إنسان يكون في الصبح يساري وفي الظهر يميني وفي الليل ليبرالي أو إسلامي ، فالحقيقية ليس هناك إنتماء أو فكر وأداء يمثل الحقيقة المجتمعية بصدق ـ بل أنها كانت أحزاب أدواتية للوصول للسلطة والحكم فقط وليس لمعالجة القضايا الأساسية التي قام الكثير منها لحلها أو تحزب حول حلها .
ولعل حالة الأحزاب اليسارية في المنطقة وكذلك القومية التي أضاعت بوصلتها وتخلت عن شعاراتها التي كانت ترددها ليل نهار فنرى في دول المناطق أحزاب يسارية ولكنها فاشية أو أحزاب شيوعية ومتحالفة مع الإسلاموية الشيعة أو السنية وهناك الليبرالي المصلحي الذي يتحالف مع الكل وحتى الشيطان للحصول على المناصب والكراسي. حتى أصبح بعض الاحزاب في دول المنطقة موسمية ومنسباتية فتاسس قبل الانتخابات وتحل بعض الانتخابات وكأنها فقط وسيلة لدخول الانتخابات والوصل للبرلمان أو الإدارة المحلية وبعض الكراسي والمناصب.
كما أن ثنائية المعارضة والمولاة أصبحت لعبة لا جدوى منها مع تحكم ونفوذ الدولة العميقة في هذه الثنائية ، ففي الكثير من دول المنطقة الأحزاب الموجودة في السلطة أو المعارضة هي أحزاب دولتية ولأجل السلطة و الدولة ولها أدوار معينة ومحددة في السلطة أو البرلمان أو خارجها، تؤديها حسب موقعها وهم يتفقون في الأمور التي تهم الدولة وأجهزتها ويتخالفون ويتصارعون لتقديم مشاهد مسرحية في البرلمان أو في الإعلام لخداع الجماهير وإيهام أن هناك معارضة ومولاة. كماه هي الأحزاب السياسية في تركيا وفي الكثير من دول المنطقة، فكل أحزاب تركيا ماعدا حزب الشعوب الديمقراطي له موقف واحد وهي تؤيد كل ممارسات وأفعال وتدخلات واحتلالات تركيا داخلياً وخارجياً.
وهناك الأحزاب الصغيرة التي تشكلها الأحزاب الكبيرة لأدوار معينة لسد الطريق امام كتل وأحزاب أخرى أو لقول أن الحزب الفلاني والفلاني أيضاً في توافق مع المسار السياسي للحزب الكبير.
ومن المهم التطرق إلى المشاريع والأفكار السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحملها الأحزاب السياسية بغض النظر عن الأشخاص و الوجوه التي في أغلب الأحيان و الأحزاب تظل نفسها وكأنها أحزاب شخصية أو عائلية لا تخرج عن النطاق الضيق، كما هي سلطات ودول المنطقة القوموية التي تدعي بأنها جمهورية وديمقراطية وقومية وهي تتمسك بالسلطة ولا تتنازل عليها إلى للقبر.
من الصحيح ونتيجة تبلور المشهد السياسي في المنطقة في ظل الهيمنة العالمية وأدواتهم السلطوتية-الدولتية من القوموية والإسلاموية والجنسوية وأزماتهم المتفاقمة، هناك ضغوطات كبيرة ومساحة التعبير و التنظيم والتوعية السياسية ضيقة غير كافية في دول المنطقة لتواجد ونمو مسارات وسياقات سياسية متنوعة و مختلفة تستطيع أن تعبر عن نفسها ورؤيتها وحلولها، لكن ورغم ذلك لم تقم هذه الأحزاب بالخطوات والجهد والعمل اللازم لتطوير نفسها وأدواتها واساليبها فهي إما ذات أساليب تصادمية وإنكارية للأخر فتتم غلقها ومنعها أو أنها ذات أساليب تصالحية مرنة جداً لا تستطيع حماية نفسها وأعضائها ورؤيتها إن كانت موجودة من الذوبان والانصهار والفناء، فالنضال السياسي والأيدولوجي والفكري يحتاج لفكر متنور وقادر على الرؤية الصحيحة وأساليب وأدوات تستطيع قراءة التحديات وخلق آليات المواجهة والنضال المناسبة. وهناك نوع من النضال الحزبي والشعبي الديمقراطي يرفضه بعض الدول القومية لأنها تمس هذا الكيان الدولتي المصطنع الأحادي الذي يقوم على النمطية والتجانس والمركزية الشديدة والتابع للخارج وهمه تقزيم وإضعاف خصوصيات وألوان وألسنة الشعوب والمجتمعات.
