نوسوسيال

الإبراهيمية الجديدة بين خدعة تحطيم الأصنام وعبادتها ..كيف أصبح سايكس وبيكو آلهة مقدسة بالشرق الأوسط

323

ثمة رسالة أو مشروع توحيدي كبير يتم الإعلان عنه منذ فترة ليست بالقصيرة من قبل أطراف وجهات عدة إن كانت مشرقية أو غربية، ومعظمها يصب في خانة أننا سئمنا القتل والاقتتال والتشتت والنفور الممتد منذ أكثر من ألفين سنة، وأنه قد حان عصر التوافق ما بين فرقاء وخصوم العقائد الدينية التي كانت تعتبر نفسها الفرقة الناجية وما عداها كلهم في النار. على مرّ تلك السنوات الطويلة جداً والحبلى بآلاف الغزوات والمعارك والحروب، وما بين الرسائل السماوية والتي تدعوا كلها إلى وحدانية الله والمختلفة فقط بالأسلوب والمرتبط بكل تأكيد بالزمكان (الزمان والمكان) الذي يعتبر أحد قوانين الطبيعة الذي لا مفر منه.

حروب أكلت الأخضر واليابس كما يقال ضمن المجتمعات المتناحرة على أحقيتها بتمثيل هذه الطريقة والأسلوب في العبادة وأخرى ترى أنها على صواب، وما بين الصوابين المطلقين اللذين يحتكرهما كل طرف لنفسه من دون الآخر، كانت نار الحروب لا تخمد لهيبها، إن كانت ما بين الدين الواحد أو ما يسمى الاقتتال الداخلي أو ما بين الأديان والرسائل السماوية بحدِ ذاتها، والأمثلة في التاريخ لا يمكن حصرها وعدّها. بدءاً من تسليم سيدنا المسيح عيسى بن مريم الذي تم من قبل يهوذا الاسخريوطي اليهودي والمعارك التي دارت ولا زالت بينهما حتى الآن، والحروب الصليبية ما بين المسلمين والمسيحيين وليس انتهاءاً بالحروب ما بين المسلمين واليهود المستمرة حتى الآن تحت أسماء شتى وإن غلب عليها سمة الصراع العربي – الإسرائيلي أو الفلسطيني – الإسرائيلي. حروب ومعارك لم تنتهِ حتى يومنا الراهن ومستمرة تحت الرماد بكل قوتها وعقيدتها الايديولوجية التي ترى كل واحدة أنها على حق والطرف الآخر هو الباطل بكل ما تعنيه الكلمة. هكذا كانت أو هكذا ما تم رسمه لنا وإقناعنا أنَّ الله خصّنا نحن فقط للدفاع عن دينه في رسالته: ﴿كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ﴾ “آل عمران ١١٠”. بهذه الآية الكريمة أو تحت رايتها تم خوض الكثير من الغزوات والمعارك والتي راح ضحيتها ملايين البشر من كِلا الطرفين المتصارعين على إحقاق كلمة الحق وأن من يقتل في المعارك فهو شهيد وحي عند الله. وفي الطرف المقابل بكل تأكيد لا تخلوا رسالته من نفس الآية التي تحرضه على إعلاء كلمة الحق في كتابهم: “لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ” سفر التثنية (2:14). والتي حثّتهم على التقوقع على ذاتهم ليجعوا من رسالة الله تخصهم فقط دون العالمين. وما بين هاتين الرسالتين ثمة رسالة أخرى توافقية متسامحة مع الكل تدعوا للسلام وفق ما جاء في رسالة سيدنا المسيح عيسى: (سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ)، إنجيل متى الاصحاح 5: 39.بعد فيديوهات سادات بيكر ..هل يكون لـ المافيا التركية اليد العليا فى تغيير نظام أردوغان ؟رسائل ثلاث كانت ربما سبباً لما نحن عليه الآن من اقتتال وصراع فيما بيننا على فهمنا لها وفق رؤيتنا التي بنيناها حسب أهواءنا وثقافتنا في تلك العصور التي ظهرت فيه الرسائل السماوية وتقبلناها كما هي بعد قرون من نزولها. عدم إيلاء الأهمية لعامل الزمكان (الزمان والمكان) في أسباب نزول الآية أدخلنا في مرحلة إيقاف العقل على حساب النقل الذي ما زلنا نعيش تداعياته المأساوية حتى الآن.كثيرة هي المحاولات التي أراد بعض الفلاسفة “ابن رشد – الفارابي – ابن سينا – ابن خلدون…. الخ”، القيام بها لتجديد الخطاب أو الفكر الديني على مرّ التاريخ، لكن كل محاولاتهم لم تنجح أمام إصرار من جعلوا من أنفسهم وكلاء الله على الأرض. السؤال المهام الذي يطرح نفسه في راهننا هو الآتي؛ هل ما عجز عنه الفلاسفة والمثقفين حتى الآن يمكن أن يصلحه السياسيين؟ سؤال موجه بكل تأكيد للذات ربما يحثنا على النبش في جواب له في جنبات ما يتم الترويج له للابراهيمية الجديدة وفق اتفاقات تتم اعلامياً بسرعة وكأنه كان يتم التجهيز والتحضير لها منذ فترة طويلة من خلال جلسات خلف الستار أو تحت الطاولة ما بينها.

