قصة قصيرة بقلم خليل أوصمان:《العبور إلى الضياع》

 

 إلى الأجساد التي صارعت الأمواج العاتية ، والأرواح التي عانقت السماء الصافية … اندثرت آماله وتحطمت أحلامه وهو لا يزال في ربيع عمره ، هذه الحرب الهوجاء قضت على كل شيء ! مدرسته

غدت خرابا” !… الحديقة التي كان يقود فيها دراجته أصبحت أطلالا” ! وأشجارها نسفت المقولة التي تدعي بأن الأشجار لاتموت إلا واقفة ! . يا لخطايا هؤلاء البشر الذين تكالبوا على بعضهم وجعلوا من

حياتهم جحيما” وكأنهم يريدون الساعة أن تبدا قبل أوانها ؟. أما هؤلاء الغرباء والذين جاؤوا من كل أصقاع الدنيا ، و مروا بمدينته فهم ظاهرة أخرى تثير في النفس شعورا” بالإحباط ، ألم يجدوا غير هذه

المدينة ليجعلوها مسرحا” لأحلامهم الغوغائية ؟! كان لا بد له من البحث عن الأمل والحياة في مكان ما ، بعيدا” عن هذه الأرض الغارقة في دوامة الموت والدمار حيث الحجر والبشر في سباق محموم نحو

الأفول . وجد ضالته في القارة العجوز والتي فتحت ذراعيها لأمثاله الهاربين من أتون الحرب … وأد طفولته بيديه وطمرها برمال وطنه ، وترك كل شيء هناك للأبد . وصل إلى شاطئ آخر مدينة في

الشرق ؛ ليبدأ بالبحث عمن يتكفل بإيصاله إلى بلاد الإغريق ، وبعدها يتابع مشواره إلى المجهول الذي ينتظره وراء البحار . هناك كان في انتظاره ( زورق الليل) والذي لا يشبه أي زورق آخر ، إنها الوسيلة

الوحيدة ليعبر به إلى مصيره … على الشاطئ شعر بالرياح الأبدية تلفح وجهه وهو يرى الأفق الأسود في الجهة الأخرى في مشهد قاتم لا يتكرر … صعدوا إلى ما يسمى بالمركب ، تعالت أصواتهم رغم
تنبيهات قبطانهم … ثم ساد الهدوء وبات الصمت أكثر رهبة ، لولا تلك الفتاة الصغيرة وصراخها بين الحين والآخر وهي ترتجف رعبا” مما هي فيه ، وقد استفرغت ما بداخلها في مياه البحر …! كان الظلام
الدامس يحيط بهم من جميع الجهات و هم على جنبات ذلك المركب الهلامي اللعين الذي حمل بما لاطاقة له من البؤساء . بدأ يسير بهم ببطء في عرض البحر و يتجه شيئا” فشيئا” نحو جزيرة الأحلام . يا
لها من لحظة انعطافية في حياته القصيرة إنه يحياها ولا شي غير ذلك … في ليلة يغيب عنها القمر كان البحر يبدو أمام عينيه هائلا” لا نهاية له … بقي صامتا يراقب أمواجها ويشم رائحتها ، في تلك
الأثناء كان يرتل في سره وهو ينشد النجاة لروحه ، إنها لحظات ستبقى كومضة في ذاكرته المنهكة… شعر بأن هناك طريق طويل أمامه كي يقطعه أو هكذا خيل إليه . كانت جميع العيون التي
تحيط به تجود بدموعها …؟ صاح في أعماقه آه ما أشد الظلام أمام عيني وما أضيق الدنيا في وجهي …؟ في تلك اللحظات بدأ يشاهد شريطا” لحياته منذ أن فتح عينيه على هذه الدنيا ، طفولته ألعابه

أهله وكل البشر الذين أحبوه … ما أشبه حياته هذه بزخات المطر التي تجففها الرياح الشمالية ، كما

كان يحصل في شتاءات وطنه … طالما كان يحلم بالوصول للطرف الآخر من العالم ورؤية ذاك المشهد الذي كان يشاهده على التلفاز مع والده في أمسيات الشتاء وهو يستمتع بالدفء والأمان في عشه ،

مشهد (أخيل وهو يصرع هيكتور على أبواب قلعة طروادة) في اسطورة طالما أعجبته رغم سنين عمره الضئيلة آنذاك . يا لهذه الرحلة التي تشبه السكرة عندما صحا منها كان الليل قد غمر كل شيء
بأمواجه القاتمة . ولكن دائما” أحلك الأوقات هي التي تسبق شروق الشمس … فلكل شيء نهاية ، ورحلته المصيرية أوشكت على النهاية ! أطلق أحدهم صيحته : ها قد وصلنا ! أرتطمت أحلامه بصخور

تلك الجزيرة النائية والتي كانت تخلو من أي مظهر للحياة ، ولم يتفاجأ كثيرا” وكل ما رسمه في مخيلته من صور لم يحدث منها شيء … أما فرحته بالوصول إلى بر الأمان فهي أيضا” لم تكتمل .

فأخبار ( آلان ) كانت تملىء الدنيا وهو يرسم بصمته الأبدي على ذلك الشاطئ الحزين ، الصورة المقيتة للبشرية جمعاء … ومما زاد في ضياعه تلك النبرة الخانقة التي سمعها عبر جواله من أبويه وهما


يحثانه على المثابرة والثبات بينما قلوبهما تدمعان … وها هم قد بدأوا بالاحتفال كل على طريقته : فمنهم من أذرف الدموع دون أن يميز أهي دموع الفرح أم دموع الحزن ؟ ومنهم من أطلق صوته

بالغناء … يا لهيئتهم المذرية … أما هو فقد ارتمى بجسده النحيل على الأرض وهو لا يستطيع مقاومة رغبته بالخلود للنوم ، و الذي غاب عنه منذ أن بدأت تغريبته هذه … غرق في سبات عميق إلى

أن سمع صوت أمه وهي تنادي : يا بني استيقظ لقد تأخرت عن مدرستك !… ولكن في هذه المرة حتى استيقاظه كان حلما” !!! في تلك اللحظة كان البحر والأرض يتصارعان لابتلاع كل ما عليهما ويؤكدان بأن

كل شيء في هذا العالم فان ! ولأول مرة منذ إنطلاقته أحس بنفسه سائرا” إلى الضياع بلا إرادة ، أحس بأن مقاومته تتلاشى رويدا”رويدا” …. وتنتهي …!