نوسوسيال

بقلم ليلى موسى : الحل . . لأجل الحل

492

الحل لأجل اللا حل

عقود والشرق الأوسط يعيش على أنهار من الدماء، واستنزاف للأرواح والبنية التحتية، وعقود مليئة بالتناقضات والصراعات والحروب والدمار والاستنزاف، ولم تعرف هذه المنطقة الاستقرار والهدوء إلا لفترات وقتية ومرحلية، وكلما انتهت الحروب والاحتلالات الخارجية، بدأت شعوبها، رحلة سبات جديدة مع الاستبداد والاضطهاد تحت وطأة القبضة الأمنية لحاكمهم، وآلة القمع التي لم تتردد- ولو لبرهة- في إرهاق كاهل المواطن وتقييد حريته. لذا وحتى في الفترات التي عرفت بالاستقلال والتحرر من الخارج كان هناك مصير محتوم بانتظارهم مع آلة القمع الداخلي على يد حكامهم الأبديين.

القمع والعنف ظلا ملازمين للشعوب الشرق أوسطية، وقد القيا بظلالهما على المجتمعات في خلق حالة التوتر والقلق والترقب والبؤس وانعدام الأمن والأمان وعدم الثقة والشك وفوبيا من المستقبل المجهول والتغيير والتجديد سلوكيات واضحة المعالم على جميع مظاهر الحياة اليومية للإنسان الشرق الأوسطي؛ عبر الهروب من الواقع ومواجهة التحديات والأزمات والتأجيل غير المبرر وردود أفعال عاطفية سريعة غير مدروسة حيَّال أبسط المواقف؛ في ظل غياب تام لحكمة العقل والمنطق والتخطيط والاتكالية على الأخر. الإنسان الشرق أوسطي وإن تمتع بعض الشيء بالأمن والأمان الخارجي بعد كل مرحلة تحرير من الاحتلال والصراع مع الآخر المغتصب؛ إلا أنه ظل أسيراً للقلق وانعدام الأمن الداخلي وملازماً له طوال مسيرته الحياتية؛ في ظل استمرار إدارتها –المنطقة- من الخارج المفروض وفق خطط واستراتيجيات ورسم خرائط.

حتى باتت هذه الحالة الدخيلة ملازمة لمسيرة المجتمعات الشرق أوسطية؛ وفي بعض الأحيان؛ أصبحت تدريجياً،- لدى البعض من شعوب المنطقة- جزءاً من الحياة اليومية الروتينية؛ مستخدمين شتى وسائل التكيف معها وكأنها الحتمية القدرية لابد من معايشتها؛ بل ويستحيل تجاوزها بدلاً من مناهضتها.

فبعد انطلاق ربيع الشعوب في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا في محاولة من شعوبها هذه المرة على غير سابقاتها مناهضة حكوماتهم؛ وليس من الخارج المغتصب والاحتلالي، في مسعى منهم لكسر جدار الصمت وإنهاء مرحلة السبات الأبدية مع آلة القمع والعنف المفروضة مع أبدية حاكمهم بالبقاء على كرسي السلطة؛ والبدء بانطلاقة جديدة معلنين تمردهم على القمع والخوف واطلاق العنان للحرية والبدء بمسيرة حياة تتحقق فيها مواطنة حقيقية؛ حيث الوطن للجميع، وسيادة الدستور أو القانون فوق الجميع، ولا سلطة تعلو سلطته، وتحطيم مفهوم الملك أو الرئيس أو الحاكم الإله الأبدي .

ربيع الشعوب الذي خلَّف وراءه عقد من الزمن، ملطخة بالدماء والدمار وتدمير شبه كلي للبنية التحتية؛ معاناة الإنسانية فاقت التصورات والمخيلة وموجات من الهجرة التي لم تهدأ وأوضاع معيشية متردية، وشعوب مهددة بالمجاعة. عقد من الزمن والشعوب تتجه من السيء إلى الأسوأ، وتحولت من تحكم وقبضة السلالة الحاكمة إلى فتح الأبواب لاحتلالات والتدخلات الخارجية؛ والأهم من كل ذلك تصاعد الحركات الإسلاموية بشكل دراماتيكي؛  حولت بوصلة الشعوب بدلاً من مناهضة الحاكم ودمقرطة البلاد، إلى مناهضة التطرف والإرهاب الانتقال من فوبيا استمرارية الحكام الأبديين الرافضين عن التخلي على كرسي السلطة والمدججين بآلة القمع والعنف، إلى فوبيا البقاء تحت رحمة الإرهاب والتطرف والمصير المجهول معه.