حين البحث عن حقيقة الابراهيمية الجديدة التي يتم الترويج لها أو طرحها على أنها ستكون بداية عصر جديد للتعايش ما بين الشعوب المتناحرة حتى وقت قريب، وما بين الابراهيمية الحقة التي دعت إلى وحدانية الله دون غيره، نجد ثمة معطيات غير متوافقة بينهما. خاصة أن سيدنا إبراهيم ما كان ليتحول لعقيدة ونهج ايماني لولا تحطيمه الأصنام وكذلك حواره العقلاني مع نمرود بعد أن خاض معركة “اليقين والشك” مع الله.بمعنى أن من يدعوا للابراهيمية الجديدة انتقص أهم فعل قام به سيدنا إبراهيم قبل آلاف السنين ليعلن عن تحطيم الأصنام التي كان يتم عبادتها من قبل تلك المجتمعات، وأن هذا التحطيم لما كان بدأ لولا اليقين الذي وصل له سيدنا إبراهيم خلال حواره مع الله الذي أثبت بشكل قاطع أنه على كل شيء قدير. وأما الأمور الأخرى فتبقى طقوس وشعائر يمكن مواءمتها مع ثقافة المجتمعات وظروفها الذاتية والموضوعية الخاصة بها والمتأثرة بشكل مباشر بعوامل كثيرة داخلية كانت أم خارجية وكذلك درجة الظلم المنتشرة فيها.

نرى أن من يدعوا للابراهيمية الجديدة لم يقوموا بتحطيم الأصنام المنتشرة في المجتمعات لدرجة لا يمكن تعدادها. فكل زعيم أو رئيس أو ملك أو أمير، جعلت الشعوب منه صنماً يتعبدونها على أنَّ الله أرسله لهم على وجه الخصوص لينقذهم من الدرك الأسفل الذي يعيشونه، كذلك صنم المال والعلم والفن والتكنولوجيا والدولة والحدود السياسية والعلم والقومجية المتعصبة… الخ، كلها أصنام نتعبدها وأزهقنا أرواح ملايين البشر من أجلها وما زلنا على هذا الدرب سائرون.

