نوسوسيال

بقلم الدكتور توفيق حمدوش : سوريا إلى أين . .. ؟…

927

 

 

مقدمة واستدلال:

يبدو السؤال حول حاجة الشعب السوري الى حراك سياسي جديد ، مشروعا بل ملحا و ضروريا ، سيما و قد تحول الحراك الذي اشعلته الثورة  السورية في عام ٢٠١١ الى حرب اجرامية بين طرفين ، بعثي شوفيني استبدادي شمولي يرى في الدولة مزرعة له ، يمتلكها ، هو من يضع معايير الحق السياسي و هو وحده من يمتلك مراكز القوة فيها  لا يعترف بمشروعية أي صيغة سياسية منظمة، ليس في المشاركة في إدارة المجتمع و الدولة و انما في ممارسة سياسة ذات مصدر ايديولوجي يتعارض و تحديد الاستبداد ، وطرف تكفيري ظلامي يريد العودة بمنطقة الشرق الأوسط الى احداثيات القرون الوسطي ، ليس المعرفية فحسب و انما المادية و اللغوية و الشكلية و الكلية .

 

في الثورة السورية جريانها و اشتعالها :

إن مسار الثورة السورية المعقد ، الذي اودى الى انزلاقها في العنف و الى  دخول سورية في نفق معتم و طويل و صعب لا يعرف متى يمكن الخروج منه ،انما يهدد بتداعياته السياسية و الجيوستراتيجية عموم منطقة الشرق الأوسط بما فيها الدول العربية ، الامر الذي يحتم على قوى العقلانية و الديمقراطية و التضامن بين الشعوب الوقوف معا ، في منصة واحدة و في موقع واحد ، دولا وحكومات وأحزاب و حركات سياسية . على قاعدة فهم الأسباب المحلية والإقليمية و الدولية التي أدت الى اعاقتها و هو ما صب في مصلحة المحاور الإقليمية التي تستهدف العرب و الكرد معا و تسعى  الى الهيمنة عليهما .

إن ثورات الشعوب هي غالبأ ثورات عفوية تحتاج الى قيادة تضبط أهدافها و تحدد وجهتها و تعين سبل تحقيقها أهدافها و شعاراتها المادية و الموضوعية ، و لم يكن كافيا باي حال ان يتغذى المعطى الموضوعي السوري من حيثيات الربيع العربي  فقط اذ كانت هناك عوامل استدعت الثورة في سوريا ، عوامل تنهض على قاعدة تحقيق مطالب إنسانية شعبية  ترنو الى تحقيق الحريات المدنية ، و اطلاق صحافة حرة وإقامة عدالة إجتماعية بالإضافة الى المشاركة في النشاط السياسي المجتمعي  إلا أن النظام السوري الذي لا يؤمن الا بلغة العنف حارب الثورة السورية  بأشد وسائل العنف وحولها على خلفية ذلك  إلى حرب إبادية ضد الشعب السوري و ضد تطلعه الى الحرية و الكرامة ، و في سياق ذلك كان طبيعيا  تحول النظام السوري  الحاكم من نظام ديكتاتوري مستبد و شمولي  إلى نظام مجرمي الحرب ، يخرق المبادئ الإنسانية و يشن حرب إبادة جماعية و يرتكب جرائم ضد الإنسانية حتى  لم يتورع في صدمة اصابت المجتمع الدولي عن استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين تلك التي  لا يختلف احد على تجريمها الحاسم و المريع ، لذلك بات امام الشعب السوري طريقا وحيدا لا يمكن الرجوع عنه ، هو انهاء حالة النظام القمعي السوري السياسية ان لم يكن ممكنا اسقاطه المادي و العسكري .و هو إضافة لما سبق المنطق الوحيد الذي يضمن بقاء سوريا موحدة ارضا و شعبا .

