نوسوسيال

الأزمة التي تعيشها الأحزاب السياسية السورية

550

من دون لف أو دوران، ومن دون الحديث عن أناس وأماكن وأحداث عشناها في تجاربنا السابقة، ولا حتى إضافة أشياء جديدة، أو أطروحة تسعى إلى تفسير “الواقع” بإحالته على حكم متعال وذاتي، هي فقط لحظة تحول في مسارنا النضالي المتواضع، تحتوي على آهات نابعة من قلب تفاصيل غريبة، تحولت إلى قصة طويلة، تحتوي على تفاصيل لن نذكر منها إلا المفيد.

بداية لا بد من وضع المسافة بين الرواية والرؤية، وبين الخطاب المفهوم  والخطاب ا لخيالي، وبين ادعاء الكمال وعدم الاعتراف بالتكامل وبالآخر، لنصل إلى رفع اللبس عن طبيعة الأزمة الموضوعية والذاتية التي باتت تعيشها الأحزاب السياسية في سوريا,  والتي لا زالت في غالبيتها تنتج إعادة إنتاج نفس الأفكار القديمة، ونفس الممارسات السياسية والتنظيمية والآليات الرمزية البالية، ونفس المفاهيم التقليدية، ونفس الأسلوب المبتذل في التناظر والتموقع في حقل السلطة، وفي حلبة الصراع من دون مشروع مجتمعي أو بدائل.

هكذا ومنذ تشكيل  اللجنة الدستورية ، وقبلها بسنوات ومنذ استلام حزب البعث السلطة في سوريا، تحولت الأحزاب السياسية السورية, العربية والكردية إلى أحزاب  مطلبية بامتياز بشكل لم يسبق له مثيل، في زمن العولمة، والتقدم التكنولوجي، والثورة المعلوماتية والرقمية، والاعتراف الكوني بحقوق المواطنة، وفي زمن سقوط الجدران، وتعدد الثقافات، والمقاربات ونسبية الحقيقة…

تحولت هذه الأحزاب السياسية إلى نسب مئوية متخصصة في أنواع وأشكال المطالب ، وإلى أرقام عددية لتصدر المراتب، وإلى صراعات حول مناصب  ومكاسب ومكاتب وكراسي  نيابية، بدل الرؤية السياسية الحزبية والتنظيمية.

والكل يعلم أن الشعب السوري اليوم لم  يعد يثق إلا في نفسه، بدل الثقة في الأحزاب والمؤسسات. وهذه معضلة كبيرة.  . ورغم ذلك تستمر الأحزاب السياسية متشبثة بزعمائها و بمواقعها، متجاهلة أعطابها التنظيمية، وثغراتها التدبيرية التي باتت تقتل كل يوم روح المبادرة والخلق والإبداع داخل صفوفها، وتقمع كفاءاتها التي أظهرت عن قدراتها الانجابية في محطات متعددة، وتستمر متمادية في حشد المهزومين وتلميع وجوههم، ضدا على الطلائع الحاملة لنفس جديد، نابع من العمق المجتمعي، ومن العمل اليومي الطموح الذي لا يحتاج للتوطئة، ولا للأعيان القدامى منهم و الجدد ( من استفادوا من الريع السياسي،  ومن وضع المال خارج الدورة الاقتصادية  التي انهارت بسب الفساد المؤسساتي واحتكار السلطةوالحكم وتسليط الأجهزة المخابراتية على الشعب السوري، واستبعاد الكفاءات والقدرة على الإنجاز، والتخطيط ووضع أحجار الأساس قبل أي بناء.

ومع أزمة إنتاج وصناعة المفاهيم والبرامج الاجتماعية، انشغلت هذه الأحزاب بالصراعات الهامشية، وبحرب المواقع، والتسلق الطبقي، بدل طرح البدائل لبناء سوريا المستقبل وإنقاذ أرواح البنية التحتية في مجتمعنا، والتعامل بجرأة مع نبض الشارع وهموم الشعب والجماهير الشعبية وطموحاتها.

هذا الإحساس وهذا الشعور، نريد أن نحوله إلى إتحاد وقوة شعبية وطنية، ضد إهانة الأحزاب السياسية للمجتمع، وضد ما تمارسه في حق الأطر والكفاءات والشباب والنساء، وضد أهالينا في سوريا العميقة، سوريا وشعبها الطيب الرئع، سوريا الجبل والواحات  والسهول وضواحي المدن الكبرى والمتوسطة، الذي ينتفض كل يوم ضد النظام ونخبه ومؤسساته وأحزابه ومنظماته.

