دول الخليج تصبح مركز الثقل العربي الجديد بعد ثورات ” الربيع العربي”
أثار الربيع العربي الذي تسبّب بإسقاط أو إضعاف أنظمة عربية قبل عشر سنوات مخاوف في دول الخليج، ولكنه شكّل أيضا فرصة لها لتعزيز مكانتها، فبرزت دول خليجية كمركز ثقل عربي جديد في الشرق الأوسط.يقول الأستاذ المساعد في التاريخ في جامعة الكويت بدر السيف “إضعاف مراكز القوة
التقليدية العربية (..) جعل من الخليج للمرة الأولى في التاريخ الحديث مركز القوة العربية”.ومنذ عام 2011، يشهد العالم العربي موجة ثورات تخللتها احتجاجات شعبية في دول عدة رفضا للطبقات الحاكمة التي ينظر اليها على أنها فاسدة وقمعية وغير كفوءة.وأدت الاحتجاجات إلى سقوط نظامي
زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر. كذلك أسقطت نظامي معمر القذافي في ليبيا وعلي عبدالله صالح في اليمن، لكن حربين مدمرتين اندلعتا في البلدين ولا تزال قائمتين. وكذلك في سوريا حيث لم يسقط نظام بشار الأسد، وإن كانت تقلصت سيطرته على أرجاء البلاد.في 2013،
استعاد الجيش الحكم في مصر حيث يمارس نظام عبد الفتاح السيسي قمعا أسوأ من زمن مبارك. وأصبحت القاهرة التي لطالما كانت منارة ثقافية ومركزا للعروبة تحتل عناوين الصحف بسبب خروقات حقوق الإنسان وازدياد نسبة الفقر بين سكانها.على خط مواز، يشهد العراق منذ الغزو الأميركي
عام 2003 عدم استقرار وحروبا. ومثل سوريا، تنتشر فيه مخيمات النازحين، وتحول الى ساحة للتدخلات الأجنبية.وتتناقض هذه الصورة مع الازدهار في الإمارات وقطر اللتين تجذبان ملايين الأجانب بناطحات السحاب والطرق الجديدة والبنى التحتية المتطورة.وطالت احتجاجات الربيع العربي سلطنة عمان والبحرين، ولكن تم إخماد الشرارة بسرعة خصوصا في البحرين إثر تدخل عسكري للجيش السعودي والإمارات.
– “زمام الأمور”:
ويوضح بدر السيف لوكالة فرانس برس أن الربيع العربي “فتح أعين” دول الخليج الحليفة المقربة من الولايات المتحدة في المنطقة، على غياب أي رد فعل أميركي على مواجهة الأنظمة في مصر والبحرين صعوبات واحتجاجات شعبية.ويضيف الباحث الكويتي “كانت هذه بداية إدراك دول الخليج بأنها بحاجة للإمساك بزمام الأمور بنفسها بسبب عدم وجود ضمانات باستقرار أمني ثابت من جانب الولايات
المتحدة”.وبحسب السيف، فإن دول الخليج كانت تتحضر لتعزيز نفوذها حتى قبل عام 2011.ويرى الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله أن “الربيع العربي سرّع من هذا التوجه وقام بترسيخه وإبرازه”.ويتجلى هذا التوجه خصوصا في الإمارات وقطر. أما بالنسبة الى السعودية، فهي تشكل أصلا مركزا للثقل العربي بقوتها الاقتصادية كونها أول مصدر للنفط الخام في العالم، ومكانتها الدينية إذ
يوجد فيها أقدس المواقع في الإسلام.ويرى الأستاذ الإماراتي أن الدوحة “قلبت الربيع العربي لصالحها” و”لعبت دورا فيه” خصوصا مع تغطيتها للاحتجاجات عبر قناة “الجزيرة” الشهيرة التي أعقبها نجاح مؤقت للأحزاب الإسلامية خصوصا في تونس ومصر.ومن جانبها، استفادت الإمارات من موقعها
“كملاذ آمن” لا سيما مع جذب الاستثمارات إلى إمارة دبي.في الشرق الأوسط المليء بالصراعات والفقر، تستعد قطر لاستقبال كأس العالم لكرة القدم 2022، وأرسلت الإمارات رائد فضاء قبل إطلاق مسبار باتجاه المريخ، بينما ترأست السعودية مؤخرا مجموعة العشرين.
