قصة قصيرة بقلم الكاتبة العراقية فوز حمزة … البوابة …

مرتْ عشرُ دقائق منذُ أنْ تمَ إيقافهُ في مخفرٍ للشرطةِ دون أعلامهِ بالسبب .. أجترتْ ذاكرته أحداث اليوم السابق والأسبوع الماضي بلْ جاهدَ أكثر ليتذكر ما حصلَ الشهر الفائت .. استحضرَ صور كلَ الأشخاص الذين تحدثَ معهم .. كلَ الوجوه التي قابلها .. رددَ مع نفسه الأحاديث التي تبادلها مع الأخرين علهُ يعثرَ على شيء يدينه .. لكنْ مافعلهُ لم يأتِ بنتيجة .. فلا شيء ذو بال قد حصل رغم إنه في قرارةِ نفسهُ تمنى لو شيء ما بالفعلِ صدرَ منهُ يستحقُ العقاب عليهِ بهذا الشكل المهين ليهدأ قليلاً ويبعدَ عنهُ شعورَ الظلم والذي لم يكنْ يقلُ وجعاً من الصداعْ الذي ألمَ بهِ جرّاء هبوط السكري عندهُ في الدم .. مدَ يدهُ في جيبِ سترته وأخرجَ حبات تمر يابسة .. شعرَ بعدَ أبتلاعها كأنهُ يعانقُ الحياةَ ثانيةً .. بحثَ في جيبهِ عن ما تبقى إلا أنه تراجعَ ليحتفظ َبها للساعاتِ القادمة .. فلا أحدَ يستطيعُ التنبأ بما سيحدثُ .. شعرَ بتوازنهِ يترنحُ تحتَ ثقلِ جسدهُ .. رائحة العفن المنبعثة من الفراشِ لم تمنعهُ من الأستلقاء عليهِ .. في هذا المكان لامزيد من الخيارات .. ردد هذه الكلمات وهو يحدقُ في النافذةِ القذرة أعلى الجدارِ والتي أكتستْ بطبقةِ غبارٍ سميكة كانتْ كافية لتمنعَ مرورَ أشعة الشمس من خلالها .. أغمضَ عينيهِ محاولاً الأسترخاء مانحاً الصداع عذراً ليرحلَ لكنْ الأصوات العالية القادمة من عالمٍ آخر مليء بالغموض والغرابة هي التي أستحوذت على أهتمامه .. سمعَ وقع خطوات تتجه نحوه .. أقتربتْ أكثر حتى شعرَ بأنفاسِ صاحبها .. فتحَ عينيهِ في وجهِ شابٍ ملتحٍ أنحنى يتفرسُ في وجهه قائلاً: – هل أنتَ بخير ؟ نظر إليه بكل الدهشة التي يمتلكها قبل أن يرد عليه: – لا أدري .. لكنْ كيف دخلتْ .. لمْ أشعرَ بكَ !! – أنا في السجن قبلك .. لكنك لم تنتبه لوجودي .. ما تهمتكَ ؟؟ أعتدلَ في جلسته وبعد أن دس حبة تمر في فمه .. أجابه: – ليتني أعرف .. تفاجأتُ بهم وهم يلقونَ القبض عليّ أمام طلبتي في الجامعة .. – أنتَ معلم في الجامعة ؟ أنشغلَ عن الإجابةِ بالنظرِ إلى قميصِ الشاب المتعرقِ والمنبعثةِ منهُ رائحة أبطيهِ وجسدهِ لتختلطَ مع رائحةِ السجنِ العفنة .. شعرَ برأسهِ مثقلاً بأفكارٍ يلفها الضبابُ والأرضُ ظمأ كما جسدهُ الآن .. أخرجهُ مما هو فيهِ صوتُ الشاب يسألهُ ثانية: – ماذا تُعلمْ ؟؟ – أنا أستاذ مادة التاريخ في الجامعة .. التاريخ السيا .. فجأة .. ألتمعتْ عيناهُ وكأنهُ تذكرَ شيئاً .. – ماذا بكَ .. لماذا سكتَ ؟؟ – تذكرتُ شيئاً غاب عن بالي .. حين ألقوا القبضَ عليّ .. كنتُ أحاضرَ عن التاريخ المزيف الذي درسناه ونحن الآن نُدرّسهُ بدورنا .. عنْ كلِ الأكاذيب التي أجبرنا على تصديقها .. عنْ الأوهامِ التي نَثرتْ رؤوسْنا بالرماد .. كنتُ أقولُ لطلبتي .. مهما جاهدنا للوصلِ إلى جزيرة الأمان سَيعيدنا التيار ثانية للغرق مادمنا لا نغير وسائل الإبحار .. وإلا فأننا كمنْ يحاولُ النجاة وسط رمال متحركة .. حتى أنني تذكرتُ كلمات أحد الطلبة عندما قال لي .. نعم يادكتور .. فالعطشان يرى كل ماحوله ماءاً بينما غير السراب لا يحيطُ بهِ .. ألتفتَ نحوَ الشاب الذي ألتزمَ الصمتَ وألجمتهُ الحيرة لكلامِ محدثه الغريب ليسأله : – لماذا أنتَ هنا ؟؟ – مشاجرة مع أحدهم .. – كم مضى عليك وأنت في السجن ؟؟ – أنا هنا منذ سنتين .. أنتظرُ المحامي لإنه الوحيد القادر على تخليصي مما أنا فيه .. هكذا قالوا لي .. البارحة أخبروني أن اليوم هو موعد زيارته .. لقد تأجل الموعد لأكثر من مرة .. تنبه الاثنان لصوت باب الزنزانة وهو يفتح من قبل الحارس الذي كان يحمل صينية الأكل .. وبعد أن ناوله الطعام .. قال للشاب مبتسماً .. – لقد أخبروهم وهم بدورهم أخبروني لأخبرك بدوري إنَّ الغدَ سيشهدُ حضورَ مخلصكَ .. سَتنالَ العدلَ الذي تنتظرهُ .. ذهبَ الكثير ولمْ يتبقْ إلا القليل .. فقط ألتزمْ الصبر و .. ا .. ل .. ه .. د .. و .. ء .. صوتُ الزنزانة وهي تُغلق أخبرته ربما هو يرى كابوساً ولكن ستتم أعادته كل يوم .. رغمَ الحزن الذي تسلقَ ملامحه للخبر الذي سمعه لكنْ سرعان ما أعتلاه الأمل مجدداً ليرددَ مع نفسه .. نعم ذهبَ الكثير .. ذهبَ الكثير .. مع ذلك فعامان وقت طويل .. لكن سينتهي كل شيء بحضور المحامي .. بحضور المنقذ الذي سيعيد لي حقي ويرفع الظلم عني .. آنذاك سأنسى كل ماجرى لي في السجن !! في تلكَ الحظة .. وهو ينظرُ للشاب .. شعرَ إنَّ كل فكرة من أفكاره ماهي إلا محاولة لمصافحة مارد جبار حول معصميه طوق من نار .. بلْ شعورٌ عميق بالغباء ترسخَ داخله لإنه ظنَّ إنهُ سيتمكنُ من ملامسةِ السماءَ بينما هو يقفُ على رؤوسِ أصابعهِ .. جَالَ ببصرهِ في جدرانِ السجنِ المثقلة بظلالها والتي أخبرتهُ ساخرة أنتَ وتاريخك الذي درستهُ سجينان زنزانة واحدة .. فقدَ الرغبةَ في الحديثِ لأنَّ كلماتهِ في تلكَ اللحظة وقفتْ في ثنايا أسنانهِ المتكسرة .. وهو يَلتهمُ آخر حبة تمر وجدها في جيبه .. نظر إلى الشاب الذي حمل صينية الأكل ليقبع في الزاوية البعيدة يتناول طعامه ونظرة تأمل نابعة من عينيهِ وابتسامة خفيفة ارتسمتْ على وجههُ بينما الحزنُ يقفُ على مشارفِ قلبه .. رفعَ رأسهُ إلى النافذةِ العاليةِ التي سمحتْ لخيطٍ رفيعٍ من الضوء يخترقُ بصمتٍ وشفافية العتمة التي تفصل بينه وبين رفيقه .. نورٌ مفعم بالفضيلة لكنهُ عاجز عن تبديد الظلمة .. رددَ مع نفسه: البحرُ يقلصُ شواطئه ونحنُ لا نزالُ نبحرُ بزوارق من ورق !!!!! ٠