وعندما لا يستطيع الحزب تمثيل الحقيقة المجتمعية وصقل الطبقة والفئة المستهدفة أو عندما لا تكون بالمستوى اللازم لتقديم القراءة والرؤية الثاقبة للأحداث وتمثلها مع حالة النفاق والتضاد بين القول والفعل لن يبقى حول الحزب الكثير من الأعضاء والمؤيدين، علاوة على حالة الجهل السياسي والثقافي والفكري المتواجد في المنطقة بين النخب السياسية والثقافية وفي المجتمعات والشعوب التي حاولت القوى السلطوية-الدولتية فرضها لكي تستطيع فرض أجندتها ورؤيتها التي تخدم أهدافها ومصالحها.
وعليه فالحالة السياسية والحزبية هي أيضاً تعاني من أزمة كما هي الاقتصادية والأمنية بل أن التصحر السياسي والفراغ السياسي الموجود هو أحد أسباب الأزمات الأخرى وتصاعدها، في الوقت الذي مطلوب من الفعل الحزبي السياسي قيادة نضال وكفاح التغيير والاصلاح وطرح الحلول، ولكن هذه الأحزاب تحتاج من يطرح عليها حلول لتخرج هي من أزماتها وتقوقعاتها وتكون أحزاب بقدر المسؤولية وتعيش زمانها لا زمان غيرها الذين أنجزوا ربما ورحلوا ولكن في الوقت الحالي تحتاج إلى ما هو جديد ويتناسب مع الواقع والشروط الحالية كما هي الاحزاب اليسارية والقوموية وحتى الإسلامية التي دفنت نفسها في الماضي دون الاعتماد عليه كقيم ومبادئ وتطويره وتجديده وفق الظروف والشروط والتحديات الحالية. الممكن والصحيح هو العيش في الحاضر والاستفادة من دورس الماضي لا العيش في الماضي وكأننا مستحاثات لا نستطيع القيام بالتجديد والإبداع وتقديم الحلول والأفكار والأطروحات الجديدة للأزمات الحالية، وكما هناك حاجة لتجديد الخطاب الديني فهناك حاجة لتجديد الخطاب القومي المتخشب الذي ورغم فشكل كل محاولات فرض النمطية والتجانس واللون الواحد من قبل التيارات والدول القومية، كما حال بعض اليساريين والأحزاب الشيوعية الذين لا يريدون تطوير وتجديد أنفسهم وأرائهم وأحزابهم رغم أنهم ينتهون ويضعفون كل يوم حتى أصبحوا عديمي الأثر والوجود في المشهد السياسي في دولهم ومجتمعاتهم وسينتهون إذا استمروا على مواقفهم وجمودهم الفكري والفلسفي السياسي.
وعليه من الصحيح القول أن هذه الاحزاب والتيارات السياسية هي أدوات سلطوية-دولتية غير قادرة على إبداع الفكر والحوار السياسي للحياة ومتطلباتها الحياتية ناهيك عن الضعف الثقافي والجهل ببواطن وتواريخ المنطقة والأمور والاعتماد على ما هو جاهز من أصحاب السلطات والمال والهيمنات عبر الوسائل التقنية والانترنت والإعلام الممول التي تتحكم بها قوى الهيمنة والرأسمالية العالمية وأدواتها وتوجهاتها وأزلامها.
والإشكالية الكبيرة أن الأحزاب السياسية ورغم أدعائها أنها ضد جهات وأطراف معينة، ولكن لو تتبعنا سلوكياتها ومسيرة حياتهم ونمط حياة القيادات وأفراد هذه الأحزاب سنجد أنهم يتشبهون بالذين يتم وصفهم بالجانب الأخر السلبي، فكيف ستنتصر على شخص وجهة وأنت تخضع له في أسلوب ونمط حياتك لأسلوبه ونمط حياته، فالنضال والمعركة خاسرة حتى قبل أن تبدأ طالما أن الأثنين يتبعون نفس نمط الحياة ويتبعون نفس الوسائل والطرق فنفس الطرق تؤدي إلى نفس النتائج رغم الأدعاء بالأهداف المختلفة، وفي هذه حقيقة مهمة يجب عدم إغفالها فالكلام النظري والتعبئة الجماهيرية والحزبية لن تكون ناجحة ومفيدة في حال وجود نفاق وإزدواجية وخلاف بين النظري و العملي وهنا يكمن التعريف الصحيح في الأيدولوجية وهي ليست مجموعة عقائد ومبادئ ثابتة فقط بل هي نمط وطريقة الحياة والحداثة المتبعة وليس السفسطة والثرثرة والقالبية والدوغمائية في وادي بعيد عن الواقع والحقيقة ومتطلبات ومصالح المجتمعات والشعوب.
