سوريا:بقلم: دجوار أحمد آغا/الثورة المجتمعية بين اليمين واليسار

 

المعارضة الحقيقية الآن والموجودة في شمال وشرق سوريا تتمثل في تنظيم سياسي مفتوح و موجهة الى قواعد شعبية واسعة ومدعوم من تنظيمات مهنية ونقابية الى جانب كونها ذات أيديولوجية واضحة و صريحة تهدف الى احداث التغيير الجذري في بنية المجتمع والنظام . هي ليست كما القوى المعارضة السابقة عبارة عن جماعات إصلاحية ليبرالية تعمل من أجل الحصول على بعض المكاسب و الإمتيازات من النظام القائم مع إجراء بعض الإصلاحات الشكلية . هذه المعارضة الحالية أخذت بعين الإعتبار التوجه الى المشكلة الإجتماعية و رسمها بدقة في سياساتها الراهنة و المستقبلية , الى جانب الحضورالجميل و اللافت للأقليات الدينية و الإثنية ولو بشكل خجول كجماعات مشاركة في اتخاذ القرارات و تحديد المصير المشترك .

التمهيد لتسييس قضية الأقليات والطوائف في ظل الدولة الوطنية هي سياسة تبنتها قوى الإنتداب قبل عصر الكفاح من اجل الاستقلال ( الضباط الكرد الموجودون في كلا من الجيش السوري – الجيش العراقي نموذجا ) .

أول ضابط قام بإنقلاب عسكري في العراق كان كردي يدعى بكر صدقي 1936

كان لإنقسام العالم بين هيمنتين هما الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي  ومن ثم إستبدال النفوذ البريطاني بالأمريكي حيث اصبح يعرف فيما بعد باليمين و اليسار و الذي إنعكس بدوره على كافة القوى المحلية و الإقليمية و الدولية فمن كان يتبع أو يدور في فلك السوفيييت فهو يساري و من يدور في فلك الأمريكان فهو يميني حتى في مجال النكت الشعبية حدث ذلك خاصة في سبعينيات القرن الماضي حيث إنتشرت هذه النكتة في سوريا بين الأوساط الشعبية : ( يُقال بأنه كانت هناك ثلاث سيارات تسير في طريق وفيها ثلاثة مسؤولين أمريكي و سوفيتي و سوري , وصلت السيارات الى مفرق طرق فسأل كل سائق المسؤول الموجود في سيارته عن الجهة التي يتوجه إليها فقال الأمريكي نحن يمينيين توجه الى اليمين وقال السوفيتي نحن يساريين توجه الى اليسار و قال السوري البعثي أشعل غمازة اليسار و أدخل عالى اليمين ) .

كانت الأحزاب تسعى دوما للوصول الى الحكم ولم يكن هدفها أبدا توعية الشعب و تنظيمه أو تدريبه لكي يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه من خلال تنظيمه لنفسه و تشكيل لجانه المنبثقة عنه و التي يصادق عليها من خلال مجالسه , بل كانت تعمل هذه الأحزاب مجتمعة على وضع الجماهير – وعلى وجه الخصوص الكادحة منها – في خدمة أهدافها الطامعة في الوصول الى الحكم و السيطرة و الهيمنة و إستلام مقاليد السلطة السياسية و الإقتصادية و العسكرية و الإجتماعية وحتى القضائية بحيث يتم إستبدال حاكم أو حكم بآخر .

كانت معظم أحزاب السلطة ذات توجه يميني و الأحزاب المعارضة ذات توجه يساري , إلا في منطقة الشرق الأوسط التي كانت تختلف جذريا عن بقية مناطق العالم حيث إن معظم الحكومات في هذه المنطقة كانت تدعي اليسارية و أنها مع حقوق الشعوب و متعاطفة مع القضايا الشائكة ( مشكلة فلسطين نموذجا ) حيث نرى الكمالية في تركيا تتقارب بالشكل فقط مع القضية الفلسطينية وتكسب تعاطف ودعم العالم الإسلامي لها , وكذلك في العراق و سوريا يوقع البعثيون اتفاقا استراتيجيا مع السوفييت وايضا مصر واليمن و افغانستان التي وصلت الأمور فيها الى حد التدخل المباشر عام 1979 وكانت هذه الحكومات تقمع في الوقت نفسه معارضيها الحقيقيين وتزج بهم في غياهب السجون و المعتقلات سيئة الصيت كقصر النهاية ونقرة السلمان في العر اق و تدمر العسكري و المزة العسكري في سوريا و سجن ديار بكر والعزيز و إزميت ومعتقل إيمرالي في تركيا .

