بالسلطة قاد حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا إلى ذروة سرعان ما تهاوت جراء خطاب سياسي غير متوازن أفرز أزمات داخلية وخارجية.

عقلية سياسية طاغية وإقصائية أنتجت مشهدا محكوما باستقطابات حادة وضعت في الواجهة الحزب الحاكم وحليفه (الحركة القومية)، ومعارضة تسعى لتوحيد صفوفها استعدادا لانتخابات 2023.

اقتراع رئاسي وتشريعي يأتي محملا بتغييرات جمة بالنسبة لحزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، وفي خضم أزمات سياسية واقتصادية و”حروب” خارجية خصمت من رصيد الحكومة بشكل كبير، سواء سياسيا أو شعبيا.

مساعي توحيد

قيادة حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة في تركيا، تسعى لتشكيل جبهة مشتركة ضد حزب أردوغان وحليفه الحركة القومية، مستهدفة توحيد أحزاب المعارضة، وتجديد الحزب من خلال الجرأة على تبني خطابات سياسية جديدة تقدم نفسها بمثابة حائط صد لمزاعم يروج لها الائتلاف الحاكم بأن لا بديل لتركيا، حاضرا ومستقبلا، عن أردوغان.

غير أن المعارضة التركية الخبيرة بأساليب الرئيس وحليفه تجاوزت الأشواك المزروعة على طريقها، مضت في مسارها، حيث قدم زعيم “الشعب الجمهوري”، كمال كيليجدار أوغلو، مبادرتين ترجمتا الاستعداد الانتخابي لحزب المعارضة الرئيسي في تركيا.

وفي مقطع فيديو نشر مؤخرا، انتقد كيليجدار أوغلو، بحدة، الأجهزة البيروقراطية التركية، وحذر موظفين حكوميين من مغبة الانخراط في أي تعاون غير قانوني مع الحكومة.

ولم يكتف زعيم المعارضة بذلك، بل حذر من “جرائم قتل سياسي” قال إنها يمكن أن ترتكب عشية الانتخابات الرئاسية لعام 2023، مشيرا إلى أن حكومات العدالة والتنمية عجزت على مدار سنوات عن وضع حد للاغتيالات السياسية.

وأكثر ما تخشاه المعارضة التركية، خصوصا حزب الشعب الجمهوري، هو الممارسات غير الشرعية التي غالبا ما يجنح إليها أردوغان مدفوعا برغبة يائسة في الفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة، ومرعوبا من حقيقة تهاوي شعبيته على خلفية الأزمة الاقتصادية وتهاوي الليرة أمام الدولار، علاوة على السياسة الحكومية الواهنة لمواجهة كورونا والتي كلفت الأتراك قائمة طويلة من الضحايا.

ولمواجهة هيمنة “العدالة والتنمية”، يكافح حزب الشعب الجمهوري من أجل تشكيل تحالف مشترك مع الحزب الصالح، وحزبي السعادة والشعوب الديمقراطي، والأخير يعلن نفسه حزبا قوميا، ومع ذلك، تبدي قيادته حماسا لفكرة التحالف مع المعارضة لرفع السقف أمام تحالف أردوغان.

تخوين وتخبط

وحدة في أفق المعارضة التركية بدأت تثير قلق أردوغان الذي يبدو أنه عازم على العودة إلى القصر الرئاسي في أنقرة وإن كلفه ذلك سحق مناوئيه الواحد تلو الآخر.

ففي خضم مشهد بالغ التعقيد، ووسط انهيار لافت لشعبيته، يعزف أردوغان على وتر تخوين المعارضة بهدف تعويم برامجها والتقليل من مساعيها لانتشال البلاد من تداعيات حكمه، في سياسة ترجمت تخبطا في كواليس صناع القرار.

فحين حذر زعيم المعارضة الموظفين الحكوميين من مغبة الانخراط في أي تعاون غير قانوني مع الحكومة، فسر حزب “العدالة والتنمية” الحاكم ذلك على أنه انتهاك لمبدأ فصل السلطات، وزعم أن كيليجدار أوغلو تدخل حتى في واجبات السلطة القضائية من خلال تجريم العلاقة الهرمية بين الحكومة والعاملين فيها.

ردة فعل أثارت سخرية عارمة لدى الرأي العام التركي الذي اعتبر أن ما قاله زعيم المعارضة أيقظ، في الواقع، من تخدروا بشعارات أردوغان واتبعوا سياساته بشكل أعمى، ويحفزهم على العودة إلى معيار العمل من أجل مصلحة تركيا وليس الحزب الحاكم.

بالتوازي مع ذلك، يطلق أردوغان العنان لأبواقه الإعلامية فتبدأ حملات شرسة على المعارضة، في انتقادات تصل حد التخوين، وتشخص مساعي المعارضة على أنها مليئة بالعيوب، قبل أن يرمي حزب الشعب الجمهوري باتهامات لا أساس لها غاليا ما تزعم أنه يواجه مشاكل خطيرة، مغفلا حقيقة أن الحزب الحاكم هو من تطوقه الأزمات من كل جانب.

وليس ذلك فقط، وإنما يواجه “العدالة والتنمية” أيضا قلقا من صعود جماعات يسارية يخشى أن تكون أكثر تأثيرا في تحديد سياسات وخطابات حزب الشعب الجمهوري، وهو ما يشكل كابوسا بالنسبة له، وسط مخاوف من أن يدفع ذلك نحو ممارسات وحتى اغتيالات.

الحزب الحاكم يستهدف أيضا الهوية الكمالية والقومية لحزب الشعب الجمهوري، وهو الكابوس الثاني الذي شكله إعلان ضمني لعمدة إسطنبول، أكرم إمام أوغلو (من الشعب الجمهوري) بأنه الرئيس المحتمل والمرشح الرئاسي للحزب.

توقعات تشكل مصدر قلق إضافي لأردوغان المرعوب من فكرة ترشح شخصية بذات اعتبارية إمام أوغلو، وذات رصيد شعبي ترجمه فوز الأخير بعمدة المدينة التي شكلت على مدار سنوات طويلة معقلا للعدالة والتنمية، كما أن “من يفوز بإسطنبول يفوز بتركيا”، وفق مقولة متداولة بالبلاد.

لكن، ووسط كل ما تقدم، يظل أكثر ما يرعب أردوغان، قيام كيان كردي في سوريا، ولهذا فإن تحالف حزب الشعوب الديمقراطي مع الأحزاب المعارضة في تركيا سيسمح لحزب العمال الكردستاني (تحظره أنقرة) بأن يكون له رأي في السياسة الديمقراطية، وهذا أكبر كوابيس حكام أنقرة.

وإجمالا، فإن التحالف القادم بين تيارات وأحزاب المعارضة، بينها حزبا الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي وباقي الأحزاب، يقلق النظام التركي الحالي بشدة خصوصا في ظل انحدار شعبية أردوغان وحزبه بشكل قياسي.