لا شكّ أن انفجار الانتفاضات الشعبية كانت حالة طبيعية ومحقة على الاستبداد والاضطهاد والديكتاتورية؛ ولكن ما لم يكن طبيعياً هو ما آلت إليه الأوضاع عقب ربيع الشعوب. وعندما نبحث عن أسباب مألات ثورات ربيع الشعوب وما حلّ بالبلدان من دمار واستنزاف ليس بجديد ويعود بأحد أسبابه الجوهرية والرئيسية إلى فرض نماذج لنظم حكم وفق رؤى وأجندات بعيدة كل البعد عن طبيعة وخصائص كل مجتمع على حِدة.

فالأزمة السورية على سبيل المثال وليس الحصر وما مرت بها من تحولات وحالة استعصاء على الحل؛ في وقت تطرح العديد من المشاريع لإدارتها من قبل العديد من الدول والقوى والجهات الفاعلة في الأزمة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؛ ومعظم هذه المشاريع المطروحة كحلول للأزمة إنما تحمل في طياتها الهادفة إلى اللا حل. إذاً “الحل لأجل اللا حل”، وإلا كيف يكون السبيل لتمرير الأجندات والمصالح المفروض تحقيقها. لذا، يمكن اعتبار معظم ما تم طرحه من مشاريع على أنها حلالة للأزمة، تكون مفروضة من الخارج مع تجاهل تام للخصوصية المجتمعية والشعب السوري. فسوريا تحولت إلى ميدان لتجارب الدول والقوى؛ لعلهم يجدوا فيها ضالتهم وتحقيق مشاريعهم وأطماعهم الاحتلالية أو الاقتصادية أو دورهم الذي فقدوه.

فالبعض حتى ينال قبول الآخر لأثبات صحة إدارته للأزمة عبر تعميم تجربتها على باقي الدول والمجتمعات دون مراعاة أدنى درجة لخصوصية المجتمع السوري. وبالتالي في حال تطبيق ذلك النموذج من الحكم ما هو إلا من أجل الحفاظ على تجذير المشكلة؛  وبل ربما يساهم في زيادة حجم التناقضات داخل المجتمع السوري وبالتالي زيادة الهوة والنفور بين السلطة الحاكمة والشعب.

أما البعض الأخر فوجدها فرصة لاستعادة حلمه التاريخي، ووجد ضالته عبر دعم الجماعات الإسلاموية والسعي الدؤوب على أسلمة الدولة السورية، سواء أكانت بصبغتها السنية أو الشيعية وهي ما تتناقض مع خصوصية التنوع الاثني والعقائدي للمجتمع السوري.

السعي الحثيث من البعض الأخر للحفاظ على النظام المركزي الأبوي أسوة بنظامه الحاكم؛ وبالتالي الحفاظ عليه ومنع المساس به. وهكذا أنظمة مجال التفاهم والتنسيق متاح أكثر معه؛ ومن ناحية أخرى، ربما يقطع الطريق أمام الشعوب المطالبة بالتغيير. فهذه البعض من النماذج المطروحة -والتي أثبت فشلها على مر التاريخ- وجميعها قوالب جاهزة تفرض من الخارج في ظل غياب إرادة تامة لخصوصية وإرادة واحتياجات المجتمع السوري.

الغاية الأساسية من وراء تلك الدوافع ربما تتجسد وبالدرجة الأولى في أولوية مصالح تلك القوى والجهات والدول على حساب مصالح الشعب السوري. بالإضافة إلى رغبتهم الأساسية وضع مشاريع الحل لأجل اللا حل، حتى تضمن تحقيق أهدافها المباشرة كتكتيك والإبقاء على منطقة هشة تعاني من تناقضات يسهل تدخلهم وتحكمهم بمسار المنطقة متى ما أرادوا كاستراتيجية.

وحتى أنهم يحاربون بقوة أي مشروع وطني نابع من رغبة وإرادة أبناء الشعب السوري؛  الذي يسعى كي يحافظ على الهوية والسيادة السورية ويحقق مواطنة حقيقية تلبي احتياجات المجتمع والشعب السوري على حدٍ سواء. فنموذج الإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سوريا بالرغم من اثبات نجاحها كتجربة واقعية معاشة، إلا أنها تحارب من معظم الأطراف؛ والكل يسعى للقضاء عليها، لأن استمرارية هذه التجربة وتعميمها على كامل الجغرافية السورية؛ سيكون السبيل لوضع حد لتدخلات الخارجية ومشاريعها، ومن جهة أخرى خوفهم من انتقال تلك التجربة إلى داخل بلدانهم ودمقرطتها.

لذا، نشاهد الأزمة السورية تتحول يوماً بعد يوم إلى عقدة كأداء مستعصية على الحل، ليس لكونها غير قابلة للحل، بل بسبب مطلقية التعامل معها وحتمية فرض النماذج الجاهزة بحرفيتها دون مراعاة أدنى درجات الخصوصية؛ وإرادة المجتمع السوري. وإن تم فرض نظام حكم لن يكون سوى تكرار للتاريخ. فمثلما فشلت نماذج الدول القومية المفروضة من الخارج والتي تسببت بعد عقود من إدارة البلدان