السلطات الحاكمة أصبحت تعيش مواجهة حقيقية مع قوى معارضة ذات قواعد شعبية تطرح الحلول و البدائل للمسألة الإجتماعية . في عام واحد 1949 تم إعدام ثلاثة أقطاب معارضة من أقصى اليمين الى أقصى اليسار وهم كلا من حسن البنا مؤسس الإخوان المسلميين في مصر و أنطون سعادة مؤسس وزعيم الحزب القومي السوري الإجتماعي في لبنان وسوريا و يوسف سلمان الملقب ب فهد زعيم وقائد الحزب الشيوعي في العراق . قامت القوى المعارضة وقتها بمقابلة العنف بالعنف وإزدادت معدلات الإرهاب و الإغتيالات الفردية و الجماعية من الطرفين على حد سواء منها مثلا إغتيال رئيس وزراء مصر أحمد ماهر 1945 – القضاء على جمهورية كردستان الديمقراطية في مهاباد و إعدام القاضي محمد 1946 – الإنقلاب على حكومة محمد مصدق المنتخبة في إيران عام 1953 – إغتيال كمال جنبلاط في لبنان بعقلين 1977 – ….  الخ .

يُعلق محمد جابر الأنصاري على ذلك بقوله :

” .. وعندما تنتشر ظاهرة عنف في مجتمع ما و تتوسع , فإنها تجلب معها ظاهرة إستقطاب و إنشطار , حيث يسود صراع الأضداد – طبقيا وفكريا وحضاريا – تنقسم الأشياء في ثنائية حاسمة محددة واضحة … غير أن ظاهرة العنف وتوأمها ظاهرتا الأستقطاب و الإنشطار تمثلان خطرا كيانيا تجاه أي مجتمع توفيقي أو حضارة توفيقية ”

الأنصاري   تحولات الفكر و السياسة في الشرق العربي 1930 – 1970 الصفحة 200

عندما فشلت الفئات الحاكمة في إضعاف المعارضة و القضاء عليها , خاصة مع تصاعد التيار الديني و اليساري و الذين كانا قطبي المعاضة , لجأت الأنظمة الى سياسة إنشاء الأحزاب اليمينية المتطرفة ودعمها  بإمتيازات إستثنائية و كذلك العمل على شق وحدة قوى المعارضة وفرض الأحكام العرفية و ممارسة الإضطهاد السياسي و القمع الجسدي وصولا إلى حد القيام بإنقلابات عسكرية ( إنقلابات البعث في سوريا و العراق و الجونتا الفاشية في تركيا نموذجا ) . القاسم المشترك لهذه الإنقلابات العسكرية كان حدوثها إما بتمويل وتخطيط من جانب الإمبريالية أو حصولها على دعم مباشر أو غير مباشر و مباركة علنية أو في السر من جانب القوى الأمبريالية المهيمنة في العالم  .

إن الإرهاب المنظم للدولة و مأسسة العنف المسلح لقوى المعارضة و التي خرجت بالأساس من رحم الدولة و إنشقت عنها في معظمها , قد نجحت بالفعل في إفراغ العملية السياسة من المعارضة المنظمة صاحبة مشروع بديل يُعبر عن طموحات وأهداف الغالبية العظمى من الناس التي قامت و إنتفضت في وجه السلطات الحاكمة مطالبين بالعيش بحرية ولكرامة .

ما هو البديل إذا ؟ !  كان البديل يتخمر و ينضج في ظروف بالغة التعقيد , في ظل إنهيار القيم المعنوية لدى المجتمعات و بروز كبير وجلي للقيم المادية و المكتسبات الشخصية , كان لا بد من العمل و بشكل مكثف على كافة الأصعدة السياسية و العسكرية و الإجتماعية والإقتصادية و غيرها للحفاظ على مجتمعاتنا من الإنهيار و فرط العقد و إمنتهاء كينونتة , و بُذلت جهود جبارة وقُدمت تضحيات هائلة وكان أن ظهرت المعارضة الحقيقية هنا في شمال و شرق سوريا متمثلة بالقوى السياسية و المجتمعية التي عقدت ميثاق إجتماعي فيما بينها كافة المكونات العرقية و الدينية و المذهبية من أجل العيش المشترك و الكفاح المشترك وفق مبدأ فكر الأمة الديمقراطية التي كتبها المفكرعبد الله أوجلان متوجها من خلاله الى كافة شعوب العالم والشرق الأوسط خاصة لتنظم نفسها و تتكاتف و تتحد في سبيل تحقيق أهدافها المشروعة في العيش بحرية وكرامة فوق تراب وطنها .

قامشلو  6 / حزيران / 2020