إن الثورة السورية التي ولدت في مدينة درعا من رحم قمع الأطفال و التمثيل بجثثهم والانتقاص من كرامة أهلهم و عشائرهم  لم تجد مكانا لها لتتجمع فيه الحشود الثائرة الا المساجد ،و في اطار غياب تنظيمات تشكل رأس الثورة و موجهها على خلفية تعقيم المشهد العام من كل حياة سياسية ممكنة خلال عقود ، دخلت الثورة السورية منذ اليوم الأول لها و بفعل ميكانزمات محلية و ذاتية سورية ، لها علاقة بالسلطة القمعية الا انها ترتبط أيضا ببيئة الحراك الشعبي انف الذكر ، دخلت  تحت تأثير التيار الديني الإسلامي السياسي ذو الوجه السني العروبي بوصفه غالبا سوسيولوجيا في سورية ، فكان شعارها الأول يتحدد بالتكبير الذي يختزن في المخيال الجماعي لدى بقية الطوائف السورية و الاثنية اثارا مريعة ، ما كبح امتداد الحراك المجتمعي صوبها ، لتترك  الحراك السوري يتيما دون غطاء تعددي تتشكل وفقه البدائل الناجعة للنظام السوري القمعي

و هكذا بدا ، وجود ضمانات تسمح بحدوث  انتقال ديمقراطي لا يقصي احد من مكونات البلاد الاثنية او الدينية او المذهبية ، امرا متعذرا أكثر فأكثر

 

مكوناتها وقيادتها و قواها الممثلة :

و لان ثورات الشعوب قاطرات تاريخية يصنعها دون قصد طغيان لا يستطيع الناس الاستمرار في الحياة بوجوده ، فهي و الحال هذه غير قابلة للخمود و التلاشي ، بل لا تلبث حتى تمور و تتجدد و تأخذ اشكالا أخرى اكثر صوابية و نجاعة ، و هو ما يعني أن على القوى الحاملة لاهداف الثورة استمرار الإيمان بها وصولا إلى اخذ زمام المبادرة كي تحفر مسارات جديدة لها ، تبدأ ببلورة جسم سياسي متسق و متماسك ، يأخذ على عاتقه قيادة الثورة ، بوضع كافة التناولات الموضوعية للواقع عسكريا و سياسي و اجتماعيا ، محليا و إقليميا و دوليا ، في موضع المباشرة و  بالطبع آخذة  بعين الاهتمام و الالتزام  النقاط التالية :

 

تمثيل جاد و وواقعي و أمين لكافة المكونات السورية في كل الاطرالتي ينبغي بناءها و صوغها ، خلافا لما وقع في تنسيقيات الثورة السورية أو في  المجلس الوطني السوري أو في ائتلاف قوى المعارضة و الثورة حتى في هيئة التفاوض و اللجنة الدستورية .

و الابتعاد ما أمكن عن بناء تشكيلات مثيلة لما سبق ، تشكيلات تفرضها دول إقليمية لا تريد الحرية للسوريين ، و لها مشكلة مع بعض مكوناتهم الاثنية كتركيا و مكوناتهم المذهبية كإيران . فتركيا لم تخف استعداءها للكرد و دعمها لقوى الإسلام السياسي و جماعة الاخوان المسلمين و غضها الطرف عند اكثر السيناريوهات تفاؤلا  عن دخول الجماعات المتشددة و التكفيرية الى سوريا ،  و استمرارها في فرض اجندتها العنصرية و الدينية على الائتلاف و على كل معارض يعيش فيها ،يحدث كل ذلك في ظل عدم قدرة المعارضة السورية على مقاومة الضغوط او الاغراءات التركية و خضوعها بشكل كامل للأجندات التركية و تحول كثير من المحسوبين عليها الى مجرد عملاء و مرتزقة رخاص

و لم ينطلي على احد في أي مرحلة من المراحل ضم بعض الشخصيات من الطوائف والاثنيات إلى

كيانات المعارضة انفة الذكر ، اذ كانوا جميعا ممن لا يحظون بدعم خلفياتهم الاثنية و الدينية و الاجتماعية

إن الجماعات  الثورية المسلحة وكافة الفصائل التي حملت السلاح ضد النظام ، كانت ومازالت تعمل حسب مفهومها الخاص و أهدافها التي لا تعكس الا مصالح الداعمين الإقليميين و الدوليين ، كما انها لم تكن ملتزمة قط بالعمل العسكري  ضمن تركيبة القوة الموحدة أو القيادة العسكرية الموحدة  خلافا لكونها كما اسلفت أعلاه تحمل خلفيات دينية أصولية جهادية و تكفيرية ، ما يشكل  عقبات كثيرة أمام التلاحم الثوري تحت قيادة مدنية متنورة وديمقراطية تقود البلاد الى بر الأمان.