إهانات ترمز للهزيمة في حرب باردة بين الأحزاب السياسية والشعب، بدون رصاص ولا قناص، تشرعن سياسية الموت البطيء بسبب التحكم في وسائل الإعلام والتواصل، وتقتل الأمل المنشود في سوريا المستقبل.

إن الوضع الحالي لم يعد يسمح لنا بالصمت، فنحن لم تلدنا أمهاتنا في خرق وأقمطة بيضاء، لم نرث لا رأسمالا رمزيا ولا ماديا ثمينا، ولا نملك سوى فلذات أكبادنا وحب الوطن.

في العام 2011، شهد سوريا ميلاد عدة حركات اجتماعية ساخطة على الوضع الاقتصادي، وعلى السياسات التي تتبعها الحكومات، والتي أظهرت بالملموس التخلف الفظيع للأحزاب ومأساوية الفعل السياسي ببلادنا، وخاصة من لدن “يسار-النيو بولتيك” ، الذي حاول الركوب على هذه الحركات مستغلا غضب شبابها، من دون أن يحدد دوره في معركة “شباب بلا مستقبل”، وحماية صرخات الاستغاثة من الظلامية والنكوصية، بدل رفع شعارات ملغومة لتصفية الحسابات القديمة مع الدولة ومع الأشخاص والعائلات.

ومنذ ذلك الحين دخلت البلاد في نفق مظلم بسبب السياسات الظالمة التي تتبعها الحكومة، بالإضافة إلى حكرة الأطر والكفاءات والشباب والنساء، وانخفاض الانتماء الحزبي إلى درجة ما قبل الصفر.

وبالرجوع إلى جذور الأزمة، يمكن القول: إن الأحزاب السياسية أصبحت اليوم جزءامن المشكل، وليست جزءا من الحل، في غياب المواثيق الاجتماعية والحوار المجتمعي، ومواجهة الاستئثار بالنفوذ والثروة، وعدم قدرتها على مواجهة الخلايا والشبكات المنغلقة، و أبناء البورجوازية اللقيطة المتعجرفة.

ومن جهة أخرى، يجب كذلك الإقرار بهيمنة الأقلية على النظام الحزبي السوري، وهي المسيطرة على دواليب التنظيمات طوال عشرات السنين، وأعادت إنتاجها حتى الأحزاب الناشئة، الشبه ليبرالية منها واليسارية النيوليبرالية واليمينية والمحافظة. وظلت هذه الأقلية تسيطر على الأحزاب، وتضع من خالفها خارج بيتها، تحت شعار  ( أمة عربيةواحدة ذات رسالة خالدة )ونكران الآخر .

إن الشعب السوري اليوم. لم يعد يشعر بالثقة في القادة السياسيين التقليديين، كما لا يشعرون بأن هذه الأحزاب تمثلهم، والدليل الملموس هو انخفاض أعداد المنتسبين إليهم والى النقابات العمالية وإلى الجمعيات بكل اختصاصها. والمجتمع المدني بشكل عام,  وهذا  مما زاد الوضع غموضا وانتكاسة، هو توافق هذه الأحزاب مع السياسات النيوليبرالية الجديدة، وإقامة تحالفات مشبوهة بدون طعم ولا مذاق بين أحزاب وتنظيمات تحولت إلى شركات كبرى، وأخرى تستغل الدين، وأخرى تستغل حقوق الإنسان وتتاجر في تاريخ الأيدولوجيا وتضحيات الشهداء والمعتقلين والمناضلين التقدميين..وهو ما سيؤدي إلى فقدان الثقة في النظام الحزبي والقادة السياسيين، والديمقراطية التمثيلية، خاصة مع صعود التطرف والقوى النكوصية والشعبوية و”الريعيون الجدد”، وارتباطات أحزاب سياسية قديمة وتاريخية بأعيان النظام وتخليها عن ماضيها المشرق في العديد من المحطات.

وعلى ضوء هذا الواقع الحزبي المؤلم، يمكن فهم ظاهرة العزوف السياسي في جزء منها، ويمكن فهم لماذا لم تعد الجماهير الشعبية تنخرط في فضاءات العملية السياسية؟.. لتتبع الشأن العام عن طريق الأحزاب السياسية، بل عن طريق الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والوقفات الاحتجاجية والمسيرات الشعبية.

لقد انسحبت الأحزاب السياسية من الميدان وتركت الساحة فارغة من دون وسائط، والمواطنات والمواطنين يواجهون السياسات الإقصائية التي تنهجها الحكومة كاستمرارية للحكومات السابقة، نتيجة التفاوتات الاجتماعية، وهذا ما يسائلنا جميعا، ويسائل الرأي العام الذي لم يعد يفهم أي شيء عن دور هذه الأحزاب، وعن إستراتيجيات قادتها السياسيين.