ونستطيع القول أن الأحزاب والتيارات السياسية وبهده الأشكال والأنماط هي أحزاب وقوى سياسية سلطوية_دولتية ترغب بأن تكون القائدة للدولة والمجتمع كنمط فاشي وليس لها علاقة بالديمقراطية أو بالمجتمع الذي يبحث عن من يمثله ويمثل حقيقته ويدافع عن مصالحه وليس من يستخدمه للوصل للسلطة والحكم وثم تركه فريسة ومادة خادمة للسلطات القادمة وأصحاب رؤس الأموال تنهش فيه وتأكل حقوقه بدون وجه حق وتحت أسم الثورة والسلطة الجديدة أين كانت تسمياتها السياسية وانتمائها الديني والعقائدي والقومي والسياسي.
أما بالنسبة للنظام الذي يطرحه المفكر والقائد عبدالله أوجلان، العصرانية الديمقراطية كبديل للهيمنة العالمية الرأسمالية على المنطقة وأدواتها وتقسيماتها وأحزابها فهو النظام الديمقراطي الذي يبحث عن المجتمعات والشعوب والأمم أولاً، فالحزبية أو الريادة الديمقراطية تعني التلاحم الأيديولوجيّ والعمليّ مع عناصر هذا النظام. أي أنّ مصطلح الحزب الذي كان يناط سابقاً بالدور الطليعيّ، قد تمّ تمكينه على شكل ريادة العصرانية الديمقراطية نظرياً وعملياً. أما المهمّة الأولية للريادة الجديدة، فهي تغطية الاحتياجات الذهنية والإرادية للمجتمع الاقتصاديّ والأيكولوجيّ والديمقراطيّ، الذي يشكّل الدعامات الثلاثة لهذا النظام في الإدارة الكونفدرالية الديمقراطية المدينية والمناطقية والإقليمية والوطنية والعابرة للقوميات. ومن الضروريّ بمكان تشييد البنى الأكاديمية بما يكفي كمّاً ونوعاً. هذا وبالمقدور إنشاء هذه الوحدات الأكاديمية الجديدة بأسماء مختلفة تتوافق ومضامينها، بحيث لا تقتصر فقط على انتقاد العالم الأكاديميّ للحداثة، بل وتصوغ البديل اللازم أيضاً إلى جانب ذلك. أي أنّ المهمّة الأساسية هي إنشاء الوحدات الأكاديمية بشأن كافة ميادين الحياة الاجتماعية حسب الأهمية والحاجة، وفي مقدمتها ميادين التقنية الاقتصادية، الزراعة الأيكولوجية، السياسة الديمقراطية، الدفاع– الأمن، المرأة– الحرية، الثقافة– الهوية، التاريخ– اللغة، العلم– الفلسفة، والدين– الفن. ذلك أنه محال إنشاء عناصر العصرانية الديمقراطية، دون وجود فريق كادريّ أكاديميّ متين. أي، وكيفما لا معنى للكادر الأكاديميّ من دون عناصر العصرانية الديمقراطية، فعناصر العصرانية الديمقراطية أيضاً لن تفيد أو تنجح في شيء من دون الكوادر الأكاديميّة. بمعنى آخر، فالكلّيّاتية المتداخلة شرط لا ملاذ منه في سبيل المعنى والنجاح.
يجب التخلي عن مفاهيم حداثة النظام العالمي الرأسمالي وتخطّيه بكلّ تأكيد، والذي يبدو على المرء كرداء اللعنة والعبودية لفصله بين الفكر والقول والعمل. فعلامات النّبل والجلال هي ضرورة عدم التمييز إطلاقاً بين الفكر والقول والعمل، والتحلي بالحقيقة دوماً، وعيشها وارتداؤها ضمن كلّيّاتية متكاملة. وكلّ من يعجز عن تجسيد ثلاثتها معاً، فعليه ألا يخوض حرب الحقيقة أو يتكلم عن السياسية والنضال المجتمعي. فحرب الحقيقة لا تقبل تحريفات وأراء ومصطلحات الحداثة الرأسمالية العالمية المهيمنة، ولا تستطيع العيش بها، فالكادر الأكاديميّ هو الدماغ والتنظيم والأوعية الشعرية المنتشرة في الجسم (المجتمع). وبما أن الحقيقة متكاملة وأن الحقيقة هي الواقع الكلّيّاتيّ المعبّر عنه. فالكادر هو الحقيقة المنظّمة والمتحولة إلى ممارسة وأداء وسلوك.