 

في قضية الشعب الكردي و موضعه منها  :

إن وجود الشعب الكوردي في سوريا تاريخي له بعد تأسيسي ووجودي في سوريا الحديثة ، و هو مختلف بحسب البعد الاثنولوجي الذي يميزه عن  مكونات الشعب السوري الدينية و المذهبية الأخرى  بحكم انتمائه الى فضاء لغوي و ثقافي و تاريخي مختلف و خاص ،  و هو مختلف أيضا عن  الاثنيات الأخرى  كالأشوريين والكلدان والسريان والشركس والتركمان بسبب حجمه السوسويلوجي و تمدده على مساحات واسعة و متواصلة من سوريا ، و من تركيا و ايران و العراق  ، أن عدد سكان الكرد يتجاوز أربعة مليون نسمة في سوريا و أربعين مليون نسمة في جميع أجزاء كردستان التاريخية  ، لهم لغتعهم الخاصة وتراثهم الشفهي و المكتوب الخاص ، يحوز على كافة مقومات اعتباره شعبا متكامل الحدود و الحضور و الفاعلية ،  شعب له تاريخ يصل إلى أربعة ألاف سنة ، ان الكورد أحفاد صلاح الين الأيوبي القائد الاسلامي الشهير الذي أنقذ الاسلام والعرب  من الانقراض الأبدي ، ها هم يطالبون اليوم بحقوقهم المشروعة. حتى يستطيعون بناء  شراكة تاريخية ووجودية مع مجموعة الشعوب العربية ، في ترابط مترابط في المصير و الإرادة معها ، يكتمل بها و تكتمل به .

 

و كما كان للكورد دور مهم  في قيام الإمبراطورية الإسلامية  ونشر الدين الإسلامي في العالم  أثبتوا أنهم و على الدوام قادرين  أيضا على المساهمة في صناعة تاريخ ناصع للمنطقة ، و على ذلك فمن  واجب الدول في الشرق الأوسط وخاصةً الدول العربية والإسلامية عدم معاداة الشعب الكردي بل التفاعل معه و التكامل به و تشكيل حائط صد سياسي إقليمي في وجه ايران وتركيا و كافة الطامعين بمقدرات المنطقة و المتطلعين الى الهيمنة عليها ، ان العربي الحر لا يقبل للكوردي الا بأن يمتلك حقه في تقرير مصيره ، سواء في العيش المشترك أو بإقامة دولتهم  الخاصة  مثلهم مثل الشعوب العربية و الفارسية و التركية  أو امتلاك  الحق الكامل في تقرير المصير كيفما يحدد و يريد ،  الا أنني و بوصفي زعيم حزب كردي سوري من واجبي ان اعكس إرادة الكرد السوريين و انقلها بأمانة و مسؤولية أؤكد أن الكردي السوري يريد العيش المشترك في سوريا مع العرب و بقية المكونات ، قناعة و ايمانا لا قسرا او جبرا ، بالطبع في ظل حقوق متساوية و في اطار الحدود السورية الحالية  ، فالكردي السوري مؤمن بأنه جسر يربط النسيج السوري بعضه ببعض ، و قادر على المساهمة في بناء وحدة شعبية سورية تقوم على التعدد و الغنى و التنوع و في ترسيخ بيئة أمان و استدامة للدولة السورية وفقا لكل الابعاد و المعاني .