الناس يبحثون اليوم عن من يمثل الأطر والشباب والنساء  والبنية التحتية من أبناء شعبنا السوري الذي يعيش اليوم تحت خط الفقر  ، للقطع مع كل الممارسات التي جعلت هذه الفئات الاجتماعية دائما ماسكة للديل، ومحرومة من وسائل الإعلام ومن الهيئات الأيديولوجية المركزية التي تشكل البناء الذهني وتشكل القيم المشتركة للناس.

والى جانب ذلك، هناك الدين – الأسرة والمدرسة، لكن الأدوات الإعلامية تظل محتكرة في يد النخب المركزية ومؤسساتها الإدارية والسياسية والنقابية، ومن خلالها يتم التعتيم على الحركات الاجتماعية المناهضة للتفاوت الاجتماعي، والتفقير والتهميش بكل أشكاله.

إن النخبة المسيطرة داخل الأحزاب، أصبحت عائقا حقيقيا أمام التعبيرات الجديدة المناضلة، والمواطنة، والحاملة لرؤى متقاطعة من أجل مغرب المستقبل.

الناس اليوم ينتظرون حلولا لمشاكلهم وللقضايا الاجتماعية التي يعتبرونها أيديولوجيتهم الحقيقة والواقعية، ويريدون التعبير على ذلك في نقاش عمومي، وكلما كان الاختلاف حول القضايا، يجب اللجوء إلى الحوار الديمقراطي واستخدام حلقات النقاش في كل تنظيم أو لقاء، بعيدا عن الإقصاء والتنابز.

لقد آن الأوان لقول الحقيقة في وجه الأحزاب السياسية، حول ما أصبحت تورثه من مشاكل وخيبات أمل، وتهميش للمواطنات والمواطنين الذين لم يعد أمامهم سوى خلق حلقات النقاش في الفضاءات العمومية والانخراط في مجالس وهيئات الدفاع الذاتي، وتشكيل برلمانيات القرى والمدن والأحياء.

الناس يخاطبون رموز الدولة مباشرة، ويطلبون تدخلهم الشخصي، ولم نعرف من حزب، أو هيئة سياسية، يقترح نفسه اليوم لطرح هذا الموضوع الخطير الذي يمس بوجوده، ومهمته التي يحددها الدستوعلى تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، والمساهمة في التعبير عن الرأي، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية.

فأين نحن من تفعيل الدستور السوري؟… وأين الأعتراف بالآخر ؟

لم يعد الناس يؤمنون بالشائعات التي تطلقها الأحزاب في الصالونات والمقاهي والأسواق، أو تلك التي تروج لها النخبة الحاكمة في المؤسسات والإدارات، من خلال خلق لغة التخوين والتشكيك وزرع الرعب والذعر في وسط الطبقة المتوسطة، وجبرها بكل الوسائل على الابتعاد عن السياسة. وفي حالات عديدة، إغراءها بالامتيازات لضرب شجاعتها، ومنعها من أي اقتراب لها من الحركات الاجتماعية.

السوريون اليوم يريدون لغة بديلة، وقوة بديلة لبناء ديمقراطية حقيقية، وجبهة حداثية ديمقراطية كبيرة تتسع لكل الشرفاء، تخرجهم من الظلمات إلى النور، ويريدون برامج تجعل من المواطن السوري فاعلا سياسيا أساسيا، ويريدون تحريرهم من النخبة الفاسدة، وتمكينهم من حرية الاختيار في إطار العدالة الاجتماعية والضريبية والمجالية واللغوية، والمساواة.

أخيرا، السوريون لا يريدون أحزاب سياسية تشبه العلامة التجارية، ومن يقصدها يعتقد أن كل شيء يمكن أن يباع ويشترى. السوريون يريدون صناعة سوريا المستقبل، يريدون ائتلافا حداثيا ديمقراطيا، مبدعا، ومنتجا لآليات التقارب مع القادرات والقادرين على ربط الحقوق بالواجبات، وعلى ربط المسؤولية بالمحاسبة والعقاب. ائتلاف يخلص الناس من الخوف والتبعية، والابتعاد عن الطائفية ونبذها والعيش المشترك بين كافة مكونات الشعب السوري ، بعيدا عن منطق الزاوية، والقبلية، والعشيرة والعائلة.

والاعتراف بالآخر في دستور سوريا الجديدة … سوريا المستقبل.