– تنافس على النفوذ:
وتشير الباحثة في معهد دول الخليج في واشنطن إيما سوبرير الى أن هذه الدول الثلاث تجد نفسها، بالتزامن مع صعود نجمها، في “تنافس على القوة”.في الخامس من حزيران/يونيو 2017، قطعت السعودية والإمارات والبحرين ومصر علاقاتها الدبلوماسية مع قطر. واتهمت الدول الأربع الدوحة ب
دعم جماعات إسلامية متطرفة، الأمر الذي نفته الدوحة.في ليبيا، تدعم الإمارات القائد العسكري النافذ المشير خليفة حفتر ضد حكومة الوفاق المدعومة من تركيا وحليفتها قطر.وبحسب سوبرير، فإن هذا التدخل في غياب أي تفويض من الأمم المتحدة يشكل منعطفا. “فقد تم إرسال رسالة
للشركاء الغربيين مفادها أن الإمارات أصبحت الآن قوة إقليمية قادرة على ضمان مصالحها من خلال الضربات العسكرية إذا لزم الأمر”.بينما تقود السعودية منذ 2015، تحالفا عسكريا يضم الإمارات، في اليمن لدعم الحكومة في مواجهة المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران.وبدأت دول خليجية أيضا
باتخاذ قرارات دبلوماسية مثل التقارب مع إسرائيل، مع تطبيع الإمارات والبحرين علاقاتهما مع الدولة العبرية.وخلال الأيام الماضية، صدرت إشارات عن احتمال التقدم نحو حل بين قطر ودول الخليج.
وترى الباحثة السعودية إيمان الحسين أنه خلافا للقوى العربية القديمة، ترفض بعض الدول الخليجية “القومية العربية أو النزعة الإسلامية العابرة للحدود” التي أعادت التذكير بها ثورات الربيع العربي.
وتضيف لفرانس برس “مفهوم القومية ليس مقتصرا على منطقة الخليج، بل هو اكتسب زخما في كل العالم”، مشيرة إلى عدم إيلاء هذه الدول أهمية كبرى الى مشاعر “الشارع العربي”.
الربيع العربي بين موجتين
استئناف الثورة: جولة جديدة في معركة الحرية العربية
انطلقت موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية، عمّت دولا عربية كانت قد أفلتت من الموجة الأولى عام 2011؛ لاعتبارات داخلية متصلة بمستوى الوعي الجماعي، وبنية النظام الحاكم في البلد، أو لاعتبارات خارجية متعلقة بالجغرافيا، والموقع الاستراتيجي في معادلة التوازنات بين القوى الإقليمية والدولية.
عمّت الموجة الثورية الثانية أربع دول عربية جديدة، وهي السودان والجزائر والعراق ولبنان، كانت حتى وقت قريب؛ ولأسباب موضوعية، خارج دائرة توقعات الباحثين والخبراء.
بيد أن منطق التاريخ؛ في الكثير من الأحيان، لا يقبل الخضوع للتقدير والتوقع، فشعوب الأنظمة الطائفية والعسكرية المعروفة تاريخيا بالولاء، قررت بدورها التمرد وإعادة المد الثوري إلى الشوارع العربية.
تميزت هذه العودة بسمات كانت مفتقدة في الموجة الأولى، والراجح أن غيابها كان السبب وراء انزياح جل الثورات (مصر، اليمن، سوريا، ليبيا) عن تحقيق أهدافها. وفي المقابل شكل ذلك، حسب سياق كل بلد، مدخلا عبّد الطريق أمام قوى الثورة المضادة للردة والنكوص، وفرملة التغيير والإصلاح الذي سعى إلى منح دول عربية بطاقة دخول لنادي الدول الديمقراطية.
الأجيال الجديدة عازمة على التغيير
دالت أوضاع وأحوال المنطقة العربية، ما بين عامي 2011 و2019، مؤكدة نهاية متلازمة الاستقرار مقابل الاستبداد التي جثمت على الإقليم منذ خروج الاستعمار. فبعد زمن قياسي؛ في مسار الثورات، لم يتعد ثمان سنوات فقط، قررت الشعوب العربية استئناف المد الثوري، بخوض جولة الإياب في مباراة التحرر من القهر، والانعتاق من براتين السلطوية.
اغتنمت الشعوب العربية سيادة مناخ عالمي يطبعه الاحتجاج، وسطت توقعات بأن تشهد سنة 2020 موجة أقوى من السخط والغضب الشعبي، لتستأنف معركتها من أجل الحرية والتغيير، بعدما استقت الدروس والعبر، وراجعت نفسها وحساباتها. وقد أبانت عن ذلك السمات التي طبعت المد الثوري الجديد، والتي نذكر من جملتها:أولا: لم تحظ النسخة الثانية من الثورات العربية بذات الاحتفال
الجماهيري، والتلقي الإعلامي الذي نالتهما الأولى، فالشكوك والمخاوف من أن تلقى نفس مصير سابقها كبيرة، خاصة، وأن ما يشهده السياق الدولي من متغيرات يساعد على وأدها في المهد، ما حولها طيلة أسابيع لمجرد أحداث عادية، لم تسترع الانتباه إقليميا ودولية، حتى بدأت تعطي ثمارها،