للأكراد في سوريا وضعية خاصة ليس من مصلحتهم حمل السلاح أوتأجيج الأوضاع وتعقيدها  الا انهم اضطروا الى خوض حرب دفاعية عن الحياة و القيم و الديمقراطية التعددية ضد قوى الظلام والتكفير من مجموعات داعش الارهابية وغيرها من شقيقاتها وبعض أطراف المعارضة الممتلئة  بثقافة البعث الشوفينية التي تناست الدور الجوهري الذي قام به الكرد في الحرب على داعش و تخليص مكونات المنطقة من شروره

فالأكراد الذي  يجهدون منذ زمن طويل وقبل قيام الثورة  على نيل حقوقهم و على النضال من أجل الديمقراطية أجبروا قياسا الى ما أوضحت أعلاه وفي سياق الثورة السورية على  أخذ و تبني الطريق الثالث  ، لقد بنو قواتهم الدفاعية ، قوات حماية الشعب و قوات سوريا الديمقراطية ومجلس سوريا الديمقراطية و ارسوا دعائم مؤسسات ديمقراطية  تقوم على المشاركة و الاعتراف بتعدد المكونات السورية و حماية حقوقهم جميعا ، وهم الأن يشكلون القوة الثانية في سوريا يشاركون عسكريآ وسياسيآ  من أجل بناء سوريا ديمقراطية دولة مدنية ترتكز على أسس العلمانية المنفتحة و  تقبل الحقوق القومية للشعب الكوردي إلى جانب الحقوق القومية العربية و الاشورية و السريانية  في الرقعة التي يديرونها في سوريا.

خلاصة و خاتمة :

إن التخلص من  العقبات التي اجهضت الحراك الثوري طوال السنين الماضية ، يفتح الطريق أمام الدخول في المرحلة الانتقالية و الانفتاح الديمقراطي وتشكيل نظام ديمقراطي برلماني تعددي ، تلك العقبات التي لم تزل  تثير القلق بالقدرة على العيش المشترك في سوريا ان لم يجري تجاوزها و تفكيكها ، حيث لا يمكن باستمرارها في المشهد السوري المأزوم الذي يحياه السوريون ابان ذلك   ضمان  الأمان والاستقرار لكافة المكونات السورية  التي تتطلع الى مستقبل مضيء  يضج  بالعزة والكرامة الانسانية المحققة لكل سوري ، أيا تكن انتماءاته الاثنية و المذهبية و السياسية و الجندرية .

ان سوريا ليست تونس ولا مصر ولا ليبيا.  انها بلد متعدد و مركب ، بلد تنسج وجوده فسيفساء من الاجمل في المنطقة لو جرى بناء دولة الحق و القانون و الاعتراف بالطابع التعددي التكاملي لمكوناتها ، و بوصفي كردي سوري اهجس بما يهجس به اهلي و شعبي أؤكد مرة تلو المرة ان عدم الأعتراف بالوجود القومي الكوردي في سوريا والقبول بخصوصياتهم الاثنية انما يعني إقصائهم من المشاركة في العملية السياسية القادمة و ما قد ينطبق على الكردي اذ ذاك ينطبق بدوره على  العلوي والدرزي و الإسماعيلي وكذا على أهل حوران وكافة قبائل و عشائر سوريا.

إن  قسد ومسد رغم الدعم الذي اتبناه و يتبناه حزبي لهما وصلت إلى أقصى حدود إمكاناتها السياسية والعسكرية ، انها  بين مطرقة النظام وحلفائه و سندان الدولة التركية و حلفائها ،و عليها ان تنضم الى حراك سياسي جديد يحقق المعايير التي تتبناها هذه السطور ، فتغنيه بتجربتها و يغنيها برؤيته و مقارباته

الجديدة و سواء  انهار النظام،  رغم ان ذلك أمسى وضعا مستبعدا بشدة ، او لم ينهار ودخل قسرا في عملية سياسية وفقا للمقررات الدولية فإن عدم الشروع ببناء قوى سياسية جديدة و قيادات سياسية معارضة و رائدة واعية و ذات خبرة عملية و نظرية سيأخذ وضع سوريا الى حيث الفشل و التردي و دخول مرحلة قاتمة و صعبة لا يمكن التكهن بنهاياتها

30.11.2021

د. توفيق حمدوش