وفي تجربة الشعب و المجتمع الكردي الحزبية والسياسية والريادية الكثير من الدروس والعبر لكل أحزاب وتيارات النضال في المنطقة والعالم، كونه تعرض لمؤامرات دولية ويعيش واقع فيه الكثير من التحديات وظل يشكل أمة ليس لها دولة قومية كباقي الشعوب ومعرض للإبادة والتطهير العرقي، وكانت الأحزاب الكردية تريد تمثيل المجتمع وصقله وتوعية وخلاصه من الإبادة والانصهار والتصفية والموت وإيجاد أليات الحماية والدفاع الذاتية المشروعة والسياسة الديمقراطية وبناء منظومة العلاقات وممارسة الدبلوماسية الشعبية باسم الشعب الكردي مع المحيط والعالم للوصول إلى فرض قضيته على الساحة السياسية والعسكرية في الإقليم والعالم للوصول لإنجاز و تحقيق الحرية والديمقراطية له وللشعوب المجاورة والمتشاركة معه، عبر إحياء التاريخ والثقافة الذاتيتين وكذلك البحث والتجديد وتقديم كل ما هو مفيد وصالح ومثمر للساحة والمشهد السياسي النضالي والحزبي الذي تم توسعته ليكون المجتمع بكامله في غمرة النضال والبحث عن حرية الشعب الكردي في بناء النظام وإدارة المجتمع والشعب عبر أفق ديمقراطية واسعة وريادة سياسية وايدولوجية وفلسفية للحياة السياسية و للكادر الحزبي الأكاديمي الذي يمثل نواة الحل والديمقراطية لمجتمع الحل وهو المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي والاقتصادي، كبديل للرأسمالية وقومويتها الدولتية وتقسيماتها في المنطقة.
يأتي استقبال الشعب الكردي لحزب العمال الكردستاني (PKK)بحفاوة واهتمام عظيم منذ أيام ولادته في نهاية السبعينات وتحوله لأكبر حزب أو إطار تنظيمي ديمقراطي كردي شعبي وثم تجاوزه البعد الكردي إلى منظومة المجتمع الكردستانيKCK)) و ثم إلى الشرق أوسطية في مشروعه الكونفدرالية الديمقراطية لأمم الشرق الأوسط من :
1- ملئه فراغاً كبيراً في المجتمع الكرديّ وشعوب المنطقة وفي السياقات المجتمعية الديمقراطية نتيجة تواجد الأحزاب الساقطة والتابعة للقومويات الدولتية الحاكمة على الكرد وشعوب المنطقة ورعاتهم الإقليميين والعالمين، فلم يكونوا أحزاب الشعب ولم يكن لديهم الثقة والإيمان بالشعوب وقوتهم رغم حالات الضعف المفروضة.
2- تلبيته حاجات حياتيةً ضمن المجتمع الكردي وضمن شعوب وأمم المنطقة. وكلما أثبت ( KCK وPKK ) ثباته ومبدئيته في القول والعمل، كلما تضاعف الإقبال عليه والقبول به داخل المجتمعات والشعوب والأمم.
3- حفاظه على اعتباره وعلى الشعور بعدم الاستغناء عنه ضمن المجتمعات والشعوب رغم بعض النواقص، وبعض الأضرار التي تسبّب بها، إنما ينبع من تلبيته حاجةً تاريخيةً واجتماعيةً ملحوظة، ومن قيامه بدور كهذا.
4- طرحه المشروع الديمقراطي المجسد لقيم المنطقة وثقافتها والدمج بين التاريخ والثقافة والعلوم المعاصرة وإنجازه تركيبات فكرية وفلسفية ومجتمعية ديمقراطية جديدة كالأمة الديمقراطية والعصرانية الديمقراطية.
5- تجاوزه القوموية والإسلاموية والجنسوية واعتماد أخوة الشعوب وحرية المرأة وريادتها مع الشباب لجهود التغيير والإنجاز والبناء.
6- اعتماده على المجتمعات والشعوب كاستراتيجية وأصول موارد لاستقلالية الفكر والإرادة والمشروع والهدف و كاستراتيجية طويلة للبقاء والنضال دون الخضوع لغير الشعوب والمجتمعات والوصول لهدف الحرية والديمقراطية مع فتح الأبواب للعلاقات والتواصل المرن مع الجميع حتى القوى السلطوية-الدولتية والمهيمنة العالمية مع الحفاظ على الهوية الأيدولوجية.