بإجبار رموز النظام على الاستقالة والتنحي.كان هذا التجاهل في صالح المحتجين، حيث ظلوا بعيدين عن ضغط الصحافة وتغطيات الإعلام المباشرة، ما أتاح لهم فرصة التحكم في إدارة المعركة، وإنضاج القرارات والخطوات بهدوء وروية. كما ساهم نسبياً، بمعية عوامل أخرى داخلية وإقليمية وحتى
دولية، في الاستبعاد المؤقت لحلف الثورات المضادة.ثانيا: تعلم المتظاهرون من التجربة المصرية درسا بليغا، جعلهم يرددون في السودان “إما النصر أو مصر”، والجزائر “يتنحاو كاع” (يرحلوا جميعا)، وفي لبنان “كلهن يعني كلهن” (جميعهم)… مؤكدين بأن أصل المشكل مع النظام برمته، لما يمثله من تحالف موضوعي لقوى منتفعة من الاستبداد والفساد، على امتداد عقود من الزمن، دون اهتمام
بالأسماء والأشخاص.لقد رفض المحتجون، في كافة العواصم العربية؛ في الخرطوم والجزائر كما في بغداد وبيروت، حلا جاهزا يتمثل في التضحية برمز أو أكثر من النظام، تجنح إليه السلطويات متى اشتد عليه الخناق، بفعل تصاعد وثيرة الاحتجاج، وفشل العنف والقوة في إرهاب المتظاهرين. فحيلة تحويل
فرد إلى مشجب يحمل أوزار منظومة بكاملها، لم تعد تنطل على أحد. ما جعل مطالب الشعوب في هذه النسخة الجديدة، تتجاوز الإطاحة برأس النظام نحو استهداف البنية الاستبدادية في الدولة بأكملها.ثالثا: ضمور البعد الإيديولوجي بشقين الطائفي والحزبي في الساحات والميادين، فحضرت
الأعلام والشعارات الوطنية الجامعة لكافة التنظيمات والقوى المجتمعة في البلد، بينما غابت بيارق الأحزاب والطوائف والهوياتية المذهبية، في مشهد وطني قلما تراه في بلد عربي، فبالأحرى في دول كالعراق ولبنان حيث بنية الدولة قائمة على أساس المحاصصة الطائفية.تشكل هذه الخاصية
الجديدة نقلة نوعية في الوعي السياسي الجمعي بهذه الدول أولا وبكامل المنطقة العربية ثانيا، لأن النجاح في تجاوز العقدة العرقية (أمازيغ، عرب، كرد…) والطائفية (سنة، شيعة، مسيحيين…)، يمثّل قفزة نوعية وتحولاً جوهريا من شأنه إعادة صياغة بنية هذه المجتمعات على أساس وطني عابر
للتصنيفات، وكذا بنية ممارسة السلطة داخلها، وفق قواعد ديمقراطية حقيقة لا صورية كما يقع حاليا.رابعا: كانت هذه الموجة أكثر جذرية، مخافة تكرار أخطاء الموجة الأولى، ورغم الاختلاف في
التفاصيل والشروط الموضوعية لكل بلد، فثمة قاسما مشتركا بينها يتمت في تجاوز المؤسسات الوسيطة بين الشعب والسلطة. فالمتظاهرون في هذه الدول، باستثناء السودان (تجمع المهنيين)، رفضوا أن يتولى أي تنظيم أو هيئة مهمة الحديث باسمهم، فلم يعد المحتجون يثقون فيهم.
إرادة الشعوب قد تتراجع ولكنها لا تهزم
أتاح القرار للمتظاهرين القدرة على إدارة المعركة في مواجهة الماسكين بالسلطة، فبقيت التظاهرات وفية للسلمية رغم مجابهتها في بعض الدول بالعنف المفرط (السودان، العراق…). كما أبعد الثوار عن التبعية لخطط وإملاءات التنظيمات المعارضة (إسلامية، يسارية…)، مخافة تحريك المشهد الثوري وفق أجندتها. بهذا نجح المتظاهرون في تحصين حراكم من أي شكل من أشكال القرصنة أو التوجيه أو المزايدة.
لا ينبغي لتطورات الموجة الثانية للربيع العربي أن تدفعنا إلى الإفراط في التفاؤل، فما قد يبدو نعمة في سياق قد يتحول إلى نقمة في سياق أخر. فعلى سبيل المثال، غياب القيادة الثورية الذي بدا ملمحا رئيسيا في هذه النسخة، عكس الأولى التي سيطرت عليها نخب المعارضة التقليدية، قد ينقلب إلى مشكلة. فبقاء الحراك بدون مخاطب، من شأنه أن يعيق علمية التغيير والتحول.
فالثوار إصلاحيون في نهاية المطاف، ما يعني بالضرورة إفراز نخبة لقيادة المرحلة الانتقالية، على غرار ما حدث في السودان، من شأنها التفاوض مع النظام، فالتاريخ مليء بالثورات التفاوضية.
أما البقاء عند حدود الاحتجاج لإسقاط النظام دون تقديم بدائل، فمن شأنه أن ينقلب مع مرور الوقت لمصلحة الأنظمة الاستبدادية، المسنودة من قبل دول مضادة للثورات، قصد استئصال بذرة الثورة التي زرعت في التربة العربية مطلع عام 2011
’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’’
حسن ظاظا
كاتب وصحفي سوري له مؤلفات ودراسات سياسية أهمها التطور التاريخي للديمقراطية وكتاب العراق دراسة في تاريخه السياسي وكتاب بعنوان دور الكرد في بناء دول مصر وبلاد الشام وكتاب الايزيدية أم الديانات في عمق التاريخ