أين نحن من تحطيم هذه الأصنام قبل البدء بما سموه أو يسموه الاتفاقات الابراهيمية الجديدة التي ستكون سبباً ليعم الاستقرار والخير والكرامة والأمن على شعوب ومجتمعات المنطقة. لا زال المال هو الصنم الأكبر الذي يسجد له أكبر زعيم ورئيس من أجل الاستحواذ عليه، فما بالك بالناس العاديين الذين بات كل همهم هو الحصول على المال بأي وسيلة كانت. كذلك العلم الذي تحول إلى علموية بيد حفنة من تجار العلم ومحتكريه يمنع على العامة حتى الحصول عليه. وهذا ما نراه بكل وضوح فيما نعيشه الآن من قلة معرفتنا عن كورونا الذي بات يفتك بالشعوب والمجتمعات، ومحتكري العلم لا همّ لهم سوى التجارة بهذا العلم، حتى وإن كان نتيجة هذا العلم هو لقاح يخلص الشعوب من الموت الذي يلاحقهم في كل مكان. التعصب القومجي الذي ما زلنا نعيشه بكل تجلياته حتى الآن جعلنا منه صنماً نتعبده ليل نهار وكل من يقترب منه يعرض حياته للخطر والفناء. مع العلم أن ثورة سيدنا إبراهيم لم تكن لعرقية ما أو أثنية محددة بل كانت لكل الناس. إلا إذا أخذ المتعصبين قومياً فكرهم وعقيدتهم وايدولوجيتهم من اليهود الذين لا زالوا يصرون على أن ديانتهم خاصة بهم لوحدهم من دون العالمين. هنا في هذه النقطة يلتقي القومجيون العرقيون ولا يهم من يكونوا إن كانوا من “العرب أو الترك أو الفرس أو الاسرائيليين” مع اليهود.طبعاً، لن نتحدث عن الحدود أو الوطن والدولة بسيادتها التي تم تحويلها لصنم نسجد له منذ قرن من الزمن ونتغنى لها على أنها المكان الوحيد الذي يمكن العيش فيه بكرامة، وأنه لولا الوطن والدولة لكنا نعيش المجهول والذل. وعليه ينبغي ان نشكر سايكس وبيكو اللذين رسموا لنا حدودنا وشكلوا لنا دولنا التي نتغنى بها. وعلى ما اعتقد أن الابراهيمية الجديدة متفقة مع سيدنا إبراهيم في هذه النقطة فقط، حيث الفضاء والجغرافيا الواسعة التي لا تقسمها الأسلاك الشائكة ولا الألغام التي تفصل الجغرافيا عن بعضها تحت مسمى الوطن. حيث تعمل هذه الابراهيمية الجديدة على تجاوز الحدود السياسية وحتى سيادة الدول لتعم وتنتشر في عموم المنطقة. وبهذا الشكل تكون إسرائيل قد وصلت لمبتغاها ومناها في رسم حدودها القديمة الجديدة من الفرات إلى النيل.

مآل القول: أنه ينبغي ألا نتسرع كثيراً بما يتم الترويج له على أنه ثمة حقيقة كانت غائبة عنا. لأنه إلى الآن لم يغير أحد من جلده حتى نوليه الأهمية. فما زال الذئب على وضعه ولا زالت الغربان كما هي وكذلك الفئران. الابراهيمية الحقة تبدأ من اليقين العقلي والعيني بأن كافة شعوب المنطقة بحاجة أن تتجاوز مرحلة الصراعات على السلطة ومرحلة نفوذ الهيمنة لطرف على آخر. وينبغي أن يكون هدف أي إدارة وسلطة معنية بهذا الأمر أن يكون هدفها التعايش الأخوي بين الشعوب، وأن يعمل الكل من أجل الكل ونخرج من الثنائيات القاتلة والهويات المنفّرة التي حولت الشعوب لمجرد قطيع يُذبح أمام معابد الأصنام التي صنعناها بأيدينا. وإن لم نتخلص من الموروثات الثقافية والفكرية التي تعايشنا معها منذ آلاف السنين فلا يمكن أن نبني للابراهيمية الجديدة مهما عملنا أو روجنا.

الابراهيمية الحقة تعني رجوع الانسان إلى طبيعته الإنسانية والتي يكون فيها الانسان هو هدف الحياة ومبتغاها وأنه لا يمكن بناء هذا الانسان إن لم نعمل على انتاج ثقافة جديدة تهدف لبناء مجتمع وانسان حر وصاحب إرادة ويعشق الحياة ويمنحها المعنى المقدس. فالقداسة تبدأ من جعل الانسان صاحب إرادة خاصة به تعمل من أجل الكل في المجتمع، والتي على عكسها تكون اللعنة والعبودية والتي من خصائصها أن يكون ثمة انسان يعمل من أجل نفسه فقط ويهجر مجتمعه الذي احتضنه وكان سبباً في وجوده. القداسة تعني الارتباط بالمجتمع والحفاظ عليه من أي هجمات دخيلة تسعى لتشتيته وتقسيمه على أساس طائفي ومذهبي وأثني وجنسوي، القداسة تعني أن تكون للمرأة مكانتها المرموقة والتي تمثل محور الحياة التشاركية والندّيّة ما بين كافة أفراد المجتمع من دون تمييز. تكون المرأة ذاتها وتعيش ذاتها وليست مُلكية خاصة لأحد.

وحينما يكون العقل والعلم أساس تطور مجتمعاتنا والذي من خلاله يكون بمقدورنا الحوار مع الله لنصل لعقل اليقين وعين اليقن، حينها يمكننا القول اننا نسير على درب سيدنا إبراهيم وعقيدته التي تدعوا إلى إخراج الانسان من العبودية البشرية ليصير حراً في مجتمعه.