إنّ مقدرة الأحزاب والأطر التنظيمية السياسية المختلفة وحتى بعض منظمات المجتمع المدني وكافة الأطر والصيغ المجتمعية ومنهم الأحزاب الكردية والعربية ومنهم حزب العمال الكردستانيPKK الذي يمثل أحد الفواعل المهمة ليس في المجتمع الكردي بل في المنطقة من غير الدول، يتوقف على أداء أدوارهم في المرحلة الجديدة وهو مرتبط بمدى إعطائهم الجواب اللازم للاحتياجات التاريخية، وتأديته مهامّهم الراهنة بصيغ واشكال صحيحة و سليمة.
فواقع الأمة العربية وحالة الربيع العربي أو الخريف مازال يحتفظ بتداعيات وتحديات كبيرة أمام الأحزاب والسياسية العربية، وحالة ظهور حركات الإخوان الإرهابية وتخبط الأحزاب القومية وقالبيتهم وجمودهم مع الأحزاب والتيارات اليسارية والشيوعية والتقدمية التي أضاعت البوصلة فمرة تقف مع الإسلام السياسي ومرة مع الليبراليين اليمينين وكأن ليس أمامهم إمكانية تطوير وممارسة التجديد وإبداع الفكر استناداً على الجهود والأفكار العظيمة التي كانت لها الفضل في توجيه وقيادة الشعوب حول العالم لسنوات طويلة. فالمرحلة تتطلب مراجعة شاملة من الأحزاب العربية أو السياسيين العرب لبناء سياسية عربية مجتمعية تكون قادرة برؤيتها السياسية والفكرية ومشاريعها الديمقراطية والبيئية والاقتصادية على أن تكون رائدة في الفعل المجتمعي المنظم لتحقيق مصالح الشعوب والمجتمعات العربية قبل الدول العربية رغم وجود الكثير من التحديات والصعوبات المختلفة.
أما الأمة الكردية وواقع المجتمع، فمثلاً الاعتراف بالهوية الكردية وبروز إرادة الحياة الحرة لا يعني أنّ القضية الاجتماعية بلغت حلّها النهائيّ. بل يشير فقط إلى قطع أشواط مهمة على هذا الدرب. وتحتلّ تلبية حاجات الهوية والحرية بضمانات قويمة وتأمين سيرورتها مرتبة الصدارة في لائحة القضايا العالقة. ذلك أنّ الهوية الكردية وطموحات الحياة الحرة التي تفتقر لأية ضمانات قانونية واقتصادية وسياسية ودفاعية، قد تسحق أو تعرّض للمجازر على يد أعدائها في كلّ لحظة. ولهذه الأسباب تحديداً، يتعين على على الأحزاب والسياسة الكردية أداء دورهم الإيجابيّ، وليس فقط النجاح في المهامّ السلبية كما كانت لمدة طويلة من الزمن، أي في مهامّ إعاقة السلبيات وسدّ الطريق عليها. وفي هذه المراحل يتطلب إنجاح المهام في البناء الذي يطغى عليه الجانب الإيجابيّ. ولن يتمكن الأحزاب السياسية وكافة الأطر المجتمعية السياسية من إنجاح تلك المهامّ التي يكمن في خلفيتها بناء الديمقراطية والتحول الديمقراطي، إلا بنيل الهوية الديمقراطية الجديدة، وإضافة المعاني المرادة على تلك الهوية.
يتميز بناء و إنشاء الأمة الديمقراطية بالأولوية كمشروع للحل الديمقراطي وكسياق مجتمعي وديمقراطي وتكاملي لحل القضايا والأزمات وبناء الحياة الحرة والديمقراطية لكل المجتمعات والشعوب والخصوصيات المختلفة في المنطقة ودولها وهي التي تمهد و تؤدي إلى التشارك والعيش المشترك والأخوة والديمقراطية والحرية والعدالة والتنمية ومواجهة الإرهاب والفقر والتحديات المختلفة. وبينما يتطلب هذا الإنشاء إنجاز الثورة في الذهنية والفكر وعلم الاجتماع، فهو متعلقٌ أيضاً بإنجاز المهامّ الديمقراطية أي الأخلاقية والسياسية معاً. وبالرغم من كلّ التضيق ومحاصرات نظام الهيمنة العالمية وأدواتها الإقليمية والمحلية، إلا إنّ ريادة الأحزاب والسياسية ومختلف الأطر التنظيمية المجتمعية ستوفّق بقدر ما تتبنى دورها ضمن هذا الإطار.
ولابد من ذكر بعض النقاط الهامة للكينونة السياسية في سبيل نجاح الحياة السياسية وريادة الأحزاب لبناء الديمقراطية وحل القضايا:
1- فلسفة الحياة الحرة كنمط للحياة السياسية: