قصة قصيرة / بقلم الكاتبة العراقية فوز حمزة/ حروف بخطِ اليد ..

اليْومُ أكملتُ أربعاً وعشرين سنة .. مضتْ سنتان وعدةِ شهور على فراقنا … من يومها لمْ أستطعْ الإبقاء على روحي وجسدي معاُ .. لأنني مَعكِ فقط أتماثلُ في الحبِ والهوى ..
تَخرجتُ من الجامعة .. تأخرتُ قليلاً في دراستي بسببِ الظروف التي تعرفينها وهي ذاتها التي رفضوني أهلكِ بسببها .. كلُ شيء في حفلِ التخرج جميلٌ ومرتبٌ .. لم ينقصني شيء عدا إنكِ لم تكوني في الصورة إلى جانبي ..
اليوم أتممتُ ثمانٍ وعشرين سنة .. أصبحَ لقبي العلمي الدكتور .. لكنني أفضلُ لقبَ دكتور السعادة كما كُنتِ تحبينَ مناداتي ..
بَعدَ مضي ستُ سنوات على فراقنا .. أشتريتُ سيارة حمراء .. فرشها داكنُ اللون ولها فتحة في السقفِ كما رغبتِ دوماً .. علقتُ فيها القلادة التي أهديتني أياها في عيد ميلادي .. وأحضرتُ أغاني فيروز التي تفضلينها لأستمع إليها في الصباح .. كلُ شيء فيها رائع إلا إنكِ لنْ تركبيها ..
اليومُ أكملتُ عقدي الثالث وهو اليومُ الذي دفعتُ فيه مقدم شقة أحلامنا .. غرفتان للنوم مشمستان .. صالة كبيرة أثاثها بسيط وألوانه فاتحة وشرفة تسعُ كرسيين تطلُ على النهر لإنكِ تعشقينَ رؤية الزوارق وهي تتهادى على صفحة الماء بينما صوتُ النوارس يحلقُ بِنا بَعيداً .. وقد حرصتُ على أنْ تقعَ في نفسِ الحي الذي أعجبكِ .. لمْ أنسَ لوحة الطفل التي رأيتيها في أحد المحلات .. علقتها عند المدخل كما طلبتِ .. لا ينقصُ الشقة شيء سِوى إنكِ لن تسكنينَ فيها .. لهذا لمْ أسكنها أنا أيضاً .. فقمتُ بإيجارها لأناسٍ آخرين ..
أخبرتني صديقة لكِ أنّ عمرَ ابنكِ الآن أصبحَ سبعُ سنوات .. لقد كنَّ سبع عجاف لم يتركنّ لي شيئاً سوى ألم الفراق أقتاتُ عليهِ ..
أختارتْ لي أمي فتاة من أقربائنا لم تثر فيّ سوى الحزن .. تزوجتها دون إبداء أيُّ رأي لأنني أقتنعتُ بقولِ صديقي في الزواج بمن تحبني وأكفُ عن البحث عن شبيهتكِ .. يظنُ أن لكِ شبيهة .. فمضيتُ بهدوءٍ إلى الحزن الكامن فيّ .. العرس كانَ رائعاً ومثالياً إلا إنكِ لم تكوني العروس ..
بدأتُ أطيلُ الصمتَ وأنا في البيتِ بعدَ أنْ أخطأتُ مراتٍ عديدة في مناداةِ زوجتي باسمكِ .. الحق أنها امرأة طيبة تغاضتْ عن كل شيء لأرضائي .. لكنها لم تستطع تلوينَ حياتي وأسعادَ روحي كَما كُنتِ تفعلينَ أنتِ .. لمِ تستطعْ منحي شيئاً أنسي بهِ ذاتي ..
في ذكرى زواجنا الأولى أقتنتْ لي ساعة يد جميلة وغالية الثمن .. تمنيتُ لو إنها كانتْ منكِ أنتِ ..
مضى على فراقنا ثمانية آلاف وثلاثمائة وخمسة وتسعين يوم .. وهو اليوم الذي بلغ فيه ابني البكر الرابعة عشرة .. اسميته كما أتفقنا .. يهوى الرسم مثلكِ إلا إنكِ لم تكوني أمه ..
عمري في هذه اللحظة ستة وخمسون سنة … مضى على فراقنا اثنان وثلاثون عاماً…
اليومُ عرسُ ابنتي والتي أسميتها على اسمكِ ليتسنى لي تدليعها كما فعلتُ معكِ ..
أصبحَ العرسُ حديثَ الناس .. لكنني شعرتُ كأنني في قاربٍ ممزقُ الشراع لا يأتي ولا يذهب يتأرجحُ الوقتُ معهُ وسط البحر .. فرحتي لمْ تكنْ مكتملة لإنكِ لم تكوني أم ابنتي ..
حَملتُ حقيبتي وأدوية الضغط والسكر وحفنة من الذكريات .. سافرتُ إلى مدينة البندقية .. المدينة التي لطالما حلمتِ برؤيتها .. زرتُ أماكن كثيرة فيها .. إلا أنكِ لم تزوريها معي ..
البارحة أتممتُ عقدي السابع .. بدأ الليل يسترق السمع معي لأحاديث النجوم .. إلا إنكِ لم تكوني معنا لتستمعي ..
هل لكِ تخيلُ حجمَ الفرح الذي أجتاحني والدهشة التي أستحوذتْ عليّ حين علمتُ أن عروس ابني هي أبنتكِ الصغرى .. لقد كانتْ تشبهكِ بكلِ التفاصيل .. ابني أيضاً كان فريداً في حبه لها ..
في ليلةِ عُرسْهُما .. كلُ شيء يبعثُ على البهجة .. كأنها ليلة من الف ليلة وليلة إلا إنكِ لستِ حاضرة فيها ..
قد أخبروني أنكِ توفيتِ منذُ خمسة أعوام بمرضِ السرطان …
مضى على فراقنا عمرٌ توقفتُ فيهِ عن كتابةِ القصائد لأنكِ لنْ تقرأيها .. لمْ أعدْ أطربُ لسماعِ الموسيقى لإنكِ لنْ تشاركيني الرقص على أنغامها .. لمْ أعدْ أفهمُ أغاني الطيور لإنكِ لستِ هنا لتترجمي لي ما تقول ..
منذُ عشر أو عشرين .. ثلاثين سنة .. أدركتُ أنني لمْ أعدْ من هناكَ حيثُ لمْ أكنْ هنا أبداً .. أحتسي بغيابكِ وحدتي دفعة واحدة .. مضيتِ في طريقكِ إللانهائي وتركتِ الكوابيس تباغتني دون رحمة كل ليلة ..
كَتبتُ هذهِ الرسائل بخطِ يدي وأحتفظتُ بها في الصندوق الذي أهديتني إياه .. مع الكتبِ الثلاثة وقلمكِ السحري المعطر وولاعة السجاير التي محفور عليها حروفُ اسمكِ ..